الحب الالهي ما بين الحلاج ورامون لول
د. حسين الهنداوي
ايها الطير الطائر!
لا اعرف لسانك، ولا تعرف لساني
فلماذا لا نتفاهم بلسان الحب
ما دام كلانا يلهج باسم المحبوب؟
قراءة “كتاب المحب والمحبوب” للفيلسوف رامون لول المكتوب في الاصل باللغة الكتالانية يقودنا على الفور الى الاستنتاج بان هذا الفيلسوف يستلهم شعر الحسين ابن منصور الحلاج والشعر الصوفي الاسلامي اجمالا في هذا النص الذي اراد له ان يكون بمثابة سيرته الصوفية. وهناك ايضا نصوص اخرى يؤكد من اطلع عليها بلغتها الاصلية انها تستلهم هي ايضا قصائد الحلاج الذي عاش بين عامي 244 – 309 هـ (858 – 922 م). لكن كيف اطلع رامون لول الذي عاش بين عامي 1235 و1313 على قصائد الحلاج في تلك الفترة من الحياة الثقافية لاوروبا الوسيطة والمظلمة؟
لنلاحظ اولا ان مؤلفات رامون لول ظلت مجهولة تماما في الاوساط الفلسفية الغربية حتى فترة قريبة وبشكل مستغرب رغم الشهرة الواسعة التي نالها كرائد لفلسفة الحب الالهي في الغرب المسيحي الكلاسيكي وكأحد اهم ثلاثة مفكرين عرفتهم اوروبا القرن الثالث عشر الميلادي الى جانب توما الاكويني في ايطاليا ودون سكوت في انكلترا. حيث ظل كتابه “الفن الكبير في الكشف عن الحقيقة” المكتوب باللغة اللاتينية في عام 1276 بمثابة المرجع الوحيد حول افكاره، في حين وجدنا ان الفترة ما بين صدور ذلك الكتاب ووفاة لول في 1313 هي الفترة الاهم في الخصب والنضج الفلسفي لديه. اما السبب الرئيس المباشر الذي وقف وراء اغفال مؤلفاته اللاحقة فيتمثل كما نعتقد بقيام البابا غريغوار الحادي عشر باصدر مرسوم كهنوتي بادانة الآراء الصوفية لرامون لول وبحظر تداول مؤلفاته ما كرس انصراف المهتمين والمترجمين عنها.
والحال ان لول الذي يلقبه الباحثون الآن بفيلسوف الحب الروحي، كان من نوادر الفلاسفة المسيحيين الذين تشبعوا بالثقافة العربية – الاسلامية فأحبها وانتمى لها كأحد ابنائها. فقد اندفع لتعلم اللغة العربية منذ شبابه واتقنها اتقانا مثيرا فراح يدرسها في الاديرة والمعاهد ثم قام منذ عام 1275 بتأسيس دير لتدريس اللغات الشرقية وخصوصا اللغة العربية. وقد توج ذلك بكتابة العديد من مؤلفاته الفلسفية واللاهوتية باللغة العربية مباشرة يأمل الباحثون ان يتم العثور عليها بعد ان اصبحت مفقودة تماما.
ولد رامون لول في جزيرة ماجورك الاسبانية في 1235 وسط عائلة برشلونية نبيلة مأخوذة بحب الثقافة الاسلامية التي كانت الاندلس اعظم مراكزها آنذاك. وبعد تلقيه التربية الدينية والاخلاقية المسيحية الاولى، تفرغ لدراسة اللاهوت والفلسفة حيث درس الفلسفة المسيحية ثم الاغريقية والاسلامية قبل ان يتفرغ كليا لدراسة التصوف الاسلامي بشكل خاص. وقد بلغ اعجابه وتوافقه مع منظورات الحلاج وابي بكر الشبلي وابن الفارض حدا دفعه الى الاعتقاد القوي بعدم وجود اي اختلاف جوهري بين الايمانين الاسلامي والمسيحي. هذا الاعتقاد دفعه تاليا الى تكريس سنوات طويلة من عمره شاجبا الحملات الصليبية التي كانت مستمرة في عهده وداعيا الى استبدالها بالحوار والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين من اجل “التوحد من جديد”.
ولتكريس ذلك راح يزور الجامعات الاوروبية وخصوصا في مونبلييه ونابولي وباريس ملقيا المحاضرات الطويلة حول منظومات الفلاسفة المسلمين ومظهرا حماسا للثقافة العربية اشار له حتى هيغل في دروسه حول تاريخ الفلسفة. ولم يكتف بذلك فقط انما جال بلدان العالمين المسيحي والاسلامي مقابلا البابوات ورجال الدين والملوك لاقناعهم بافكاره حيث زار بلدان المغرب ومصر وسوريا وروما وباريس مرارا في حركة لم يضع لها حدا سوى موته في 1313 متأثرا بجروح اصيب بها اثر محاولة لقتله بسبب انفتاحه الديني.
في “كتاب المحب والمحبوب” يبدو التأثر بالحلاج والشعر الصوفي الاسلامي جليا حتى في اختيار العنوان. الا انه يبدو اكثر جلاء في اسلوبه ومادته. وهذا التأثير يعلن نفسه منذ المقدمة مؤكدا استلهامه مناهج وكتابات المتصوفة المسلمين حيث يقول “تعرفت على هؤلاء المفكرين الذين يسمون بـ (الصوفيين) ويحظون بمكانة عظيمة لدى المسلمين وغير المسلمين، فوجدتهم ذوي كلام مفعم بالحب وعبارات جزيلة تغمر الانسان بمشاعر النبل والتقوى، وتقتضي منهجا ترتفع المدارك بفضله الى اعلى مراتب السمو مقرونة باعلى درجات التفاني الامر الذي دعاني الى تأليف هذا الكتاب مقتديا بهم”.
على صعيد المنهج بالمقابل يمثل “كتاب المحب والمحبوب” قسما من الفصل الخامس من رواية طويلة بعنوان (بلانكرين) كتبها رامون لول في مونبلييه بين عامي 1283 و1286. وما بلانكرين بطل الرواية، الا رامون لول نفسه، الشيء الذي يجعلها بمثابة السيرة الروحية للمؤلف. فبعد ان تتابع الفصول الاربعة الاولى من الرواية مراحل تطور هذه السيرة بدءا بالولادة فالتربية الدينية والاخلاقية فاكتساب النضج المعرفي فالروحي الذي يجسده التفرغ للعبادة والتأمل والزهد، يأتي الفصل الخامس والاخير ليقدم في قسمه الاول تواصلا نموذجيا لحياة المتعبد المنصرف كليا لله في حالة تفان صافية لا يعكرها شيء. وهنا بالتحديد يبدأ “كتاب المحب والمحبوب” دخوله في المشهد. ففي لحظة عليا من هذا التقابل بين العابد والمعبود، ترقى العبادة الى درجة تسام اعلى لتصبح محبة، وعندئذ يتسامى العابد والمعبود ليصبحا محبا ومحبوبا بالمعنى الصوفي ويدخلال في حوار مباشر يترجم حالة اشراقية تجتاز سيرورة تطورية باتجاه الاتحاد المطلق بينهما، سيرورة ثمرتها هذا الكتاب.
هذا الانتقال يوازيه انتقال في الاسلوب حيث يتوارى الاسلوب الروائي الاستطرادي والتعليمي للفصول السابقة تاركا مكانه الى ذاتية شفافة ورقة شعرية لا تمت للرواية بصلة، الامر الذي يوحي لنا بقوة بان رامون لول ألّف “كتاب المحب والمحبوب” بشكل مستقل تماما عن الرواية الاصلية او بالاحرى ان هذه لم تؤلف الا كإطار خارجي يحتضن “الكتاب” الذي يظل اهم ما في الرواية كلها. ففي هذا الكتاب فقط يضع المؤلف خلاصة عبقريته الفلسفية والادبية معا.
اما فنيا، فينقسم “كتاب المحب والمحبوب” الى 366 قطعة شعرية مستقلة، تخص كل واحدة منها يوما واحدا ضمن تسلسل ايام السنة المسيحية الميلادية. والقطع الشعرية صغيرة ومتقاربة الحجم، تتراوح بين ثلاثة وستة أسطر للواحدة، تتوالى بانتظام وفق سيرورة ينتقل “المحب” عبرها تدريجيا وبأناة نحو اجواء اكثر فاكثر سموا واقترابا من “المحبوب”، ومن هائم في الحب يدخل لول في حوار لا مباشر ثم مباشر مع ذات المطلق، ثم منتقلا الى حالة “اتحاد المحب بالمحبوب” التي هي حالى تماهيهما في الضرورة والامكانية، حالة تصبح ادوات المعرفة فيها معرفة هي ذاتها، ويتحد التناقض مع اللاتناقض.. وترفع الحجب..
وبكلمة، فاننا هنا امام نظرية في الحب الالهي بالمعنى الصوفي الاسلامي لهذا المفهوم. لكن الى اي حد نستطيع مقارنة نظرية لول بحلولية الحلاج او اشراقية السهرودي او وحدة الوجود لدى ابن عربي؟
من الصعب الجزم بجواب شاف ونهائي على هذا الاستفهام المعرفي المعقد. بيد اننا لا نتصور ان رامون لول بلغ او تبنى المضمون الخاص بأي من النظريات اعلاه. فمنظومة الحب الالهي عنده تظل، روحيا وفلسفيا، اقل تماسكا وعمقا وجرأة بالمقارنة مع اي من مثيلاته لدى قمم الحب الصوفي الاسلامي تلك وغيرها. الا ان اهم عناصرها تمتلك امتدادات واضحة في نظرنا لدى جوانب من فكر ابي منصور الحلاج كما لدى ابن الفارض وبعض متصوفة الاندلس وشمال افريقيا. فمن جهة نلاحظ فيها غلبة الدفقة الشعرية والوجدانية والعاطفة الجياشة على اي جانب آخر. ومن جهة اخرى نجد لدى رامون لول حرصا واعيا على عدم الخروج بعيدا، الا في حالات استثنائية نادرة، على اجواء اللاهوت المسيحي وطقوسه ومبدأ الاقانيم الثلاثة العقائدي المحض.
فالحرص قوي لديه على ابقاء ظلال نص الكتاب المسيحي المقدس، لا سيما “العهد الجديد” اي الاناجيل، ماثلة بجلاء تام، كما ان التأثر باسلوب “نشيد الانشاد” صارخ فيما مفاهيم المحب والمحبوب والمحبة ما هي في التحصيل النهائي الا تجريدات رمزية لمفاهيم الابن والاب وروح القدس.