كيوكو: موسم حصاد الأحلام
محمـد رضا
كعادته، يؤلّف المخرج حميد بن عمرة، في فيلمه الجديد «موسم حصاد الأحلام» فيلماً لا يمكن اعتباره عملاً من نوع مُعيّن. هو كل شيء سينما. هو ابتكار وفن وإبداع وتصوير مؤلّف من مئات اللقطات كل واحدة منها مختلفة عن السابقة لها وكل منها تليها لقطة غير متوقعة. كل منها لها تشكيلتان: واحدة بصرية والأخرى فكرية. ثم كل منها لها وجهان، وجه يقول شيئاً ووجه يوحي بأشياء.
«موسم حصاد الأحلام» هو عن ثلاث شخصيات تعيش في الفن لقمّة رأسها. الرسّامة اليابانية كيوكو والراقصة التعبيرية الفرنسية سيناي وعازف الغيتار والمغني الإسباني رودريغو. لكن في حين سيعمد معظم مخرجي الأفلام التي تدور حول الشخصيات إلى منهج من التقديم المنظّم والانتقال المخطط له مسبقاً ما بين واحد وآخر من هؤلاء، يتعامل المخرج بن عمرة مع شخصياته من منظور أفقي يتّسع للثلاثة على نحو متكافئ وشامل ومن دون الاعتماد على خطة من نوع «والآن نعود إلى هذا أو ذاك».
الرسّامة اليابانية هجرت وهاجرت إلى فرنسا مع زوج لها ولم تعد تتحدّث اليابانية منذ ذلك الحين. أهو رفض للماضي ورغبة في الحاضر؟ أم هو معايشة للأنا في منتصف اللحظة الفنية والذاتية؟ الراقصة ليس لديها هذا الشاغل. تقول للكاميرا إنها تجد نفسها في المكان وتحب أن ترقص للناس. ليس الرقص الشائع، بل ذلك الذي يمتزج فيه الجسد بالمقطوعة الموسيقية بحيث يصبح مستحيلاً الفصل بينهما. الموسيقى هنا لا تنشد الرقص على الإيقاع (كما الديسكو) بل الرقص على الأحاسيس العميقة.
بدوره يجد المغني والعازف رودريغو حياته في غيتاره. يتحدث عن نفسه وفنه من خلال موسيقاه.
يقول في أحد المشاهد إنه ليس صحيحاً أن هناك نغماً جيداً ونغماً رديئاً «الموسيقى هي كل شيء». وإنه حال يعزف على الغيتار فإن كل شيء يصبح ممكناً.
هذا ما يتولّى الفيلم توفيره حول الثلاثة على مستوى أول. بعد ذلك، ومع إعادة تكوين المناسبات التي تظهر فيها هذه الشخصيات وفي الأماكن التي تظهر فيها، يستلهم المرء مستويات أخرى. يتلقف شعر وعذوبة حياة كل منها. يتعامل مع الشخصيات كما يتعامل معها المخرج تماماً: مواد مصوّرة كل ماّدة منها هي فعل اليد والبدن (رسم، رقص، عزف) وفعل النفس التي داخل الصدر. هذه تطلق من داخلها إبداع الفنانين وتفرّدهم.
هذا ليس كل شيء. هناك أساساً الكيفية التي يتعامل بها المخرج مع هذه المكوّنات وما ورائيّاتها. يصوّر القطارات (لأنه يحب سماع صوت تكتكة محركاتها التي تذكره «بدقات عقارب الساعة قبل النوم») ويصوّر الماء (بحراً ونهراً) مرّات ويصوّر المدن وانعكاس المدينة على النافذة وبالتالي على ذات من ينظر إليها.
حين يقول المخرج، على سبيل المثال، «ذلك القطار الذي يشبه الثعبان الحديدي» يتبع العبارة بالقطار يتحرك كالثعبان. ليس عبر مؤثرات خاصّة (ممنوعة في أفلامه)، بل بتصوير الجسر الذي يسير القطار فوقه، وهو يرتفع وينخفض حسب «درابزين» الجسر الذي يعلو ويهبط تبعاً لهندسته تماماً كما لو كان أفعى كبيرة تسعى.
يصوّر بن عمرة نفسه مستمعاً وناظراً بضع مرّات، لأن الفيلم الجيد ليس جيداً فقط بما يصوّره، بل بذاتية من يصوّره ويصنعه. أما التعليق فبصوت زوجته الممثلة ستيفاني بالفرنسية وصوته بالعربية. وبينما تصف هي شخصيات الفيلم ومآلاتها، يصف السينما كما يعرف وكما يحب.
هذا حضور يُسجّل له كونه غير مقحم فوجوده في الفيلم يجعله شاهداً ويؤكد أن لا شيء لا يمكن تصويره بلغة السينما الفريدة بصرف النظر عن أساليب مخرجيها. في الوقت ذاته، لا يحتل المخرج إلا نطاقاً محدوداً من فيلمه. معظم العمل مصروف على المرأة ووجودها كحال أفلام المخرج السابقة «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» و«حزام» و«تايم آوت».
يستخدم بن عمرة موسيقى مرسيل خليفي وابنه رامي خليفي في اللحظات التي تستطيع فيها هذه الموسيقى زيادة شغف الفيلم بما يصوّره. كذلك يستخدم شعر محمود درويش في مطلع الفيلم ثم في أركان مختلفة منه في اللحظات التي يرمي فيها لربط شعره بالحنان صوب اليابان وعشق المخرج لها. ليس عشق سائح بل عشق فنان وتاريخ. في كلمة منه حول الفيلم يقول: «بذلك ربطت بين اليابان وفلسطين».
في كل ذلك، هو عمل آخر مبدع ولا مثيل له لا في السينما العربية وحدها، بل في السينما العالمية التي شاهد منها هذا الناقد كمّاً ضخماً. فيلمه، كما أعماله الأخرى، مؤسسة على الحركة في أشكال شتّى: هي حركة الشخصية الطبيعية وحركة الفن الذي تؤديه وحركة داخل الزمن المؤدّى كل ذلك فيه. عمل بديع لا يُنسى.