فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً

د. حسين الهنداوي

فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً (1)

بطش اعمى وارتباطات مريبة

د. حسين الهنداوي

حكم حزب البعث العراق بالبطش الاعمى خلال عهدين. استمر العهد الاول لنحو تسعة أشهر وعشرة أيام فقط، بدءاً بانقلاب عسكري دموي حصل في 8 شباط 1963، وأدى الى الاطاحة بالحكومة المنبثقة عن ثورة 14 تموز 1958 الوطنية، وبإعدام رئيسها الزعيم عبد الكريم قاسم في مبنى الإذاعة العراقية إضافة الى عدد كبير من ابرز المسؤولين العسكريين والمدنيين، وانتهى بانقلاب عسكري آخر قاده العقيد عبد السلام عارف في 18 تشرين الثاني من نفس العام، وأسفر في نفس اليوم عن استسلام مهين لكل قادة السلطة البعثية واعتقال رئيسهم ومفكرهم السوري الجنسية ميشيل عفلق الذي طرد من العراق الى سوريا بعد أيام وبوساطة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي الحقت تدخلاته المباشرة وغير المباشرة في الوضع السياسي العراقي اضرارا جسيمة
باستقرار العراق يعترف بحصولها المصريون اليوم.

 

تلك السلطة البعثية الاولى المعروفة باسم “سلطة الحرس القومي” اشتهرت، حتى عالميا، بسعة وهمجية اعمال القمع التي مارستها بحق آلاف المدنيين العزل، كما عرفت بانحطاط ولا اخلاقية اساليب التحقيق التي استخدمها قادتها في السجون والمعتقلات بما فيها التعذيب الجسدي والاغتصاب الجنسي، إضافة الى ضخامة جرائم القتل التي ارتكبت خلال عمر ذلك الانقلاب الذي نظمته الاستخبارات المركزية الامريكية والبريطانية في العراق حتى ان علي صالح السعدي وهو احد قادة حزب البعث ونائب رئيس الوزراء الحكومة الانقلابية اعترف صراحة بذلك مطلقا عبارته الشهيرة: “جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي”، حيث بات من الثابت ان صالح مهدي عماش كان عميلا لوكالة السي أي أي الامريكية وان وليم ليكلاند، مساعد الملحق العسكري في السفارة الامريكية ببغداد كان يستقبل عماش كل يوم سبت فيما كان ليكلاند علاقات خفية ببعض قادة الانقلاب من العسكريين والمدنيين في بغداد، وكان لقاءاتهما الرسمية تجري في مكتبه داخل السفارة الامريكية. هاني الفكيكي من جانبه يوجه الاتهام الى طالب شبيب ايضا بنسج علاقات متينة مع أجهزة المخابرات المصرية فيما كتب سعيد خليل أبو الريش في كتابه المعنون ”صدام حسين: سياسات الانتقام” عن دور المخابرات الامريكية في انقلاب 8 شباط 1963 ، بأن الخطة كانت تحت اشراف وليم ليكلاند في مقرة بالسفارة الامريكية ببغداد ، وان العملية عدت واحدة من امهر العمليات الصعبة في التاريخ المعاصر للشرق الاوسط ضمن خفايا الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والغربي” . كما جاء في مقالة موسعة للدكتور سيار الجميل.

من جانب آخر تفيد تقارير أخرى بان فريقا من موظفي الاستخبارات الامريكية، برئاسة آلن دلس، الذي كرس طاقته لمناهضة الشيوعية في فترة الحرب
الباردة كان مشاركا في عملية الإطاحة بنظام
عبد الكريم قاسم، وان المخابرات الأمريكية قامت مرارا بتزويد انقلابيي شباط بقوائم بأسماء اشخاص وتوجيهات كانت تبث من محطة أمريكية تم انشاؤها في الكويت، مذيعة اسماء الشيوعيين والقاسميين كي يتم إلقاء القبض عليهم وتصفيتهم جسديا من قبل فرق اعدام تابعة لحزب البعث بدون تحقيق ومحاكمة، وان وضع تلك القوائم تم في مكاتب الـ سي اي آي في عدد من بلدان الشرق الأوسط لا سيما مصر وسوريا ولبنان بالتعاون مع معارضين بعثيين وقوميين عراقيين مقيمين فيها. وهكذا، فقد جرت في الأيام الأولى اللاحقة على انقلاب 8 شباط مجازر بشعة نفذها قادة البعث وأزلامهم المتوحشين في معتقلات قصر النهاية وسجن رقم 1 في معسكر الرشيد ومعتقل المثقفين ومديرية الأمن العامة وغيرها. وكان الدعم الناصري على وجه الخصوص، والخليجي ومن ورائهما الاستعمار الغربي للانقلابيين سخياً، حيث وفروا لهم إمكانيات اعلامية ومالية وعسكرية كبيرة بحيث استطاع الانقلابيون أن يحققوا الانتصار على النظام الجمهوري الوطني. لقد كانت انظمة الجوار العربي والاسلامي يخشى من استقرار ونجاح النظام الجمهوري في العراق لما له من انعكسات سلبية على مستقبل هذه الانظمة.

 

وبالفعل، فقد شهد الانقلاب منذ ساعاته الأولى تصفية آلاف المواطنين في البيوت والشوارع والجامعات ودوائر العمل والمعسكرات كان بينهم الكثير من الاكاديميين والكتاب والفنانين والنقابيين والطلاب، في مجازر مجانية لا سيما اثر صدور البيان رقم (13) الذي تسبب بسفك دماء بريئة ومثّل أول محاولة لتدمير أسس ومظاهر النظام المدني الذي سعى العراقيون لبنائه خلال نصف قرن من تأسيس الدولة العراقية الحديثة.

وقد صدر البيان بتوقيع الحاكم العسكري العام للانقلاب العقيد رشيد مصلح التكريتي الذي سيعدم لاحقا بتهمة التجسس للولايات المتحدة الامريكية. وتمثل البيان في الدعوة الى قتل الشيوعيين في الشوارع واقترن بتزويد مجرمي الحرس القومي بقوائم معدة سلفا بأسماء المثقفين والنقابيين التقدميين لتتم مطاردتهم من حي الى آخر وشارع الى آخر وقتل مئات الاشخاص الابرياء بسبب ذلك. وجاء في نص البيان رقم (13) ما يلي:

(نظراً لقيام الشيوعيين عملاء وشركاء عبد الكريم قاسم في تعاونه بمحاولات يائسة لإحاث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع للأوامر والتعليمات الرسمية، وعليه تقرر تخويل القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بأبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن، وإننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين بالتعاون مع السلطة الوطنية بالإرشاد عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم، التوقيع: رشيد مصلح التكريتي).

ويعترف حازم جواد أحد قادة الانقلاب في مقابلة صحفية بعد أربعين عاما ان عدد المعتقلين الشيوعيين كان مرتفعا جدا وانه جرى زجهم في معتقلات عدة من
بينها النادي الاولمبي في الاعظمية الذي استقبل آلاف السجينات والسجناء مكبلين بالقيود وقد فارق كثير منهم الحياة تحت التعذيب او الاعدام، كما تم تحويل “قصر الرحاب” الملكي الى معتقل رهيب بعد تغيير اسمه الى “قصر
النهاية” ووضع تحت اشراف مدحت ابراهيم جمعة، حيث كان بعض قادة الانقلاب يتسلون بتعذيب بعض الشخصيات المعتقلة بأنفسهم، حتى قيل ان معتقل أوشفيتز النازي يعد بمثابة “فندق خمس نجوم” مقارنة مع بشاعة التعامل مع السجناء في “قصر النهاية”. وان الجناح العسكري كان الأكثر ايغالا في سفك الدماء لا سيما احمد حسن البكر وعبد السلام عارف وحردان التكريتي وخالد الهاشمي وطه يحيى ومنذر الونداوي لكن الأكثر خساسة ودناءة في الاجرام في نظره كان صالح مهدي عماش، وزير الدفاع في حكومة انقلاب شباط 1963 (الرجل الذي قاد البعث العراقي إلى السلطة في 1963 يكسر عقوداً من الصمت ويفتح لـ”الحياة” خزنة أسراره، مقابلة مع صحيفة “الحياة” في 12/2/2004).  

اما العهد البعثي الثاني في الحكم، وهو الأعقد، فقد استمر لنحو 35 عاما دون انقطاع بدءاً من الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم العقيد عبد الرحمن عارف (شقيق العقيد عبد السلام عارف) في 17 تموز 1968، وانتهاء بالانهيار المهين ايضا لنظام الدكتاتور صدام حسين امام الغزو الأمريكي للعراق في 9 نيسان 2003 ودون مقاومة تذكر. ويتمثل هذا العهد بسلسلة من السياسات القمعية المدمرة للعراقيين التي أدت الى تبديد الثروات والعائدات النفطية الهائلة في مشاريع ومغامرات فاشلة، ومن الحروب الخارجية الخاسرة والحملات العدوانية ضد الشعب العراقي نفسه بلغت ذروة همجيتها بحملات الانفال والمقابر الجماعية والسجون والاعدامات الرهيبة للمعارضين السياسيين من كل الأحزاب والتيارات والانتماءات بما في ذلك بعض البعثيين احيانا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *