رياح كلكامش- من اور- إلى أسخيلوس- إلى شيكسبير
د.صلاح نيازي
يمكن القول، بما يشبه البديهة، إنه لولا الإله شمش، لما استسلم خمبابا، حارس غابة الأرز،
لكلكامش وأنكيدو. الإله شمش وبتكتيك عسكري محكم، جنّد الرياح فطوقته من جهاته الأربع.
لا أمامه أمام، لا وراءه وراء، وكذلك شرقه وغربه موصدان. لا مهرب، ولا مكوث. (سنرى فيما بعد كيف أفاد من هذه الصورة التي يعزّ فيها الهروب ويتعذر فيها المكوث، كلٌّ من أسخيلوس في مسرحية بروموثيوس طليقاً، وشيكسبيرفي مسرحية مكبث).
رياح الإله شمش أعتى العساكر المتجحفلة. خطورتها أنها كاملة العدة والعدد دائما وذخيرتها لا تنفد، كذلك لا يُعرف متى ولماذا تبدأ. لا تنتهي إلا بعد أن “يتعب الدمار من التدمير” كما يقول شيكسبير. أمام هذا الجبروت الرباعي من الرياح تضرّع خمبابا لكلكامش وانكيدو، تضرع مخلوق خائر مشلول، لا حول له ولا عضلة. رقّ له قلب كلكامش، إلاّ أن قلب أنكيدو كأنْ قُدّ من صخر.
كذا سنّ الإله شمش أغرب قانون كوني. الرياح إذن، ليست ظاهرة طبيعية خاضعة للفصول
والبحار والجبال والوديان والحرارة والبرودة، إنما هي كتائب وربايا مجندة بأيدي قوى غيبية. أكثر من ذلك يمكن حبسها في كيس أو قربة، كما فعل إيلوس الذي أقامه زفس قيّماً على الرياح.
ففي الكتاب العاشر من الأوذيسة (ترجمة فيتزجيرالد) يصل أوذيس إلى جزيرة يوليا التي كان يحكمها
إيلوس، بعد لقاء غير موفق مع السيكلوبيين(هم قوم عمالقة ذوو عين واحدة، تخصصوا بصنع الصواعق لـ”زفس”). كان إيلوس قد استضاف أوذيس وحاول أن يساعده في الرجوع إلى موطنه أثاكا، عن طريق حبس الرياح المعاكسة وغير المواتية في كيس وضعه في سفينته. ولكن بعد تسعة أيام من السهر والتعب، أخذه النعاس، فنام. عندها كان رجال أوذيس من البحارة قد شكّوا في الكيس وتصوّروا أن أوذيس أخفى فيه كنزاً من الذهب والفضة. وحينما فتحوه انطلقت الرياح، وإذا بالسفينة تعود أدراجها إلى جزيرة يوليا ثانية. ساعتئذ رفض إيلوس تقديم أية مساعدة أخرى إلى أوذيس، فطرده.
ماثل جيمس جويس في روايته يوليسيس الحلقة السابعة، بالفصل العاشر من الأوذيسة. فشخصية كروفورد، في يوليسيس توازي شخصية ايلوس من حيث سفاح القربى، ذلك أن ايلوس زوّج أولاده الستة من بناته الست. ثم ما ثل مقر الصحافة بالجزيرة العائمة التي كان يقطنها إيلوس. أكثر من ذلك في كلتا الحلقتين إحباط، وعقم، وضالة منشودة للخلاص على المستويين الشخصي والمجتمعي.
المعروف أن وقائع الحلقة السابعة من رواية يوليسيس تجري بمكتب جريدة دبلن. إنه مكان عاصف، على خلفية صخب مكائن الطباعة المشغولة بصنع الكلام المنمق مصحوبا بمناقشات ناشري الصحف اليومية. هكذا رسم جويس بحراً من الضوضاء.
بالإضافة تعيد الحلقة السابعة للأذهان أيضاً بعض القصص القصيرة من مجموعة جويس “أهالي دبلن”
وفيها تصوير للبطالة والخيبة والإحباط في منتصف النهار، أي ساعات العمل، تماماً كما عانت سفينة أوذيس حينما خرجت عن وجهتها بفعل الرياح التي انطلقت من الكيس.
ثمة صدى للرياح الأربع، في مسرحية أسخيلوس. فبعد أن يقاد برومثيوس إلى أبعد نقطة على الأرض، يمسمر على صخور قمّة جبلية بسلسلة قوية. كانت الريح سافعة نهارأ، وصرصراً ليلاً.
برومومثيوس يسمع حفيفاً، الحفيف يقترب. ما من إنسان بقادر على الآرتقاء إلى تلك القمة المنعزلة.
مع ذلك يقول:
“أيّاً كان القادم فإنه يجلب الخوف”
ورغم طمأنة الكورس له فإنه يصيح:
“لقد أصبحتُ ألعوبةً تعسة بيد كلّ ريح”.
وفي آخر المسرحية حين تأخذ التهديدات دور الفعل والتطبيق. يصرخ برومثيوس:
“الغبار يرقص في نافورة مدوّمة
مهبّات الرياح الأربع تتهاوش معاً
تنتظم في صفوفٍ للمعركة”.
على هذه الشاكلة وجد مكبث نفسه بلا مكوث وبلا هروب:
“لقد ربطوني إلى وتد لا أقوى على الهروب
وعليّ كدبّ المراهنات أن أقاتل
شوط الكلاب الأوّل”.
على أية حال، قبل التمعن برياح المسرح الشيكسبيري، لا بدّ من التوقف قليلا عند االكتب الدينية التي ظهرت فيها كذلك، الرياح الأربع مع الفارق، ذلك أنّ الملائكة في التوراة والإنجيل هي التي أنيطت بها مهمة التنفيذ.
جاء مثلاً في رؤيا يوحنا اللاهوتي (7-1):”وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة واقفين على أربع زوايا الأرض ممسكين أربع رياح الأرض حتى لا تهبّ ريح على الأرض ولا على البحر ولا على شجرة ما”.
الفارق الآخر المهم، هي أن الرياح، قبل الكتب الدينية، كانت موجهة ضدّ أفراد معينين. بينما شرعت رياح الكتب الدينية بتدمير قرى ومدن، وإبادة أقوام بالكامل كقصاص. ففي سفر إرمياء- العهد القديم استنفرت الرياح لاجتياح عيلام:” وأجلب على عيلام أربع رياح من أربعة أطراف السماء وأذريهم لكل هذه الرياح ولا تكون أمّة إلا ويأتي إليها منفيّو عيلام” (سفر إرمياء-49.36).
الشئ بالشئ يذكر، ثمة فرق جسيم وغامض بين دلالة الريح ومعناها بصيغة المفرد، ودلالة الرياح ومعناها بصيغة الجمع، في التوراة والانجيل. سيتوضح الفرق أكثر في الكتاب العزيز.
قد يكون من المفيد أنْ نذكر أن معظم مفسري القرآن الكريم فرّقوا بين معنى الريح بصيغة المفرد، وبين
الرياح بصيغة الجمع. الريح بالإفراد في اجتهادهم رمز للعذاب، بينما الرياح بالجمع تعني الرحمة.
يبدو أن هذا التفريق، وإنْ صحّ في الأعمّ، إلا أنّه لا يطّرد. ففي سورة يونس مثلاً وردت صفتان متناقضتان للريح في آية واحدة. فهي ريح طيبة مرّة، ثمّ ريح عاصف. أكثر من ذلك قرأ حمزة والكسائي
الرياح بصيغة المفرد في عدة سور، منها الكهف والنمل وفاطر والشورى والجاثية…
من الطريف، ما روي عن السلف من اجتهاد من أنّ:”ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة. قال الرماني:” جُمعتْ رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح: الجنوب والصدى والشمال، وأُفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور”.
على أية حال رأينا كيف أنيطتْ بالملائكة في التوراة والإنجيل مهمة تسيير الرياح. إلا أنّ القدرة الإلهية في الكتاب العزيز استغنت عن دور الملائكة، أو هكذا يبدو، فأصبحت تحت إمرة الخالق مباشرة، أي لا دور للملائكة في الآيات التي تضمنت الريح.
ولكنْ مع ذلك عُهد أمر الرياح إلى النبي سليمان في آيتين في سورة سبأ وسورة الأنبياء:” ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض…”
لا مشاحّة، اختلفت الرياح في القرآن الكريم عمّا سبقها من رياح. فهي الآن أوسع جغرافية وتضاريس، وتضرب في أعماق التأريخ تجتاح مدنا وقبائل وأقواماً، برّاً، وتلاطم السفن بحراً. هبوبها لا يُصدّ. لا تبقي ولا تذر. قاطعة لا تتراجع. هذا ما حدث لعاد: “وأمّا عاد فأُهلكوا بريح صرصر عاتية سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية”(الحاقة)
رأينا أعلاه ما كان من أمر عيلام التوراتية. كان مجرد تهديد ووعيد خطيرين، يتحدث فيها الراوية عمّا سيحدث لعيلام في المستقبل.
أما آية عاد فهي وإن تحدثت بصيغة الماضي، إلا أنها مرتبطة بصورة فريدة بالزمن الحاضر. الزمنان الحاضر والماضي مضفوران معاً، وكأنهما يقعان في آنٍ واحد. تأليف غريب لا ريب. أوّلاً توحي كلمتا صرصر وعاتية، وتفصيل المدة التي دامت بها الرياح، بالأيام والليالي، وحسوماً (أي المشائيم المتتابعات) على أن الراوية وكأنّما يروي الأحداث كشاهد عيان حينما وقع الحدث. وحينما قال:” فترى القوم” وكأنماّ أراد أن يشرك القارئ أو السامع فيما كان قد رأى. ولتقريب الصورة أكثثر ولزيادة صدقها ويقينيتها جاء بهذا التشبيه النادر:” كأنهم أعجاز نخل خاوية” أي لا هروب ولا ثبات. خراب بخراب وعقم.
***
أعلاه، مجمل الرياح التي تأثّر بها شيكسبير، إنْ مباشرة عن طريق التوراة والمسرح الإغريقي، أو
خلاف ذلك، عن كلكامش. ولكنْ كما هو ديدن شيكسبير. فإنه لا يكتفي بالنقل، وإنّما يحوّل المادة الخام، إلى نفائس من مصوغات الكَلِم. يمكن القول بهذا الصدد، إن شيكسبير آبتكر ثلاثة أنواع من الرياح لم تكنْ موجودة من قبل. إنها بنات أفكاره هو.
ظهرت الريح الأولى المبتكرة في مسرحية “العاصفة”. الشخصية الرئيسة في هذه المسرحية هو بروسبيرو. كان دوق ميلان. خلعه شقيقه أنطونيو وسلّمه مع آبنته الصغيرة إلى البحر ليواجها مصيرهما. ولكنْ نجا بروسبيرو وابنته، ووجدا نفسيهما في جزيرة خالية من السكان إلاّ من كليبان (أمّه ساحرة وأبوه شيطان) ومن طيف آسمه أريل. تعلّم بروسبيرو في هذه الجزيرة بصورة ما، السحر، فأصبحت له القدرة على صناعة العواصف.
علم بروسبيرو ذات مرة، أنّ شقيقه الذي اغتصب الحكم منه على متن سفينة في البحر مع عائلته وحاشيته. فما كان منه إلاّ أنْ صنع عاصفة دمرت السفينة وألجأتها إلى الجزيرة.
من النافلة أن هذه، هي المحاولة الأولى في التأريخ أن يقوم شخص من الإنس بصناعة عاصفة مضاهياً بذلك الآلهة والطبيعة معاً.
ظهرت الريح المبتكرة الثانية في مسرحية “الملك لير”.
الريح في هذه المسرحية، وإنْ كانت ظاهرة طبيعية محض، إلا أنها تتأثر بوضع الإنسان مأساة أم ملهاة. تبكي إنْ بكى وتحزن إن حزن. بكلمات أخرى ان الجرم الصغير-الإنسان Microcosm هوالذي يؤثر في العالم الكبير Macrocosm . (وهذا اعتقاد قديم قال به بطليموس أوّلاً، وآبن عربي فيما بعد). وكان هذا هو اعتقاد الأليزابيثيين. مع ذلك فالجرم الصغير (الإنسان) يتحكم به النجم الذي وُلد تحته. محنة الملك الأليزابيثي إنه كان يسعى للتمرد على ذلك النجم. أيْ على قَدَرِهِ، وهذا عين ما سيفعله مكبث.
بين هذا وذاك ظهرت في رياح الملك لير ثيمة جديدة. أوّلاً جرّد شيكبير الريح من المهام الربوبية والدنياوية ووظفها توظيفاً فنيّاً. فمن ناحية وسّع شيكسبير من جنون الشيخ لير، وعمّق مأساته عن طريق شراسة الرياح التي هبّتْ عليه بلا رحمة أو هوادة. والعكس صحيح أيْ لنا أن نقرأ جنون الريح من جنون الملك لير.
الريح المبتكرة الثالثة نعثر عليها في مسرحية مكبث. ولكنْ لنبدأْ من البداية.
نعلم من الفصل الأوّل- المشهد الأوّل أنّ ملْكية الرياح باتت بيد الساحرات الثلاث. ما من آلهة وما من طبيعة. الساحرة 2 لديها الآن: “كل الرياح الأخرى/ وكلّ الموانئ التي تهبّ منها”.
ربما لهذا السبب ذهب إليهنّ مكبث بعد أن يئس وفرائصه مرتعبة من الخوف لمعرفة أسرار ما يخبئه له المستقبل. (الفصل الرابع- المشهد الأوّل) راح يتوسل إليهنّ أن يجبنه حتى “لو فككنَ عقال الرياح وجعلنها تقاتل الكنائس…”. لم يجدْ مكبث لديهنّ من طباب لعلته. بلغ يأسه الزبى، فتحوّلت الريح في تصوّره إلى قدرٍ لا بدّ من تحديه:
” تعال أيها القدر إلى حلبة القتال/ ونازلني حتى الرمق الأخير” (الفصل الثالث- المشهد الأوّل).
ولكنْ حينما نزل مكبث إلى الحلبة وجد نفسه مثل خمبابا، فآعترف بقنوط “لا مهرب من هذا المكان ولا مكوث هنا/ بدأت أتعب من شمس الحياة/ وأرغب لو ان هيكل الوجود يتدمر.ـ …إعصفي يا رياح!/ تعال يا خراب”.
***
قد لا يجمل إقفال هذه المقالة دون التنويه بأهم سفينة أدبية مصنوعة من خيال خصيب وكلمات مروّى فيها، في بحر الخزر. بنى هذه المدينة وأحكم بناءها بديع الزمان الهمذاني وهو من أكبر المبتكرين في الأدب العالمي. أهمية هذه السفينة من أهمية أحد ركّابها أبو الفتح الإسكندراني.
كانت السفينة عائدة إلى ديارها بقنوط. دون غنيمة. ولكنْ ما أنْ جَنّ الليل حتى انتظمت سحابة تمدّ “من الأمطار حبالاً”. تلاطمت الريح بالموج فباتت السفينة بيد الهلاك. اضطربت النفوس وساد الهلع. علا صياح الركاب، ورفعوا أيديهم إلى السماء. إلاّ راكب واحد. كان هادئاً، لم يرمش له جفن. في وسط هذا الهول تفتّق ذهنه بدهاء عجيب عن حيلة، ما فوقها حيلة. قال إن لديه حرزاً يقيه من الغرق، ويستطيع أنْ يمنح حرزاً مماثلاً لكل راكب يدفع ديناراً مقدماً وديناراً بعد نجاة السفينة.
بقدرة ما، نجت السفينة، وامتلأت صرة ابي الفتح الإسكندراني بالدنانير. سأله الراوية، عيسى بن هشام
كيف تسنى له أن يخترع حيلة كهذه. أجابه الاسكندراني إنني لم أضرّ بالحرز أحداً، وإنما جعلت نفوسهم تطمئن أوّلاً، ولو كانت قد غرقت السفينة، لكنتُ قد غرقت معهم، فلا يطالني لوم.