قصيدة/ (أَنـا بـخـيـر) للشاعر اليوناني: مينيلاوُس لوديميس (Menelaos Ludemis )
(ترجمها عن الرومانيّة) الشاعر الفلسطيني: يوسف حنا
(أَنـا بـخـيـر)
(ترجمها عن الرومانيّة)
الشاعر الفلسطيني: يوسف حنا
… … …
أَنا بخيرٍ يا أُمّي… يا شروقي…
أَركضُ لترويضِ خوفِك.
“أَنا بخير”..
أَجلسُ في ظلالِ أَلمي،
وأَتركُ ريشتي للبكاء…
أُمّي…
رعشةُ اليَدَيْن…
السنواتُ البريئةُ التي نجتْ مِنَ الأَحكامِ…
التنهداتُ التي تعدُّ تنقلاتِ المنافي…
“أَنا بخير”..
“أَولاً، يا أُمّيَ المحترمة.
أَولاً جئتُ لأَسأَلَ… ولا أَسأَلُ شيئًا.
هنا لا يجوزُ السؤالُ..
لكنّي بخير…
حتى لو كانتِ الفراشةُ المشنوقةُ معلقةً فوقَ رؤوسِهم.
حتى لو تآكلتْ أَقدامُ بناتِ آوى منَ القطرانِ.
“أنا بخير”..
بدايةً وقبلَ كلِّ شيءٍ، يا أُمّي… أَن نكونَ بصحة!
صدري يصرخُ بثغاءٍ مبحوح.
الجلادُ يحسبُ الساعاتِ على ضلوعي.
بدايةً وقبلَ كلِّ شيءٍ، يا أُمّي… سامحيني اليومَ
واغفري لي اليومَ أيضاً لأَنك لن تعرفي الحقيقة.
الحقيقةُ كَبُرتْ وشاختْ ولم تَعُدْ تسافر.
لن تعبرَ البحرَ .
الحقيقةُ، يا أُمّي، رصاصةٌ. ولا أَنوي قولَها.
“أنا بخير”
اليومَ انتهيتُ منَ الرسالةِ الأَلف. لكنَّني أَعلَمُ …
أَنَّ لديكِ الوقتَ لِتَلَقّي رسائِلي.
لكنْ سامِحيني. سامِحيني يا أُمّي.
لِرَتابَةِ الآلافِ مِن
“أَنا بخير”
تلك الأَكاذيبِ الأَلفِ الرتيبةِ.
أَكتُبُ لكِ مُجدَّداً.
وأَضعُ رسالتَكِ على رُكبتيّ
وأُداعِبُها مِثلَ طائرٍ حزين.
يَدي تكتبُ وحدَها
درسِيَ الصغيرَ والمريرَ:
“أَنا بخير”
أَنا أَعلمُ، آه يا أُمّي…
أَعلمُ أَنَّني أُرسلُ لكِ يوميًّا
جرعةً من مراري. وأَنا أَعلمُ
أَنَّك تُداعبينَ كَذبي كُلَّهُ.
وترشينَهُ بالدموعِ والأحاديثِ الطويلةِ. وأَعلمُ
أَنَّ أَيَّة كلمةٍ أُخرى لن تغادرَ من هنا.
“أنا بخير”
يُمكِنُكِ، يا غاليتي، قراءَتها دونَ ضوءٍ.
لا تحتاجينَ حتى لقراءَتِها.
يكفي أَن تَصِلَ، وأَن تسمعي وراءَ البابِ
صوتَ ساعي البريدِ.
عندَها، يا أُمي، قد لا أَكون بخيرٍ.
ولكن عليكِ أَن تُصدِّقي ما أَكتبُ لكِ.
“أنا بخير”
أَنا بخيرٍ… لأَنَّني أَستطيعُ مَسْكَ قلمِ الرصاصِ.
أَنا بخيرٍ… لأَنَّني أَستطيعُ أَن أُطلقَ الأَنينَ.
أَنا بخيرٍ… لأَنَّني أَستطيعُ أَن أُكدسَ الأَوراقَ.
“أنا بخير”
آه، لو كانَ بإمكاني الحصول على سماءٍ
مليئةٍ بمثلِ هذِهِ الطيورِ الكاذبةِ.
أُطلقُها إِلى الفضاءِ…
لتَصِلَ إِلى هناك، حينَ لا أَقوى على التنَفُسِ.
تَطرُقُ بمناقيرِها على نافذةِ منزلِنا
تِلك التي تُطِلُّ على البحرِ
وتزقزقُ جوقاتُها بالأَكاذيبِ.
“أَنا بخير”
أَنتِ يا أُمّي… أَنتِ التي تقرأُ بأَصابِعِها.
أَنتِ، التي تتحدثُ بلغةِ اليَدَيْنِ.
لامِسي الوَرَقَةَ بِشفتَيْكِ
تَمامًا مِثلما كنتِ تفعلينَ وأَنا طفلُ يعاني من الحُمّى…
واقرأَي الورقةَ غيرَ المكتوبةِ،
إقرأيها مباشرةً مِن قلبي:
أُمّي… أُمّي،
آه يا أُمّي …
الجسمُ الذي طالَما داعَبَتْهُ يَداكِ
ذابَ اليومَ تحتَ الحَجَرِ.
الصوتُ الذي كانَ يُتَرْغِلُ في نومِكِ
بُحَّ اليومَ تحتَ السِّكينِ.
لكنْ عليكِ أَن تَضحكي، غاليتي! إضحكي…
وقولي في قَرارَةِ نفسِكِ أَنَّكِ استيقظتِ مِن حلمٍ مُرَوِّع.
إِضحكي لتطرديهِ عنكِ.
عليكِ أَن تضحَكي، وأَنا … إِهدأي يا أُمّي،
“أنا بخير”
اليومَ سكبوا نوري. أَنا بخير.
أَنا بخير.. بالأَمسِ قصّوا أَظافري.
تباطأَتْ مَخاوِفي، أَنا بخير.
أَنا بخير.. غداً سوفَ يَصلِبوني.
أَنا بخير.. أَنا بخير.. أَنا بخير…
أَنا بخير. رغمَ أَنّي فقدتُ العقلَ والتفكيرَ.
أَنا بخير. رغمَ أَنّي فقدتُ الكلماتِ لأَصرُخَ.
أَنا بخير. رغمَ أَنّي فقدتُ يَدَيَّ لأَكْتُبَ.
لهذا السبب أَحفرُ. لأُدفَنَ في القبرِ الغضِّ،
فوقَ هذه الهاويةِ المُجتاحَةِ بالرياحِ.
في هذه المَقبرةِ المجنونةِ
حيثُ كلّ الموتى
بخير!
……………………..
مينيلاوُس لوديميس (Menelaos Ludemis 1912-1977)
كاتب ومترجم يوناني، اسمه الحقيقي ديميتريوس (تاكيس) فالاسياديس. كشيوعي، ويحمل الأفكار، وقلم الشعرية، تعرض للملاحظة والاضطهاد بعد فترة طويلة من الحرب، وأمضى عدة سنوات في السجون، ومن ثم المنفى في رومانيا. سنوات السبعين في اليونان.
(*) الكولاج المرفق: عنفوان فؤاد