غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ| القسم الثالث
د. صلاح نيازي
الأمّ العراقية ترضع طفلها الغرور مع الحليب: أجملُ طفلٍ، أفضلُ طفلٍ في المدرسة، درجاته أعلى الدرجات بين أقرانه، المعلمون يستغربون من ذكائه، جاء بالمرتبة الأولى. بجمل كهذه تنمّي الأم في طفلها روحاً ديكية، قوية في المظهر، هشة في الداخل، والديك مهما كان تطوّسه، أجبن مَنْ عليها.
المجتمع العراقي كذلك، يفضل الشهادة النظرية على الخبرة، والبنات الشابات
يفضلْنَ المتخرج على الحِرَفي، لأن رزقه منتظم ومضمون. المدرسة تحشو رؤوس الطلاب بما تفرضه من أشعار حماسية بطولية، بقيم يقاس فيها الإنسان بحجمه الفيزيائي، الضخامة مثال أعلى، العضلة آلة تدمير وهيمنة، الشاربان الكثان رجولة، وشعر الصدر فحولة، تنعكس مثل هذه القيم الصحراوية العضلية، في طريقة تعبيرنا منذ الطفولة، ولأنها تنمو شيئا فشيئا؛ لا نشعر ببشاعتها، بل نتلذذ بها، ونتفنن في سبکها بأسلوب فخم شعراً ونثراً. معظم شعرنا، معظم نثرنا يجب أن يدخل إلى مستشفى الأمراض النفسية.
شربتُ الاعتداد بالنفس والطموح، منذ البداية، وها أنا اليوم أحاول شيئاً مستحيلاً. أريد أن أعزل حليب الأم الأول عن تلك الأمراض الخطرة المعدية.
بات تعلم اللغة أمراً مستحيلاً. اللغة – أية لغة – رضاعة ولثغة من البداية وإلّا فلا. كيف أستطيع أن أتخلص من بيئة جبلتني ستة وعشرين عاماً. حقاً، لقد افترضت أنني ولدتُ من جديدٍ، حين نجوتُ، وكنتُ سعيداً أن أموت بعيداً، ولكنه افتراض خاطئ، لم أحسن التعبير عن الحالة الشاذة التي كنتُ أمر بها. الحالات الشاذة توّلد استنتاجاً لا منطقياً.
لم أكن منطقياً، وكان افتراضي خاطئاً.
درجتُ على اللغة العربية، ونهلتها قطرة قطرة. يجب أن تُحترم لكبر سنها وتجاربها. ولأن شبابها متجدد وغض؛ كانت وعاء هائلاً لمختلف الحضارات، كانت نهراً، صُبّتْ فيه روافد عقول شامخة من شتى الأقوام، وجعلها القرآن إكسيراً مقدساً.
قرأتُ الشعر العربي، واستطعمته موسيقى ومعاني. أحسّه في النبض، حتى صرت حلبة عجيبة لمختلف عصوره، ومختلف بقاعه، وتجارب شعرائه. كنت حلبة لنوقه وأطلاله، وخموره وجواريه، لحدائه وموشحاته، وعطور حدائقه، وأنفاس عاشقيه.
ذهبتُ هذا اليوم وحيدا إلى حدائق «كيو» الشهيرة. تُربّى هنا النباتات من شتى أنحاء العالم. الحدائق متعة للناظرين حقاً، هندسة دقيقة، وأحراش مؤطرة بسواق صغيرة صافية. الأوراد طوائف طوائف بحسب اللون. عالم النبات مسحور، وهو أقدس معبد، يتصفى فيه الإنسان، من هلع الشوارع والمخازن والمواصلات، ويتحلل من السرعة والزمن. توقفت طويلاً، أمام بحيرة صغيرة. أجنحة الزنبق مفروشة على الماء بسلام، وهذا أقصى طموحها. بتواضعٍ. مكان واحد. قوت واحد، مع ذلك فهي سعيدة في حياتها بدلیل نموها الداكن اليافع.
رأيتُ مبني زجاجياً كبيراً. حين دخلتُهُ تصببتُ عرقاً. درجات الحرارة استوائية. كل النباتات هنا استوائية. في الوسط فوجئت بنخلة عالية. حزنت من أعماقي. جذعها ملتوٍ (لم أرَ نخلةً عراقيةً إلا وجذعها منتصب). كانت تعيش بالرغم عنها بحرارة اصطناعية. تنمو بالرغم عنها، وهي الآن يكاد يصل رأسها إلى سقف المبنى الزجاجي؟ هل أنا كذلك؟ أنمو مشوهاً.
بارَ ما كنتُ أحفظُ من شعرٍ، وهو أغلى ما أملك من ثروة. أين أعثر على سوق عكاظ، وقد اكتظتْ منطقة بيكاديللي بالغرباء والمطاعم والملاهي والحانات والسينمات والمسارح واللواط والزنى؟ هذه كعبة الحائرين. ندور فيها، وندور محبطين هامشيين، لا على التعيين. من مطعم إلى مطعم تتغير الرائحة، ومن حانة إلى حانة تتغير الرائحة، ولكل امرأة تمر رائحة وزينة وأصباغ.
لم أقرأ شعراً عربياً منذ أشهر. قلّبتُ البارحة ديوان حماسة أبي تمام. شعرت بمرارةٍ شعرتُ بغربةٍ، لا السيف ينجي، ولا الدرع يحمي ولا حتى يدفّئ .
ما أصعب أن يعيش الإنسان بين بين. الأصعب من ذلك أن يعيش في فراغ. العودة من باب المستحيل نفسياً، ولاسيما والأوضاع بالعراق تزداد شراسة وتوحشاً. البناء عسير بلا جذور، هل أعيش فضلة؟ وزوجتي وطفلتي؟
ذكرتُ حماسة أبي تمام عن قصدٍ. أنقذني هذا الكتاب الأصفر مرة. كان الليل يطبق على محطة القطار ببغداد، وكأنْ لا فجر لها بعد ذلك. العسس، الحراس، المخبرون يختلطون مع المسافرين والمودعين. يتصنتون إلى الكلمات النازفة، ويحصون قطرات الدموع، وأعينهم على الحقائب.
كانت حقيبتي الجلدية المهرأة، مشحونة ومكتظة. هي كل ما أملك إذن. صعد عريف عسكري، مع اثنين من الحرس القومي. أصرّ العريف على تفتيش حقيبتي من بين مئات الحقائب. رجوته. لم ينفع. ليس في الحقيبة شيء ممنوع، مجرد ملابس، أدوات حلاقة، برتقال، نومي بصرة، زوج أحذية، منشفة، وكتاب حماسة أبي تمام. لم أستطع شدها إلا بعد أن صعدتُ وضغطتُ عليها بكلتا قدمي. ترددت في فتحها لهذا السبب، مما زاد في أصرار العريف. عليه توكلت. وقعت عينه على حماسة أبي تمام. ورقها أصفر حائل. قلّب بعض أوراقها.
رجع إلى عناوين الصفحة الأولى. قرأ لثوانٍ، ثم قبّل الكتاب وقال «تری أنا نجس». تسمّرتُ، خفت أن يكون ما قاله مصيدة لي، خفت أن يقول له الحارسان القوميان الشابان: إن هذا الكتاب ليس قرآناً، نزلوا بزهو العارفين ولكن كيف أغلق الحقيبة الآن؟
كان البرد جارحاً هذا المساء، لا أدري من أين يتسلل إلى الغرفة. الشبابيك موصدة بإحكام. أنا وغرفتي فقط، ما من حركة في الشارع. الثلج يسقط بجنون. اشتهيتُ دفئاً وشاياً. تعبتُ من تكوير نفسي، ووضع ركبتي على بطني في أثناء النوم، تمنيت أن أنام بكامل طولي. وحدتي لا تحتمل هذه الليلة. لم آكل طيلة هذا اليوم. وما من أمل للأكل غداً. تمنيتُ أن أنام بأية صورة وأنسى كل شيء. ولكن النوم، لا يأتي متى شئت. النوم والموت سيدان يقرران ساعتهما ولا سلطان عليهما.
لم أفتح حماسة أبي تمام إلا هذه الليلة، حوافي الأوراق تتساقط كالنخالة حتى مع أرقّ تقليب. قرأتُ لا علي التعيين:
قال ودّاك بن ثميل المازني:
رويداً بني شيبان بعض وعيدكم تُلاقوا غداً خيلي على سفوانِ
تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى إذا ماغدت في المأزق المتداني
عليها الكماة الغرّ من آل مازنٍ أُلاة طعانٍ عند كل طعانِ
مقاديم وصّالون في الروع خطوهم بكل رقيق الشفرتين يمانِ
إذا استنجدوا لم يسألوا مَنْ دعاهم لأية حرب أم بأيِّ مكانِ
قرأتُ الأبيات عدّة مرات وبصوتٍ إيقاعي. حاولتُ في البداية أن أجد أية علاقة لي مهما كانت ببني شيبان وآل مازنٍ. هل أنا حقاً من أولئك الذين يهبون لأيّة حربٍ، وبأيّ مكان؟ قلت بنفسي لماذا لم يفتحوا الترع على نهر سفوان، فيزيدوا الأرض خصباً وغناء وجمالاً، والأطفال عافية؟ لماذا لم يصور الشاعر «ودّاك»، شروقاً نقياً رحيماً أو غروباً أحمر ناعماً، فيجعل الحياة كبيرة كالجبل وملمومة كالرحم. لقد خذلتني يا ودّاك بن ثميل المازني وحق الكعبة، ما الذي أفعله بشعرك في هذا البلد الغريب؟
قلت لا قرأ طالعي في الحماسة إذن؟ عادتي أن أفتح أية صفحة من أي كتاب وأقرأ السطر السادس، ليكون لي دليلاً على ما سيقع لي في المستقبل. فتحت إحدى الصفحات لا على التعيين، وهذا هو السطر السادس:
“بين قروری ومرورياتها”
والقروری: اسم موضع، والمروريات صحارى على طريق مكة من ناحية الكوفة.كيف أقرأ بختي بين القروری والمروريات؟ رمال على مد البصر بين الكوفة ومكة، ما من ماء جارٍ سوی سرابٍ خادعٍ متشفٍ. ما من شجر وطير. ما من منازل وأطفال وصبايا، وشبابيك فضولية، وغزل يتساقط نظرات ناضجة. الرمال أقوى من الزمن، يمسح كل أثر، وكأن شيئاً لم يكن. ترحال بترحالٍ بترحالّ، وفرسان يطلعون من بعيد، يمارسون القتل والسبي والنهب والسلب، ويكتبون شعر الفخر والحماسة، لا يحسّون بيتم طفلٍ، أو ترمل أرملةٍ أو إجهاض شابة من الخوف. الرمال أقسى حتى من الحيوانات المتوحشة والزواحف السامة؛ لأنها بلا ضميرٍ؛ ولأنها تبطشُ فلا ترتوي ولا تشبع.
كنت أحفظ هذه القصيدة عن ظهر قلب في يوم ما، كانت كلماتها الصعبة كأماكن جغرافية أزورها لأوّل مرة:
حبسنَ في قرحٍ وفي داراتها
سبعَ ليالٍ غير معلوفاتها
أعجبتُ أولاً بهذه القوافي المؤنثة، والجموع الأكثر أنوثة. حزنتُ من تعبير «حُبسنَ»، تصورتهن فتيات يمنع عليهن الشارع، وجاءت سبع ليال لتزيد من قهر الحبس، وما أن وصلت إلى «معلوفاتها»، حتى انقلبت تلك الفتيات إلى بهائم أو هكذا يعاملن. ولكن الشاعر كان يصف بدقة، الإبل الصابرات على السير، والنوق السريعات، والنوق التي ترفع رأسها في أثناء السير. يشبه الشاعر أعناق النوق مثل «قسي نبع ردّ من سياتها»، والنبع شجر يتخذ منه القسي و«سيّة الفرس: انعكافها».
على أية حال كانت نوق هذا الشاعر تسير «بين قروری ومرورياتها»، ولابدّ أنه طريقٌ خطرٌ، حيث لا تجد النوق ما تأكل منه سوی شجر الطلح المرّ، ولا ترعى سوى نبات الحمض:
كيف ترى مرّ طلاحياتها
والحمضيّات على علاتها
لكن ما علاقة كل هذا ببختي هذه الليلة؟ مازالت في أوّلها، كيف أقضي الساعات الباقية؟ المدينة هامدة مستسلمة للثلج، لا صوت إلا أرجل قطار بعيدٍ بين الحين والآخر. قلت نهايتي قريبة ولم أحزن. كنت منذ أن خرجت من العراق، أرفض أية نهاية مرسومة لي،. أريد أن أقرر نهايتي بنفسي، وهذه هي الإرادة الوحيدة، التي لا أريد لأحد أن يسلبني إياها. لماذا إذن أنتظر النهاية في هذه الغرفة الخالية من الدفء؟
شددت جسمي بطبقات من الملابس كالمومياء وخرجت. شعرت بسعادة غامضة، كأني فلتُّ من إطباق مرعب. أحمل الثلج على قبعتي وكتفي. واجهات المخازن أصبحت حدائق أفزع إليها، كلما أصابني ملل. ألعاب الأطفال، وخاصة الدببة، والقطارات الكهربائية أتحدث إلى الدببة وأسافر مع القطارات بلا وداعٍ، وأعود بلا استقبال. مشيتُ وحيداً، لا يعرفني أحد، ولا أعرف أحداً.
عبرتُ الجسر كالمعتاد، لم أرَ أحداً غيري. كنتُ مكللاً بالثلج، وللريح صفير، عشقتُ تشلسي في الجانب الآخر من النهر من حيث أسكن. منطقة شابة كلوحات حية مجسمة، وهي مثل بعض الأزهار لا تتفتح إلا في الليل. المقاهي مكتظة بالشباب الموسر الضائع يتحدثون عن المسرح والموسيقى، بلغة مشبعة بالترف. البنات طيور بريش مختلف الشيات والألوان. يتحدثن باستبشار وإقبال ويثرثرن بوجوه ناعمة مبتسمة. خليط مزيج تتقارب فيه الذكورة من الأنوثة وبالعكس.
كنت أدخل في المقهى متظاهراً بالتفتيش عن صديق. أنظرُ إلى الساعة عدّة مرات، وكأن الوقت قد حان. في هذه الأثناء، كنت بهذه الحجة أتطلع إلى الوجوه، وأتمعنُ في تعابيرها، أذهبُ إلى الباب وأعودُ ثانية، متمتعاً بالدفء الذي يسري في جسدي فأعود إلى الحياة.
ثم أذهبُ إلى مقهى أخرى، وأمارس اللعبة نفسها. أتقنتُ دور المنتظر القلق، لدرجة كدتُ أصدق معها، أنني فعلاً أنتظر صديقاً، ولم يأتِ. تمنيتُ لو كنت أمتلك ثمن شاي واحد، لدفأت بطني الخاوية، ولجلستُ مع شلة ما. لقد وقعتُ بحبِّ اللغة الإنكليزية، أو في الأصح في الطريقة المهذبة التي تُلقى بها. اللغة في تشلسي تعزف. الحناجرُ آلاتٌ موسيقية تختلط، وتتفرد بانسجام.
استوقفتني واجهة مخزن. ثياب نسائية تكاد تحلّق من الانتشاء. تطير بالمرأة بشتى الأحلام. قستها على زوجتي، وحين ألبستها إياها ثملنا معاً. لم انتبه إليه للوهلة الأولى، قالها مرّة ثانية: من فضلك. كان الشرطي قريباً ويتحدثُ بهمس. ما اسمك؟
ما عملك؟
أين تسكن؟
أريد أن أفتش حقيبتك.
قلت: ليس في حقيبتي شيء سوى بعض الكتب والأوراق، والكلمات الإنكليزية الصعبة التي حاولتُ أن أتعلمها هذا اليوم.
أين تدرس؟
كم سنة مضت عليك في هذا البلد؟
قلتُ: لم يفتش أحد من قبل حقيبتي، لماذا تصرّ على تفتيشها؟
قال: لأن الوقت الآن هو منتصف الليل، وفي هذه الحالة يجيز لنا القانون تفتيش الحقائب.
نظرتُ إلى ساعتي بهدوء أعصابٍ، وقلتُ: لم يحنْ الوقت، إنها الثانية عشرة إلا خمس دقائق. قال: متأسف واختفى.
رجعت إلى الثياب النسائية التي تكاد تحلق من الانتشاء. لم أسترجع صورة زوجتي هذه المرة، الأحلام لا تسترجع إذا ما أُوقظ النائم. تسكعتُ مرة أخرى. دخلت حانة عتيقة، كأنها مصنوعة من جذوع أشجار. نحاسيات تضيء في زوايا مختارة. قنانٍ فارغة معلقة على الرفوف. رؤوس وعول. ربّما أُريد لهذه الحانة أن تكون مجموعة كهوف. تفرستُ بالوجوه، نظرت إلى ساعتي عدّة مرات، وتظاهرتُ بالتفتيش عن صديق.
خرجتُ إلى الثلج مستاء، وقبل أن أدخل إلى ديسكو صاخب سمعتُ صوتاً قريباً الآن، من فضلك. الشرطي نفسه، قال: الساعة الآن الثانية عشرة والنصف ولي الحق باسم القانون أن أفتش حقيبتك.