كاميرا محمد إسماعيل جابت عالم التهريب وتاريخ اليهود المغاربة
عبدالرحيم الخصار
عبدالرحيم الخصار
كان المخرج المغربي محمد إسماعيل، الذي غادر عالمنا السبت الفائت، قريباً في أعماله السينمائية من حياة الناس ومن انشغالاتهم اليومية، وحاول عبر كاميراه تسليط الضوء على ما يعيشه مواطن اليوم من قهر ومعاناة، بسبب صراعه المستمر مع إكراهات الحياة اليومية. تطرق في أفلامه إلى مواضيع حساسة مثل الهجرة السرية والتشرد العائلي والإتجار بالمخدرات وتهريب السلع في شمال البلاد وبطالة الشباب الحاصلين على شهادت جامعية وتاريخ اليهود في المغرب واستغلال الشباب في الحرب باسم الدين.
وإذا كان الراحل قد قدّم الكثير إلى السينما المغربية، فيبدو بالمقابل أن هاته السينما هي التي قتلته. ويعود أصل الحكاية إلى ما عاناه مع فيلمه الأخير “لامورا”، الذي كلّفه إنفاق كل ماله الخاص، في انتظار الدعم الذي لم يصله إلا ثلثه، مما اضطره إلى التوقيع على شيكات من دون رصيد، والدخول في دوامة تبدأ من مطالبة أصحاب الشيكات بمستحقاتهم وتنتهي بإصابة الرجل بانهيار عصبي، ثم بجلطة دماغية ومكوثه في المستشفى في حالة من الإهمال والتنكّر. وكان المخرج الراحل قد عبّر منذ انطلاق تصوير فيلمه “لامورا” أنه وضع حبل مشنقة حول عنقه، مدركاً تماماً حجم المغامرة التي يخوضها، خصوصاً بعدما شرع المسؤولون الذين وعدوه بالدعم اللوجستي إلى إغلاق هواتفهم في وجهه، مما جعل مصاريف الإنتاج تتضاعف. وكانت زوجة المخرج محمد إسماعيل، خلال مرافقتها له في محنته الصحية، قد انتقدت مدير الإنتاج واتهمته بالتبذير والتخطيط السيّء للتدابير المالية.
في أحد حواراته الأخيرة، صرّح، وهو على فراش المرض، بأنه فقد الأمل في الجميع حكومةً ومسؤولين، متأسفاً على أنه أفنى حياته في خدمة السينما، بينما قوبل ذلك بالكثير من التنكّر.
ومنذ الصيف الأخير والحالة الصحية لمحمد إسماعيل في تدهور، فقد انتقل بين مستشفى مارتيل حيث يقيم، والمستشفى العسكري بالرباط، وعيادة خاصة بالدار البيضاء، إلى أن فارق الحياة إثر تعاقب الجلطات الدموية، خصوصاً أنه كان يعاني من داء السكري وارتفاع الضغط الدموي. وخلال الشهر الماضي، كان الراحل قد أجرى عملية في القلب، وتحسنّت حالته بعدها، غير أنها ساءت في الأيام الأخيرة.
سينما إنسانية
ولد محمد إسماعيل في مدينة تطوان شمال المغرب عام 1951، ودرس القانون في الرباط، اشتغل لاحقاً في التلفزيون المغربي، أخرج برامج تلفزيونية عدة، وله أفلام مطوّلة عدة، ابتعد فيها كلّياً عن السينما التجارية، وتناول بعمق، قضايا تاريخية وسياسية واجتماعية. ففي فيلمه الأول “أوشتام”، توقف عند معاناة المغاربة خلال مرحلة الاستعمار الإسباني، ثم ناقش في فيلم “وبعد” مشكلة الفقر ومحاولة الشباب ركوب قوارب الموت من أجل الوصول إلى أوروبا، حالمين بعالم أفضل. أما عمله السينمائي “هنا ولهيه/ هنا وهناك”، فيناقش موضوع الاغتراب والشتات الأسري وما يعانيه المهاجرون المغاربة حين يرغبون في العودة إلى بلادهم، وما يتعرّضون له من استغلال واحتيال. ويتناول فيلمه “وداعاً أمهات”، أزمة الهوية الدينية عبر تطرّقه إلى قصة حب بين شاب مسلم وفتاة يهودية، وفتحه لملف تهجير اليهود المغاربة إلى إسرائيل في ستينيات القرن الماضي.
في فيلم “أولاد البلاد”، يعالج مشكلة البطالة الذي يواجه خريجي الجامعات في المغرب، إذ يجدون أنفسهم في حالة عدم الحصول على وظيفة، أمام مسالك أخرى معتمة، إما مزاولة أشغال هامشية لا تليق بمستواهم المعرفي، أو الدخول إلى عالم الإتجار في الممنوعات أو الالتحاق بالجماعات الإرهابية.
أما فيلمه الأخير “لامورا”، فيستعيد قصة شباب مغاربة من شمال البلاد وجدوا أنفسهم يقاتلون باسم الدين، ضمن جنود الديكتاتور فرانكو في حربه على المتمردين الحمر في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. غير أن السبب الحقيقي الذي قاد هؤلاء الشباب إلى خوض حرب ليست حربهم، هو ضمان لقمة العيش في زمن المجاعات والأوبئة. بعد الحرب، يعود بعض هؤلاء الشباب إلى بلادهم بإعاقات وعاهات، ويُدفن البعض الآخر في إسبانيا من دون أسماء وأنساب، إذ ستكتب على شواهد قبورهم كلمة “مجهول”.
بموت محمد إسماعيل على هذا النحو التراجيدي، تُطرح إشكالية اغتراب الفنان في بلاده وما يعانيه من جحود ونكران، حين يختار أن يكون جادّاً في فنّه وراغباً في التغريد خارج السرب.