محمد خضير يكتب عن رحيل الفنان العراقي الكبير كوكب حمزة
محمد خضير
محمد خضير يكتب عن رحيل الفنان العراقي الكبير كوكب حمزة
في يومٍ بعيد، ليلةٍ من نهاية العقد الستّيني، ارتقينا، مجموعة، السلّمَ، لغرفةٍ في فندق على حافة ساحة أمّ البروم بالعشّار، يسكنها كوكب حمزة، وكانت واحدة من محطّات سكنِهِ الكثيرة، صغيرة وفقيرة، لكنّ “نجمةً” بزغَت في استقبالنا من أوتار العُود بحضنهِ، رحلت بنا إلى أقصى السماء. كان كوكب آنذاك يجرّب بروفة الأغنية الشهيرة التي سيغنّيها حسين نعمة فيما بعد، ويُخرجِها من تلك السماء الضيّقة إلى رحاب الدنيا، دنيا الغربة التي ستسبق كوكب حمزة أيضا إلى أبعد البلدان.
كنا مجموعة، ثلاثة أو أربعة، لا أتذكر منهم غير عبد الرحمن طهمازي، ضمّتنا غرفة الفندق الصغيرة، حين دعانا الملحّن الشابّ لكي نشاركه تجربة الاختيار الدقيق لفضاء أوسع للأغنيّة. عزفَ اللحنَ مرّات، ثم ترقّب تأثير المطلع الغريب على أسماعنا. اللحنُ غريب، والكلمات_ كما كتبها كاظم الركابي_ تأخذ السمعَ والبصر إلى أرق المُناغيات النسويّة “دادة”. في ذلك الوقت كان الاستماع لصوت كوكب المتطوّح، دعوة للانغمار بحنين لشيء مفقود، لم يعلم أحد منا كيف يستدلّ عليه أو يتثبّت من حقيقته. إذ لم يكن النغم غير “قنطرة” ممتدّة على مرتفع مرصّع بالنجوم، كما بالمخاوف_ النظرة العالية التي ترى الواقعَ الأسفل وتدعو لاكتشافه، قلبياً وفجائياً، بإحساس فرديّ ولسان شعبيّ_ وربما هذا ما كنا نفتقده حقا: التوفيق بين الوعي الثقافيّ المتعالي والحسّ العام المرتجَل في أغنيّة قلبيّة!
بالطبع، ولحرارة اللقاء، كان الحوار تثاقفياً، بعيداً عن الحسّ الفطريّ الصريح، هذا الذي سيجسّده أداءُ حسين نعمة، ويضبط اقترانَ مُناغاته الحسّيّة ودرجاته النغميّة ضبطاً جمعيّاً. ستدلّ الأغنيّة_ تطويحات كوكب حمزة الصوتيّة_ على الحيرة والفقدان لقلوب هدّها انكسارُ الأفق التاريخيّ، وعذّبها ضياعُ الحبّ والمؤاخاة الوجدانيّة. وكان اللسان مجروحاً بالكلمات التي لا يمكن نطقها إلا بشقّ الانفس، بل بشقّ الأثواب_ دلالةً على صعوبة الحوار والتفاهم بين الأفراد والجماعات، واستعدادها لجولة أخرى من التناحر والشقاق_ أعني جولة نهاية الفترة الستينية بالعام ١٩٦٨ وابتداء عهدٍ ثانٍ من الحكم السياسي.
لم نفهم تماماً ما ستؤسّس له أغنيّةُ “يا نجمة” من تطويحات عميقة في حنجرة كوكب النغميّة_ هذه القريبة من عهدنا، بعد سلسلة من التطويحات لعقود تاريخيّة أبعدَت كوكب حمزة عن درجته الزمنيّة الاولى_ درجة الانتماء والالتزام الأيديولوجيّ الموثّق بهويّات جماعيّة مهاجرة كالطيور. لم يستطع قفصٌ ما استيعابَ الرفرفة الوجدانيّة، الممتلئة حنيناً لشيء مفقود، أو حبسها في مكان واحد، غرفة صغيرة في فندق_ فمَن يستطيع حبسَ طائر يتقدّم سربَه الجانح إلى وادٍ بعيد، غابةِ الاسرار والمغامرات اللحنيّة المرتفعة فوق النجوم!
ليلتَها، ليلةَ النجمة الساطعة، كان كوكب مريضاً، وتبعناه إلى صيدليّة خافرة في سوق الصيادلة، تقع في نهاية السوق المعروف أيضا بسوق الهنود، حيث سيبوح فنّانُنا المريض بسرّهِ للصيدلانيّ الخافر، وكان هذا الرجل يجهل شخصيّة هذا الكوكب الجرئ_ كان مرض كوكب من النوع الذي اشتُهِر به ضحايا الاحتلال الاستعماريّ الأول للعراق، ولم يخجل كوكب من مصارحة الرجل بمرضهِ الخاصّ. دُهِشنا قليلاً_ نحن مرافقيه_ لتلك المُجاهَرة المَرَضيّة، ثم استعدنا هدوءنا بعد استرجاع جوّ الغرابة الذي أحاط لقاءنا الأول في غرفة الفندق، وسماعنا لكلمات المُناغاة النسويّة وإفصاحها عن رغبات مفضوحة. لم يكن مرضه نادراً، بل كان طبيعياً حتى الدرجة التي يتّحد فيها الجموحُ مع الطموح الشبابيّ، وشقُّ الأثواب مع افتضاح العقل المتعالي على بؤس الواقع والحياة المتأرجّحة بين النجم والحضيض!
بعد لقاءات قليلة، في أماكن متفرّقة، لم أعُد أنسب كوكب حمزة لغير تلك السَّحنة الممتقعة لوجه يكاد يتلظّى بإحساس المرض النادر والخاصّ جداً_ وقد يرتبط بكلمةٍ يجب مدُّها وتلوينها لتناسب نغماً مُطوِّحاً حتى الإعياء والانطفاء الجسديّ. كانت روحه تتبع فطرةً صوتية، آهةً تأبى أن تتلبّس اللحظةَ المغنّاة وتتشكّل بيسر وهدوء. كانت اللازمة المتكرّرة لأيّ مقطع غنائيّ، تنوح نَوح الحمام، حمام “القاسم” حيث “الدادات” اخترنَ له اسماً يناسب شخصيةَ أنثى، عزَّ نوالُ ولادتها، بدلَ الولد الذي سيجمع معاً النّغمةَ والنّغية، الرّقةَ والجموح، القلبَ والعقل، الإرادةَ مع الخذلان. تطلّعوا جيداً في سَحنة كوكب الرقيقة/ الواشية بشوق الحمام، واخرجوا منها بهويّة واحدة: هويّة الرجل الذي وُلِد في ظلّ مُناغياتٍ نسويّة كتيمة!
ثم افترضوا قاسماً مشتركاً لمُغنّي/ مُلحّني الأوقات الوطنيّة الغاربة، وابحثوا في الصوت المُطوِّح لواحدٍ منهم_ ليس كأيّ شخصٍ منهم_ عن عَرَض خاصّ بروح عليلة، من أخصّ أوصافها انتماؤها إلى هويّة “المريض العراقيّ” الذي قلّما يبوح بسرّه، لكنّه يشمل الناسَ_ كلّ الناس_ بدلالة شعورهِ الحسّيّ العميق بجرح وطنه السرّيّ!
إنّه الجرح الذي أفاضَ السَّماعيّون في وصفه لدى المغنّين، الصوتُ الملعلِع في ليل الطغاة_ الملكيّين والإقطاعيّين والمتعسكرين_ وقد نتتبّع أمثالَه عند المغنّين الراحلين مسعود العمارتلي وداخل حسن وحضيري أبي عزيز_ الجوقة التي تترقّب سطوعَ النجوم العالية/ أو إنّ النجوم تترقّب بعلوّها أفولَ المغنّين أسفل منها.
لن تتكرّر أسطورة الحناجر الآفلة تحت ضوء النجوم، لكنّنا قد نكتشف_ فترةً بعد فترة_ وجودَ مَن يشعر بمرض أصحابها الخاصّ، ذلك لأنّه من نوع المرض المستوطِن، العائد بأعراضٍ مختلفة، تتراوح بين امتقاع السَّحنات ولوعة “الدّادات” المختفيات بزيّ الرجال. إنّه مرضُنا جميعاً_ وأكاد أقول إنّه تطويحتُنا الطويلة_ نواحُنا في الليالي، ساطعة النجوم!