من أسطورة الخلق الابوريجانالية

ترجمة : محسن بني سعيد

إيهي تمنح العالم الحياة
 
من أسطورة الخلق الابوريجانالية
ترجمة : محسن بني سعيد
 
 
في البدء ، كان العالم مستلقياً بهدوء في ظلمة تامة . ليس ثمة نباتات و ليس من أشياء حية أو متحركة على العظام الجرداء للجبال . و لم تهب ريح على القمم . و لا صوت يكسر الصمت .
 
لم يكن العالم ميتاً . العالم كان نائماً ، ينتظر اللمسة الرقيقة للحياة و الضوء . الأشياء اللاميتة نائمة في مغاور ثلجية في الجبال . في ركن ما من الفضاء الهائل ، إيهي تحركت في نومها ، منتظرة همسة بايامي، الروح العظمى، أن تأتي إليها .
 
ثم جاءت الهمسة، الهمسة التي ايقظت العالم . سقط النوم عن الإلهة مثل سقوط ثوبها على قدميها . فتحت عينيها فبدَّد بريقهما الظلمة . بريق ينبعث من جسدها . هرب الليل اللامتناهي . و إغتَسَل سهل نَلاربور* بالضوء الذي عرّى بوره المقفر .
 
إيهي طافت الأرض و شرعت برحلة أخذتها إلى الغرب و الشرق و الشمال و الجنوب . حيثما اراحت قدميها على الأرض ، تقافزت الأرض نشوةً . العشب و الشجيرات و الأشجار و الزهور نبتت عليها ، و تعالت صوب شعاع الضوء . تقاطعت دروب إيهي حتى تغطَّت الأرض بالخضرة .
 
أنجَزَت إيهي مهمتها السعيدة الأولى، إيهي إلهة الشمس ، استراحت على سهل نَلاربور ، و نظرت حولها ، فعرفت أن الروح العظمى شَعَرَ بالرضا عن محصلة جهدها .
 
” الخلق بدأ على نحو حسن . ” قال بايامي ” تلك هي البداية فقط . العالم مملوء بالجمال ، لا يعوزه الا حياة راقصة ليُكمِل مصيره . خذي ضؤوك إلى مغاور الأرض و ستَرَي ما سيحدث . ”
 
قامت إيهي و شقَّت طريقها إلى الأماكن المظلمة تحت سطح الأرض . لا توجد بذور هناك لتنمو الحياة فيها عندما تلمسها . الظلال الثقيلة تتربص خلف الضوء . صرخت الأرواح الشريرة ” كلا ، كلا ، كلا ” حتى ارتجَّت الكهوف بأصواتٍ تردَّد صداها في الظلام . الظلال خفَّت . نقط ضوء التمعت في ” عين الشمس ” . تحرَّكت هيئات معتمة بقلق .
 
” نم ، نم ، نم ” ناحت الأرواح الشريرة ، الا أن الأشكال كانت تنتظر لمسةً من آلهة الشمس . أجنحة شفافة تفتحت ، أجسادٌ رفعت نفسها على سيقان طويلة ، ألوانٌ معدنية بدأت تلمع . و سرعان ما أحاطت بإيهي أعداد غفيرة من الحشرات الزاحفة و المحلقة في أسرابٍ من كل زاويةٍ مظلمة . تراجعت إيهي ببطء . تبعتها الحشرات إلى العالم الخارجي ، إلى أشعة الشمس ، إلى حضن العشب و الاوراق و الورود المُنتَظِرة . الترنيمة الشريرة ماتت و ضاعت في فوضى أصداءٍ لا طائل منها . ثمة عمل ينتظر الحشرات لتقوم به في العالم ، ووقت للعب و وقت لعبادة الإلهة .
 
” المغاور في الجبال ، الجليد الأبدي ” همس بايامي . أسرعت إيهي إلى سفوح الهضاب ، تُذَهِّبُ قممها ، تلمع أعلى الثلج . إختفت في المغارات ، يقرصها برد الثلج الأسود المتعلق بالسقوف و الجدران ، ثلج صلب و غير مطواع ، بحيرات متجمدة في ظلام يحفَّه الثلج .
 
الضوء شيء قاسٍ و شيء رقيق . قد يكون شرساً و عديم الشفقة ، و قد يكون خارقاً ، و قد يكون دافئاً و ملطفاً . المتدلِّيات الجليدية تقطر ماءً زلالاً . عاد الموت إلى الحياة في الماء . ثمة سديم يتحرك على سطح الجليد . نزل إلى العمق . طفت كتل جليدية إلى السطح ، تلاشت ، فقدت كينونتها في غمرة فرح المياه المنفلتة من السجن . هيئات غامضة تترنَّح و تعوم نحو السطح — هيئات اتخذت أشكال السمك و الأفاعي و الزواحف . البحيرة فاضت و قفزت عبر بوابات المغاور و اندفعت على جوانب الجبل ، و أعطت ماءً للنباتات و سعت للوصول إلى البحر البعيد . من النهر ، تدافعت الزواحف نحو الشاطيء لتجد بيتاً في العشب و الحجر ، بينما الأسماك تلعب سعيدة في المياه المتدفقة .
 
” لازالت هناك مغاور أكثر في الجبال ” همس بايامي .
 
ساد شعور بالتَّرقب . إيهي دخلت المغاور ثانية ، لكنها لم تعثر على كتل جليدية عنيدة لتختبر قوتها . دخلت من مغارة إلى أخرى و قابلها تيار الحياة ، من الريش و الفراء و الجلد العاري . طيور و حيوانات تجمَّعت حول إيهي ، مغنيةً كل بصوته ، تتسابق على المنحدرات ، تختار بيوتها ، تشرب في عالم جديد من الضوء و اللون و الصوت و الحركة .
 
” هذا حسن . عالمي حيّ ” قال بايامي .
إيهي أخذت بيده و نادت بصوتٍ ذهبي على كل ما أعادت اليه الحياة .
 
” هذه أرض بايامي . أنها لكم إلى الأبد لتستمتعوا بها . بايامي هو الروح العظمى . سيحميكم و يسمع طلباتكم . أوشكت على ألانتهاء من مهمتي ، و عليكم أن تستمعوا إلى كلماتي .”
 
” سأبعثُ إليكم فصلي الصيف و الشتاء – الصيف بدفئه سيُنضِج فاكهةً لتأكلوا ، و الشتاء للنوم حينما تكتسح الريح الباردة العالم و تعصف بما يُخلِّف الصيف . تلك تغييرات سأرسلها إليكم . و هناك تغييرات أخرى ستحدث لكم ، انتم يا مخلوقات حبي .”
 
” قريباً ، سأغادركم و أعيش في أعالي السماء . حين تموتوا ، أجسادكم تبقى هنا ، الا أن أرواحكم ستأتي لي كي تعيش معي .”
 
ارتفعت من الارض متعلقةً بكرةِ ضوء نحو السماء ، و ببطء انحدرت خلف التلال الجنوبية . حَزَنت جميع الأشياء الحية ، و امتلأت قلوبها بالخوف لان الظلام عاد سريعاً إلى العالم ما أن غادرت إيهي .
 
ساعات طوال مرَّت ، و هدَّأ النوم من الحزن . و فجأة صدحت الطيور ، اليقظون منهم رأوا شعاع ضوءٍ من الشرق . صار الشعاع أكثر قوةً و صدحت طيورٌ أكثر حتى صار كورساً مكتمل الصوت حين ظهرت إيهي ببهاءٍ و فاض الضوء الصباحي على السهول .
 
أفاقت الطيور و الحيوانات الواحد بعد الآخر ، تماماً كما فعلوا منذ الفجر الأول . بعد الصدمة الأولى للظلام ، عرفوا أن النهار سيعقُب الليل ، و سيكون هناك شروقٌ و غروبٌ جديدان دائماً ، ساعات ضوء النهار للعمل و اللعب و الليل للنوم .
 
روح النهر و روح البحيرة هما الأكثر حزناً حين تغرق إيهي لترتاح . يفتقدون دفئها و ضوئها . يرتفعان إلى السماء سعياً للمس آلهة الشمس بكل قوتهما . إيهي تبتسم لهما و ينحلّان إلى قطرات من الماء لتتساقط عائدة إلى الأرض مطراً و ندى ، تُنعِشُ العشب و الأزهار و تهب حياة جديدة .
 
بقي شيء أخير أرادت إيهي أن تنجزه ، لأن ساعات ظلام الليل تخيف بعض المخلوقات . إيهي أرسلت نجمة الصباح لتُبَشِّر بمقدمها كل يوم . و من ثم شعرت بالحزن على النجمة في وحدتها ، فأعطتها ” باهلو ” ، القمر ، زوجاً لها . تنهَّدتْ الأرض حين أبحر القمر الأبيض عبر السماء فأولَدَ نجوما لا حصر لها ، وبنى مجداً آخراً في السماوات .
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *