“التّحقيق”
غادة الأغزاوي
” عِندَما تَشرَعُ في التَّحَدُّثِ بلغَةٍ أجْنَبِيّةٍ، تعابيرُ الوجْهِ، اليَدان، لُغَةُ الجَسَدِ، هذِه الأشياءُ كلُّها تتَغَيَّر. إنّكَ تكونُ قدْ تَحَوّلتَ إلى شخصٍ آخرَ ” إيزابيل آدجاني/ ممثّلة فرنسيّة.
***
أثناء التَّحقيق، الشُّرطيّة تسألُ: ” من كانَ يسوقُ السيَّارة صباحَ يومِ الخميسِ باكراً؟”
أسألُ الرَّجلَ بدوري. ” منْ كان يسوقُ السّيارة صباحَ يوم الخميسِ باكراً؟”
الرّجلُ الكبيرُ في السِّن، يجلسُ على يَميني. يرتدي معطفاً بالياً. أظافرُه طويلةٌ. على عُنقِه يعلِّقُ كيساً من القماش، ربما يحوي بعضَ الأدوية أو أوراقهُ الشَّخصية. ينظرُ إليَّ مليّا نظرةَ رَجلٍ قرَويٍّ توجِعُه مضاربُ الحَياةِ. أنظرُ إليهِ مَليّا. يُجيبني: ” والله مَا هَزِّيتْها. هَذيكْ الطّموبيلْ راهْ عامْ وهيَ عا مَحْطوطَة، ما عَنديشْ باش نْسورِيها. مْخَلِّيها ڭُلتْ حْتّى تْجيبْها الوَقتْ ونْبيعْها. عامْ هَذي والزْيادة ما هَزِّيتْها ولا حَرِّكْتها منْ بلاصْتْها حْتّى ناضْ فِيها الرّْبيعْ لداخلْ! “
أبتسمُ. ثمَّ أقولْ : ناضْ فيها الرّْبيعْ!
يعيدُ مُبْتسماً : “والله آبنتي حتّى ناضْ فيها الرّبيع”
أوصل كلامَهُ إلى الشُّرطيةِ.
الشّرطية لمْ تضحَك.
نعودُ إلى التَّحقيقِ. الشّرطيَّة تسألُ : ما اسمُ والدتِهِ؟
أسألُ الرَّجلَ بدَوري: ما اسمُ والدتكَ؟
الرَّجلُ الكبيرُ في السِّن، يرفعُ رأسَهُ عالياً، وقدْ بدا في عينَيهِ قليلٌ منَ البريقِ. ذلكَ البريق الذي يظهرُ فجأةً عِندما نَتذكَّر شخصاً عزيزاً لم يعدْ موجوداً. يُجيبُني: ” كانتْ سْميتها عْبُوشْ”
أوصل كلامهُ إلى الشُّرطية.
الشرطيّةُ تسأل: ” وكيفَ يُكتبُ هذا الاسمُ ؟”
أسأل الرّجلَ بدوري: ” هل تعرفُ كيفَ يُكتَب؟”
يُململُ رأسَه ويقولُ: ” لّا ما كانوشْ يْكَّتبو فْ ذاكْ الوقْت”
أُملِي على الشُّرطية الاسمَ بالفرنسيَّة مِثلما يُنطَق.
يَستمرُّ التَّحقيق. الرّجل الكبيرُ في السِّن بدأَ يشعرُ بالدّوارِ وظهر على وجههِ بعضُ العياءِ والعرقِ. يقولُ لي: ” خَاصْني نْدڭْ لانْسونِينْ”. أخبرُ الشُّرطية بالأمرِ. تتوقَّفُ للحظةٍ عنِ الرَّقن. ثمَّ بصوتٍ عالٍ تُوجِّه إليهِ: ” هذا التّمثيلُ لنْ ينفعكَ في شيءٍ. نحنُ نعرفُ بأنك أنت، أنتَ منْ كانَ يسوقُ السّيارةَ. وكلّ الأدلّة تقولُ ذلك، أنتَ في مأزقٍ كبيرٍ، كبيرٍ للغايةِ”.
أنظرُ إلى الرّجلِ الكبيرِ في السّن. أنظر إلى الكيسِ المُعلَّق حولَ عُنقه. أتساءلُ، ماذا يوجدُ داخلَ ذلكَ الكيسِ؟ حقنَةُ الأنسولينْ، جَوازُ سَفرهِ، بطاقةُ إعانةٍ منَ الدّولة، صُورٌ قديمة لوالدتهِ عْبُوشْ؟ ربّما لمْ تأخُذ عْبوشْ صوراً في ذلكَ الزّمنِ البَعيد!! لستُ أدري. يمكِنني أن أسألهُ، لكنَّ الشُّرطية لم تطلب منِّي ذلك.
أقولُ له بهدوء: “أنت هنا لوقتٍ طويلٍ، معَهم أدلّة، لدَيكَ الحقُّ في طلَبِ مُحام تُخَوِّلُه لكَ الدّولة”. ينهمرُ أمامي بالبكاءِ، أمامَنا جميعاً. يلتفتُ نحوَ الشُّرطية، يقدِّم يَدهُ إلى فمِه، ويطبعُ أصابعَهُ على شَفتيهِ، ثمَّ يَهزُّها في حركةٍ سريعةٍ. يعيدُ ذلكَ، كأنَّه يُهدهِدُها.
قبلَ أن أقولَ للشُّرطية، إنَّه، بهذهِ الحَركةِ، يَتوسَّل إليْها، كانتْ هي قدْ انتفضتْ واقفةً، وبصَوتِها المرتفعِ مرَّةً أخرى: ” قولي لهُ أنْ يتوقَّفَ عن إرسالِ القُبلِ إليَّ!”
شاعرة وناثرة من المغرب
من المجموعة القصصية “علبة الرسائل الصفراء”