فيليب جاكوتيه: الامّحاء طريقتي فـي التألق

تقديم وترجمة: إسكندر حبش

تقديم وترجمة: إسكندر حبش

بدأب وصبر كبيرين، بنى الشاعر الفرنسي فيليب جاكوتيه، عمارة شعرية متفردة، خاصة، لا تجد شراكتها إلا مع نفسه، إذ نجح طيلة هذا الدرب الشعري الطويل في أن يبقى بعيدا عن التيّارات الأدبية والشعرية المتصارعة، وبعيدا عن الراهنية– إذا جاز التعبير– ليخط مسارا جعله واحدا من أبرز الأصوات المعاصرة. هذا الأمر، ربما، جعله يدخل مؤخرا في سلسلة “لابلياد الشهيرة” وهو بعد على قيد الحياة، إذ قليلون هم من دخلوا هذه السلسلة وهم ما زالوا يتابعون نشاطهم الكتابي.

ثمة أحاسيس داخلية تتكشف لك وأنت تقرأ شعر فيليب جاكوتيه، كما تتولد فيك ثقة، بأن الشعر ممكن أن يكتب من دون زخارف بلاغية وبيانية. فعبارته، تهب نفسها من دون لف ودوران، كأنها تبحث عن هذا “الواقع” المرئي، الذي يبحث عنه، لتكشف له ولنا، هذا العالم غير المرئي. من هنا تظن للوهلة الأولى أننا امام “بعض العبارات الخفيفة المتروكة”، لكنها في الواقع، عبارات تمتاز برشاقة وانضباط، جعلت من عمله الشعري “أحد أهم الأعمال الشعرية في العالم اليوم” (على قول الناقدة مونيك بيتيون.

أمام ذلك تأتي عبارة جاكوتيه، الشعرية، وكأنها لا تقول ما باستطاعتها أن تشاهده. ومن هذا الحيّز، ينبغي جيدا، تسمية ذلك بـ “الأساس الأخلاقي” (Ethique) لهذا الشعر. فجاكوتيه، وكما يصفه جان ستاروبنسكي – في المقدمة التي كتبها لأعماله الشعرية (منشورات “شعر / غاليمار”)–”لا يخال بأن الحقيقة هي كلمة لا طائل تحتها”، وبأنه “يحاول أن يصالحها مع العبارة الشعرية لأن شعره يستمد قوته من اقتضاء الدقة”.

هذه الدقة إذا جاز التعبير، لا نزال نراها واضحة في “هذا القليل من الضجيج”، عنوان واحدة من مجموعاته الشعرية الأخيرة (منشورات غاليمار)، وهي التي أتت بعد أكثر من ستين عاما من الكتابة. فخلال هذه المسيرة الطويلة، لم نجد مرّة أنه حاول شعرا صاخبا أو شعرا ذا ضجة لا متناهية، بل على العكس من ذلك، لم يحاول أبدا أن يتحدث بصوت “أعلى من نشيد العصفور البسيط”، أن “يعطي صوتا عاليا ليغطي صمت الطبيعة”. من هنا، وبموازاة ذلك، نجد أنه منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، قد كتب هذا الانطباع العزاء: “كلما شختُ كلما آمنت بالجهل/ كلما عشت قلّما امتلكت أو هيمنت”. جملته هذه من مجموعة حملت يومها عنوان “الجاهل”، التي نقرأ فيها أيضا: “الامّحاء طريقتي في التألق”.

هذا الامّحاء، قاده منذ البداية، الى الهروب من وسائل الإعلام ومن كل حفلات المجد والمؤتمرات التي كانت ستعقد على شرفه. ومع ذلك، فهو يعد اليوم واحدا من كبار شعراء هذا العصر الذي لا يفهم البساطة. ومع ذلك بقي جاكوتيه مخلصا لهذا المفهوم في الكتابة البعيد عن كل أضواء مبهرجة، ليدخل عميقا في وحدة أشبه بالتنسك.

في شعره كما في نثره، وما من شاعر أدرك ذلك أكثر منه، اكتشف أن ليس عليه الرضوخ لهذا التقسيم الاعتباطي في الكتابة، لهذا نجد أنه يمكن لعمل جاكوتيه الأدبي أن يجيب على عنوان كتابه هذا: “هذا القليل من الضجة”. لكن علينا أن لا نخطئ في ذلك، إذ إن هذه الرصانة لا تشكل سمة بسيكولوجية، كما أنها ليست صنواً لكبرياء غير معترف به. ربما كان ذلك يشكل أمرا أكثر خطورة، إذ إنه يعود للبحث عن الحقيقة. وبخاصة إذ عدنا إلى العمل النقدي الذي يتألف منه إبداعه، كما إلى الترجمة التي تشكل جزءا كبيرا من هذا العمل، لأننا لا نجد أي أفق آخر لذلك كله.

يغلّف النهار الذي يغيب ويصل إلى نهايته الشاعر. إنه يتأمل، يختبر في داخله نمو الظلّ وتكاثره. لذلك يعيد الكتاب، في البداية، التساؤل عن موت الأقرباء منه. يتوزعون ما بين الأسماء المعروفة والأقل شهرة. لذلك تأتي المقطوعات التي يكتبها عنهم وكأنها بمثابة جمل إهداء كتلك التي تكتب على صفحات الكتب الأولى. إلا أنها إهداءات حزينة… من هذه الأسماء جان إيشير (1999)، لوي رينيه دي فوريه، في العام التالي، ثم تتسارع الوتيرة: بيير ليريس، أندريه دو بوشيه، برنار سيميوني… ثمة في ذلك كله صداقة مليئة بالحزن والحِداد من جرّاء الموت، ثمة وعي بالبؤس الإنساني الذي نلمسه بإصبعنا ، هذا النبض الذي يجب على القلب أن يتخطاه ، وعلى الطرف الآخر من ذلك، على الطرف المحتشم، نرى شيخوخة الشاعر التي تشكل مادة الكتاب العميقة.

إلا أن الكتابة لا تشكل المادة الوحيدة ولا نبرته الرئيسة. كلمات ليست من أجل الأموات/ بل لعالم هذا العالم ، وفي مكان أبعد، هذا الشرط القاسي، المليء بالأمل أيضا لما يحمل داخل العبارة. وفي ما وراء الأمرين، لا بد أن نجد أيضا هذا الأمل في البقاء بعد الموت (من خلال العبارة بالتأكيد) كأن يقول: قصائد كما لو أنها لمعان لن ينطفئ كليا معنا . أو حتى، ضحكة الطفل تلك البسيطة، التي تشبه عنقود عنب أحمر التي تنبجس وحدها على الصفحة وبشكل كاف. أبدا ودائما، تبدو مهمة الشاعر أن يعود ليؤكد ما سنراه في نظام النور قبل الكارثة

يكتب جاكوتيه عن الضجيج بالجمع، هذا القليل من الضجيج الذي لا يزال يصل إلى القلب، قلب كشبح تقريبا . حتى في هذا التخفف وفي هذا الهروب، يبرهن الشاعر عن الحميمي الذي فيه، عن المتعدد أيضا، عن التنوع، عن موتيفات الفرح التي لا نهاية لها، عن الاندهاش. فحول هذا القليل الذي يدوم نجد أن لا شيء سيغطي الشائعات الأخيرة؛ ما من دمعة واحدة ستشوش مرأى الزمن التي تصبح أكثر فأكثر

ثمة بعد آخر نجده في كتابة فيليب جاكوتيه، وهو هذا التفاعل مع أعمال الماضي ومع الكتّاب الكبار الذين صادقهم وترجم لهم في غالب الأحيان: ريلكه، ليوباردي، هندكه…. تفاعل يبدو وكأنه إعادة قراءة وتعليق تحت تأثير نور العمر الذي يخف. هل لذلك يشير إلى كافكا، في نهاية الكتاب، وبخاصة إلى الجملة الأخيرة التي قالها وهو فوق سرير الموت: ضع يدك على جبيني للحظة كي تعطيني الشجاعة .

إنها أيضا شجاعة الشفافية في الكتابة وفي الحياة. هو أيضا شعر يشبه كاتبه، إذ نرى من خلاله هذه الشفافية التي تشق كل شيء حتى تصل إلى النور الأخير. نور لكلمات تذهب رأسا إلى لمعانها ولتهرب إلى البعيد كي تنتظر قارئا تائها لا يرغب في التوقف عند الصلابة التي ترهق الكتابة في كثير من الأحيان.

بالتأكيد إن قراءة جاكوتيه، ليست سببا لمتعة فقط، بل تعود لتطرح علينا السؤال الكبير، سؤال الكتابة الحقيقية.

ولد فيليب جاكوتيه في مدينة “مودون” (سويسرا) عام 1925، وبعد دراسته للآداب في جامعة “لوزان”، عاش لعدة سنوات في باريس، حيث عمل في منشورات “ميرمو”، وبعد زواجه عام 1953، استقر في مدينة “غرينيان” في “الدروم”.

نشر العديد من المجموعات الشعرية منها “البومة” و”نزهة تحت الأشجار” و”الجاهل” و”هواء” و”دروس” وغيرها الكثير. كما عمل في حقل الترجمة فكانت له مساهمات كبيرة وفعالة في نقل أدب كل من هولدرلين وريلكه وموزيل وأونغاريتي وهوميروس إلى الفرنسية. وجاكوتيه ليس غريبا عن القارئ العربي، إذ صدرت له عدة ترجمات منها المختارات التي أعدها ونقلها إلى العربية كاظم جهاد وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر

هذا الحوار الذي ننشره هنا مع الشاعر، يتألف في الواقع من عدة حوارات أجريت معه، وفي غير صحيفة ومجلة – وهي “المجلة الأدبية” (عدد شهر 6 عام 2005)، و”كولتور أكتيف” (عدد شهر 8 عام 2014)، وأسبوعية “لونوفيل اوبسرفاتور” – إلا أني ارتأيت أن أجمع الأسئلة والأجوبة في سياق واحد لتبدو وكأنها وحدة واحدة، تحاول أن تطلّ على تفاصيل الكتابة عنده.

الحوار:

* منذ متى وأنت تعيش في غرينيان؟

** وصلت اليها عام 1953، سنة زواجي. جئت، بعد دراستي في سويسرا، لتمضية 7 سنوات في باريس، حيث لم يكن لديّ من متاع سوى قصائدي. من غير المجدي أن أقول إنه، مع ما كنت أكسبه من عملي كمترجم، توجب عليّ الاقامة في الريف. بحثت (مع زوجتي)، في البداية، عن منزل قرب البحر، ومن ثم توقفنا في غرينيان، في وادي الرون، حيث كان والديّ (وهما من جنيف) قد أقاما لعدة مرات هنا.

* لماذا لم تعد الى سويسرا، الى أراضي غوستاف رود، معلمك في “الحلولية”، والذي تصفه بالقول “كان مشّاء بشكل غير متناه وأكثر وحدة ممّا كنتُ عليه”؟

** هنا أيضا، ثمة سبب اقتصادي. من الصعب أن يعيش المرء من قلمه في بلد موسر حيث كان يتوجب عليّ أن اصبح استاذ مدرسة، وهذا ما قُدّر لدراستي أن تقودني إليه.

* ثمة كلمة جميلة لموريس شاباز، تخصّك، يقول فيها: “كان يمكن لفيليب أن يكون أفضل استاذ جامعي، لكن لو ترك له أن يبقى لأمنيته لكنه أصبح، أليف الريف”؟

** لم يكن التعليم يستهويني حقا. ليس من طبعي أن أعطي الدروس. في فرنسا، ارتبطت مع شعراء، بصداقات، أستطيع ان أقول إنها ساعدتني على الكتابة. في باريس، قرأت أشياء حقيقية، كتلك التي كتبها جان تارديو أو بيير ليريس. أحببت كثيرا غوستاف رود، لكنه كان غير مواصل للنقد. فان السهولة والسرعة التي غادرت بهما مسقط رأسي، تظهران وعلى العكس من العديد من مواطنيّ بأنه لم يكن لدي أي ارتباط قوي، فأنا لا أنتمي الى الأدب السويسري الروماندي (المكتوب بالفرنسية). منذ ذلك الوقت لم أشعر بأي حنين الى “الفوروا”. مع موت غوستاف رود، انقطعت آخر صلاتي مع موطني.

* ما كانت عليه ردة فعلك بهذا الاعتراف الكبير الذي مُنح لك مؤخرا، وبخاصة الاعتراف بعملك ككاتب؟ ولا بدّ أن نذكر بالطبع الأطروحات الجامعية التي تتناولك بكثرة، نعرف هذه الحميمية في شعرك كذلك نعرف التواضع الذي تحليت به طيلة مسارك الشعري؟

** كلّ كاتب يشعر بالسعادة حين يجد صدى لما قام به، حتى وإن كان لا ينتظر ذلك في البداية. كما نعرف، أنا شخص يشكّ بنفسه وبما يكتبه. هذه الأصداء، التي كانت متصاعدة على مرّ السنين، كانت تشكل راحة، ولكنها راحة للحظات، إذ سرعان ما كنت أعود لأسقط في الشك. بالرغم من كل شيء، هذا الاستقبال (لعملي) لا بدّ أن يثير النشاط، مؤثرا. أما في ما يخص الأعمال الجامعية، فسأضيف بأني شخص لم يكن يحب لا التعليقات ولا التحليلات، أشعر أحيانا بالانزعاج تجاه أولئك الذين يقضون الوقت وهم يدرسون كتبي لدرجة أنهم لا يعود بإمكانهم بعد ذلك قراءتها والحكم عليها مثلما كانوا يتمنون.. أذكر أن ريلكه قال ذات يوم إنه لم يقرأ ما كتب عنه مطلقا. لا أعتقد أن ذلك الأمر كان صحيحا، وإن كنت أظن أنه بقي بالقرب من هذا المبدأ أي انه كان “يتصفح” الكتب التي خصصت عنه.

الخطر في أي اعتراف، وبخاصة في ما يخص الدراسات العميقة والمعمقة، انها تخرجك من عملك ومن نفسك، كما أنها تجعلك تنظر إلى نفسك من الخارج. أظن أن الأمر يشكل خطرا يمكنه أن يصيب عملك الخاص بالشلل، لذلك أبقى على مسافة منها. إن قرأت أو تصفحت هذه الدراسات، فذلك بطريقة سرية جدا، وبنية أن أنساها بأسرع طريقة ممكنة، وذلك أسهل طريقة لأنسى بسرعة السيئ والجيد. إنه خطر حقيقي علينا مواجهته بابتسامة إذ ليس تعذيبا.

* ثمة ملاحظات تكونت لديّ نابعة من حوارات قمت بها مؤخرا ومن انتباهي لتبريرك في خياراتك لما نشرته مؤخرا، تعطيني أحيانا الانطباع بأن ثمة حرية جديدة “وهبت” لك، قياسا إلى “الرقابة” الذاتية التي كانت تشكل أمرا طبيعيا بالنسبة إليك، إذ تتراءى اليوم أنها أخف وطأة. ألم يساهم هذا الاعتراف بعملك الذي يبدو أوضح اليوم بذلك؟ هل ساعدك في نشر أو إعادة نشر نصوص شخصية تعود إلى الماضي…؟

** أجل، أعتقد أن ذلك قد لعب دورا في هذا الأمر، وإن كنت أظن أن ذلك عائد لهمّ ما بسبب العمر. شعرت بالحاجة إلى إعادة النظر ببعض الأشياء، بأن أقوم بجردة بمعنى من المعاني، وبخاصة رغبت في أن لا أترك لغيري (بعد رحيلي) عناية نشر النصوص التي بقيت مخطوطة. أعرف شره الجامعيين، أحيانا ورعهم تجاه أي أقصوصة ورق! أذكر جيلبير غيزان الذي عمل معي على أوراق غوستاف رود في كاروج، لم يكن يرغب حتى في رمي فاتورة مطعم. أفضل أن أختار بنفسي ما أراه يستحق أن ينشر بعدي.

* أرغب، ولكي تسمح لنا في القبض على هذه النظرة التي تحملها عن حياتك كإنسان وكاتب، في أن تتذكر الأمكنة التي كانت مهمة بالنسبة إليك: بأي معنى لعبت الأمكنة التي عشت فيها أو التي زرتها دورا في كتاباتك (أمكنة الطفولة، سويسرا، باريس، غرينيان، ايطاليا، اليونان)…

** أعتقد أن كتبي تجيب على هذا الأمر بطريقة واضحة في ما يخص “غرينيان”. هذا المكان، بطريقة غير متوقعة، كان مصدر العديد من الكتب أو بالأحرى وهذا الأهم مصدر التجربة التي غذّت هذه الكتب والتي كانت مصدرها المحدد. من هنا، يشكل هذا المكان إذاً، طليعة الأمكنة الأخرى كلها. أما في ما يخص السفر، فقد شعرت دائما بأني أتحدث عنها بطريقة أكثر تصنعا أو بطريقة أقل ضرورية، لأني لن أتخضب طويلا بهذه الأمكنة.

في ما يخص طفولتي، أعتقد أنه يجب عليّ اللجوء إلى تحاليل من خارج نفسي. خلافا لكثيرين، لم أعد إلى تلك الطفولة في معظم الأحيان، بدا لي أن لدي شيئا آخر لأقوم به، إذ لم يكن يهمني هذا الأمر. وفي ما يتعلق بعملي الشعري أشعر بأن ذلك لا أهمية قصوى له. في العمق، أعتقد أن عينيّ تفتحتا حين أتيت إلى هنا (غرينيان) فقبل ذلك كانت الأمكنة أقل تحديدا. أقصد بهذا، ومع اعترافي بأن إيطاليا لعبت دورا كبيرا، ليس كبلد وأماكن، بل أدبها أيضا والناس والأصدقاء. إيطاليا هي بلدي الثالث بعد سويسرا وفرنسا. اليونان أيضا لعبت دوراً مهماً حين سافرت إليها، وبشكل أكبر من ألمانيا التي زرتها أقل فعلاقتي معها هي علاقة أدبية محض.

* هل هناك أمكنة متخيلة، محلومة أو ضائعة، تسكنك بطريقة معينة؟

**لا أعتقد. أظن بأنه لا يمكنني أن أكتب إلا عن أشياء محسوسة ومعيشة. وبعيدا عن الأحلام الموجودة في “الدفاتر”، لا أعتقد أني شخص يتخيل.

* نتفاجأ في كتابك “دفاتر – 1995 – 1998″، بعدد الأحلام التي حلمتها كما بالدقة التي تعيد فيها كتابتها؟

** أشعر أن ما أكتبه، يصبح قاتما أكثر فأكثر، الأحزان المتعاقبة التي عرفتها تسم كتبي، تحيلها متنافرة. بيد أنني أحاول ان أمتلك اكثر النظرات برودة وأقلها جبنا. حضور الاحلام هذا وأعترف بأنني لم أتحقق بأنها كانت قوية جدا، ربما كان طريقة لملء الفراغ.

اللقاءات، الدهشات التي تثيرها الطبيعة أصبحت نادرة في واقع الأمر. مع الزمن، يتعب النظر. الذاكرة أيضا، إلا انني أسرع في تسجيل القليل الذي أنقذه من حياتي النهارية أو الليلية. من مدّة، زارني بعض المترجمين الألمان، كانوا يبحثون في لغتهم عن معادل لعنوان احد كتبي “دفتر الخضرة”. عبثا، ذات ليلة، وجدت العنوان بدقة. الا انني لم أسجله. وعندما استيقظت، كان من المستحيل تذكره.

* هل تعتقد أن عيشك خارج المراكز الكبيرة سمح لك بطريقة ما بأن تحمي نفسك من بعض التأثيرات؟

** بالتأكيد هناك تيّارات (أدبية وفكرية) لم أتعرض لها لأنها كانت غريبة عني كثيرا، لكن والحق أيضا أنه في باريس، وبما أنني شخص قلق، كنت معرضا أكثر من غيري لأن أكون يائسا من جراء البعض. وأنا أروي هذا أتذكر بوضوح لقاءاتي مع فرنسيس بونج، الذي كان مختلفا عني، بيد أن صداقتي له استمرت لسنوات طويلة. صحيح أني كنت معرضا “للشلل” من قبل رجل مثله وهو صاحب سلطة كما صاحب يقين بشعره، من هنا مجيئي إلى “غرينيان”، كنت أبتعد بذلك عن التأثيرات. في النهاية أعتقد أني اتخذت المسافة المطلوبة.. أحب أن أستعمل استعارة الشمعة: إن كنّا شمسا، فإن شعاعنا يفرض نفسه، لكن إن كنا نشعر بأننا نرسل نور شمعة، فعلينا إذاً أن نحمي أنفسنا، خشية من أن تطفئنا أي نفحة.

* قلت في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت معك قبل سنوات، إنك تكتب أشياء إيجابية أكثر فأكثر. هل بإمكانك أن تشرح لنا هذا التطور، هل هو ناتج من ثقة أكبر تشعر بها في داخلك، هل ثمة طمأنينة داخلية، بعيدا عن أحداث العالم الخارجية؟

من الخطير دوما قول ذلك، إذ يمكن أن يتم تكذيب ذلك لاحقا، عبر أحداث أليمة متفرقة، خارجة عنا أو عن حياتنا الخاصة، وهنا ثمة مخاطرة في أن نتناقض. اليوم أنا حذر جدا بهذه النقطة. في الواقع، وفي لحظة ما، تولّد لدي انطباع بأن ثمة خفة ما أو لنقل طمأنينة أكبر، بيد أن الأمر لم يعد هكذا. بقوة الأشياء، إننا نتواجه مع الموت أكثر فأكثر حين نصبح في هذا العمر، وهذه النصف يقينيات لا يمكنها إلا أن تزعزعنا. الواجب في كتابة أشياء أكثر سوادا تأتي لتناقض هذا الأمل أو هذه المحاولة بالوضوح تعود لتفرض نفسها من جديد. يتراءى لي مع ذلك أنه من المهم أن لا نراعي هذا السواد، وهذا ما يشكل اليوم مرضاً منتشراً. في الأدب، بخاصة، يتراءى لي أنه إن كان لدينا أشياء منيرة لكي نقولها، فمن الواجب علينا أن نقولها. إنها مشكلة أخلاقية. لكن بالطبع مع التحفظ الدائم بأن لا يكون هذا الوضوح مصنوعا كي نجيب على تطلعات أو على حاجة جدالية لا تشبه الحاجات الأخرى. هنا أيضا يطرح موضوع الانضباط نفسه.

* تبدو وكأنك لا تزال تقرأ، ليس فقط الشعر، وانما روسو وبروست وهوغو..

** لنقل انني أعيد القراءة. حملت معي مؤخرا، في القطار، احد كتب بلزاك. الا انه كان قطارا سريعا، كان يسير أسرع من بلزاك. انه يتناسب مع الاحداث الثقافية الراهنة، الا ان ذلك لا يهمني. لم يعد لدي الطاقة لأتردد على معاصري. لقد سحرني بروست فيما مضى. أحاول الآن اعادة قراءة «جان سانتوي». يتراءى لي بأن هناك في بعض الصفحات وفي ما يتعلق بحقل شجر تفاح او بعاصفة في منطقة بروتاني بأن هناك فهما عميقا لما هو عليه الشعر. بخلاف ذلك، لم أقرأ ابدا »البؤساء« انه كتاب وبالرغم من سذاجته ومبالغته قد أذهل الروائي الذي لست إياه. من ثم غرقت في قصائده، وبخاصة، تلك المدهشة التي تحمل عنوان »رؤى دانتي« التي لا علاقة لها مع البؤساء. غريبة هي هذه الطريقة في المجيء متأخرا الى هوغو، مراقب الضباب والظلمات واللامحدود. ربما كان ذلك عائدا الى اننا في شبابنا لم نكن نقرأه. آلهتنا كانت بودلير ورامبو ومالارميه. كنا نقرأ هولدرلن وليس غوته. كنا شبانا.

* أما زلت ترغب في الترجمة؟

** الرغبة، نعم، ولكن ليس لدي الطاقة. لهذا رفضت ان أعمل على الطبعة الجديدة من »رجل بلا صفات« لموزيل بيد انني لا أقاوم احيانا متعة ان أترجم باقة من القصائد. مؤخرا، في ايطاليا، قرأت »11 سوناته« لجيوفاني رابوني، وهو شاعر معاصر من ميلانو. أحببتها جدا، لدرجة انني ما ان عدت الى غرينيان، حتى ترجمتها. لنقل انها اندفاعة لشيء قصير.

* نعرف معاصريك جيدا، الذين تمت إليهم “بأخوة ما” (كما رود)، كذلك نعرف تفضيلك لأعمال تعتبرها أساسية (كما هولدرلين). لكن ما هي القراءات الأولى التي وسمتك؟

لقد “التهمت” الكثير من الكتب وأنا صغير. لكن هناك كتابان بقيا حاضرين في ذاكرتي وهما كتاب “ميشال ستروغونوف” (لجول فيرن) بطبعة دار هيتزل (والتحديد هنا أساسي لأن رسوم الكتاب جعلتني أتعلق به بنفس الدرجة التي تعلقت بها بالنص والبطل). فهذا الضابط النبيل والباسل كان يتشابه – عندي – مع “أتوس” – فارسي المفضل ما بين فرسان “دوما” (الفرسان الثلاثة).

أما الكتاب الثاني – والتي كانت رسومه مستوحاة بطريقة كبيرة من المنمنمات الفارسية، على الرغم من أنها كانت أقل جودة من رسوم كتاب فيرن، لكنها أيضا ساهمت ولدرجة كبيرة، في تسلط النص على روح الطفل الذي كنته – فقد كانت مختارات من حكايات “ألف ليلة وليلة”. لقد دخل، من خلالهما، كل من روسيا والشرق إلى أحلامي، بطريقة كثيفة. كثافة، اصفها طوعا، بالكثافة المغناطيسية.

عندما كنت في السادسة عشرة، استحضرت، ولمرات عديدة، لقائي مع كتابة وشخصية غوستاف رود. في الواقع، كنت أقرأ وأكتب الشعر – عمليا – منذ طفولتي. كنت إذاً – بالتأكيد – مهيأ سلفا، للاكتشافات التي ساعدني على القيام بها، منذ سن الرابعة عشرة، استاذ اللغة اليونانية.. وما بين سن الخامسة عشرة والسابعة عشرة – أي خلال الحرب – ارتفعت في آفاقي، مجموعة من الكواكب الكبيرة، كآخيل وكلوديل وريلكه وراموز ورامبو ومالارميه وبدودلير ودوستويفسكي. ليس لدي اليوم أي شراهة مماثلة، فقراءتي، أو قراءاتي المعادة، لا تخضع لأي منهج. فأنا الآن، أكتشف وأعيد اكتشاف، غوته وكالديرون. فالموضة الحالية تأخذني إلى مكان آخر، إلى إعادة قراءة المقربين والمعاصرين. لذلك أقرأ أدب هنري توماس بالكامل. وواقع الأمر، لقد رافقني خلال حياتي.

* أليس هناك اليوم، مادة لكتاب تأملات جديدة، عن الشعراء المقربين؟

**أي أن أكمل كتاب “أحاديث مع ربة الفن”؟ إذا ما كنت أستطيع القيام بذلك، فلكي أردم الهوة التي خلفها غياب جورج شحادة ودي فوريه ولكي أدخلهما، في كتاب واحد، مع آخرين، أمثال بول دورو وجاك ريدا وجان بيير لومير وجان ميشال فرانك..

* غالبا ما تتحدث عن أفلوطين، هل لكي تظهر تمايزك؟ هل تلجأ – دوما – إلى الأعمال الفلسفية؟

**احترامي للفلسفة شبيه بذلك الاحترام الذي نكنه للذي يتجاوزنا. إضافة على ان قراءاتي – في هذا المجال – تبقى متذبذبة. فأنا أحاول الوصول إلى فكرة واضحة عند هادغر، على الرغم من أني قاربته في الماضي – بالطبع – بسبب هولدرلين. كما أحاول أن أكتشف هيغل أو سبينوزا. لكن شيئا أوقفني والسبب لا يمكن أن يكون الكسل أو النقص في القدرات..إن قراءات مماثلة، إذا ما قمت بها، من الممكن أن تصبح واقعا للقراءات الروحانية (وهنا أيضا أشعر بأنني أضيع بسرعة..)

* تقول “لا يمكننا أن نكتب يوميا وفي ساعات منتظمة”.. لكنك شيدت عملا مهما ومتنوعا في شكله. كيف تدبرت وقتك كي تستطيع إتمام هذا العمل النقدي المهم (ما مجموعه 651 مقالة) بالاضافة إلى الترجمة (أفلاطون، هوميروس، موزيل، هولدرلين، ليوباردي، أونغاريتي، ريلكه..)

** في الحقيقة، لم أتدبر شيئا. وسؤالك هذا، اعذرني، هو من الأسئلة التي لا تهمني. إنها الظروف، ظروف تأمين لقمة العيش.. كما أن الصدفة، أحيانا، تتحكم بأيامي. كنت أفضل السفر، لكني لم أستطع القيام بذلك إلا مدعوا. واليوم، ثمة قذارة تحول السياحة إلى صناعة، ما يساعدني على البقاء في منزلي، من دون كثير ندم. لذلك، أقرأ بمتعة كبيرة، كتب الرحالة الحقيقيين، مثل نيكولا بوفييه، وكتب المتجولين مثل بيتر هندكه.

* تتساءل في كتابك “La Semaison ” بأنه “هل من الممكن الاعتقاد بأن الهوس الإنساني بالنظام في مختلف المجالات، هو عديم المعنى؟ إننا نحب أن نتعرف إلى النظام الذي اتبعته في حياتك. وقبل كل شيء الأسس التي قادتك في تأليف كتبك؟

** إن كتاب اشعاري المنشور في سلسلة شعر / غاليمار، هو كتاب مختارات شعرية، أقصيت عنه القصائد التي أحبها بشكل أقل، من باقي المجموعات، التي يتألف منها. أما بالنسبة إلى هندسته، فهذا أمر لم يشغلني أبدا. لقد “بنى” نفسه بنفسه، في غالب الأحيان، بُني وأنا منقاد إلى حركة السنين والأيام. الأمر هو ذاته، بالنسبة إلى حياتي، التي هي ثمرة، كما باقي الحيوات، لقد كانت تنسيقا – واعتقد هذا – ما بين “النية” والصدف، ما بين الاختيار والخضوع لعدة ضغوطات، هل ستسامحني إذا ما توليت، اليوم، حول هذا النكوص الذي تتمناه؟ ربما سيكون الأمر، مكسبا لوضوح النهار، أو عند الضرورة، مكسبا للكتب.

* قصة شِعرك، قصة “فقر متصاعد”. أقصيت عنه بلاغة الأشكال الدقيقة والتمرينات “الآلية” كما أنك لا تحب الجمالية الجذابة. كيف إذا، تصبح ماهية الشعر؟

** هنا أيضا في هذه الأسئلة التي تطرحها عليّ ما يجعلني أكتشف إلى أي درجة كانت تنقصني الجدية، على الرغم من الظواهر التي يحاولون اعارتي اياها. إنها تكشف لي، إلى أي درجة لم أكن أفكر جيدا، إلى أي درجة، كان الأمر خطأ أم صوابا. في أي حال، هناك “سونيتات” (Sonnets) في كتاب “البومة” (L’effraie) وبعض علم العروض المنتظم في كتاب “الجاهل” وإذا ما كان عندي هذه الأشكال، فمرد ذلك، باعتقادي، على قراءاتي الكثيرة لكاتب مثل هنري توماس، على سبيل المثال. لقد راق لي الأمر – يومها – كثيرا (على الرغم من أنه لم يكن هناك يوما – خلال حياتي – فكرت فيه أن أخترع أشكالا جديدة أو مختلفة، ببساطة، عن الأشكال الموجودة). ومن الصحيح أيضا، أنه اليوم، – ومن دون أن أهتم بالتبريرات النظرية – لا أستطيع أن أكتب “سونيته” لائقة. ولماذا ذلك؟ لا أعرف. ربما سأفقد الصواب.. إذا ما اعترفت بأني سأترك هذه المسألة، أيضا، للآخرين الذين يرغبون بحلها.

أعرف جيدا – منذ أن قيل ذلك في مكان ما – بأن كتاب مثل “هواء” (يستعمل جاكوتيه كلمة “هواء” بصيغة الجمع) وحيث استطعت أن أقطف فيه، وبشكل خاص، بعض لحظات مسنونة ومتذبذبة من حياتي، هناك كثافة جناس موجودة أكثر من أي كتاب آخر، كما أعرف أن هذه الشبكة الرنانة كانت ضرورية “لأهندس” مجموعات قصيرة جدا. لكن هذا الأمر، جاء وحده، من دون أن أرغب بذلك، من دون أن أعي ذلك. إن غياب هذه الرغبة المشابهة، لها حسناتها وسيئاتها. إنها حسنات النضارة التي تكون مصانة أحيانا، كما أنها سيئات الهشاشة.

* إنك ترفض الصورة لأنها “توحي بغنى خاطئ وبشرود ضال وبقناع …”؟

** الصورة.. أجل إنها كلمة. لا أعطيها دائما المعنى عينه، واللغة تسمح بذلك. عندما كتبت على سبيل المثال “رافعا عيني من على حافة سرير المنازع نحو النافذة، حيث تتراءى السماء.. حيث تمر الصور” لم يكن لديّ بذاءة التفكير بمسائل شعرية، لقد كان الأمر يتعلق بظواهر ما، يتعلق بوجوه هذا العالم المرئي الذي لا أنفك عن الالتجاء إليها.

لكن عندما أعني بكلمة صور، التشابه والاستعارات فمن الصحيح أنني أفضل “الهايكو”، كما حصل لي ذلك وكما ما زال يحصل لي. إنني أفضل “الهايكو” على كل أشكال الوجدانية حيث هناك الأمر “المُشاهَد” بدلا من أن يكون مشبها بأمر آخر أو مستمدا من الذاكرة ومن الخيال ومن الأحلام كي نشعر بسلطته، أي أن يكون، ببساطة، موضوعا في ضواحي أمر آخر، ليس أقل حضورا على المستوى ذاته، كما أنه سيزاول سلطته بطريقة أكثر قوة، وأكثر عريا. في أي حال، وقفت مئات المرات ضد هذا المثال، بالرغم من أني كنت واعيا بأن الصورة هي إحدى فضائل أدوزات الشعر (…)

* إن الكلمات التي تحبها أكثر من غيرها، كما الأرض والهواء والضوء والريح هي أيضا مستعملة بكثرة لدى شعراء آخرين. إنها تأخذ قيمتها الخاصة من رؤيتك للعام وهذا ما يجعلها حساسة؟

** هل كان لدي في يوم، أو هل سيكون لدي رؤية للعالم؟ أليس من الصعب الحديث عن رؤية ما. في كل مرة، حاولت أن أرتب هذه الرؤية، داخلي، اصطدم بالضيق عينه الذي ينتابني وأنا على عتبة الفلسفة. هل فعلا أستطيع أن أستدعي شيئا يتدبر أمر سلوكي وكتابتي؟

ربما يكون السبب في هذه اللحظة بالذات من جراء العمر الذي وصلت إليه (هذا أمر نصل إليه بدون مجهود) وعلى الرغم من كل شيء، أحاول الآن أن أعرف أكثر من ذي قبل، وبطريقة يمكن فيها لهذه النصوص التي حلمت بها أو التي خططت لها، كما لهذه الأسئلة الأساسية، أحاول أن أجيب بطريقة أقل سوءا. لكن الأمر يتراءى لي وكأنني متعدد أو متشتت. كما أني لا أتمنى أبدا أن أجد صورة متماسكة أستطيع أن أسيرها ببعض المفاهيم وإن كان ذلك من دون غموض أو إبهام.

عندما نجد حضور هذا الجمال – الحقيقة = الذي اتبعته (أو بالأحرى الذي يتبعني) ذات يوم عند جورج شحادة أو عند زبينيو هيربرت، (كي أسمي كبيرين متناقضين، لم يجدا التقدير) فعندها لن نكون على استعداد لمعرفة من نحن (…)

* هل سيكون مقياس الشعر عنده نظاما أخلاقيا؟ لقد اقترح جورج بيوس عبارة “شعر – أخلاقي” (Po-ethique ) وهو يتحدث عن الكتابة التي تهدف إلى بناء الذات؟

** يكمن البحث عن علاقة “صائبة” في الأخلاق، لكنها تكمن أيضا في “الجمالية”. أن تكتب بطريقة صائبة فهذا يعني أيضا أن تتصرف بصوابية. لدي احساس، بأنني أخضع لغريزة ما، أكثر من كوني أخضع لأخلاقية موروثة. ربما لأن البروتستانتية الموسومة بالاستقامة، لدرجة الهوس، قد أثرت بي كثيرا.

من الصحيح أنه يمكننا أن “ندوزن” قيثارة ما، بالاستعانة بآلة ما.بيد أن لدينا أذن لتفعل ذلك، وإن لم تكن أذنا مثالية، لمنها على الأقل، هي أذن حساسة وملائمة. لذلك أجدني مضطرا هنا أيضا، أن أقوم بالاستنتاج – وإن كان الأمر لا يخلو من التعب والندم، بأنني أعتمد على نتائج تفكير ليس مجهزا بآلاته الخاصة، إذ يتراءى لي حقا، كما كان الأمر عند فرنسيس بونج، على سبيل المثال، بأنه يمكن مواجهة الفكرة بضدها وليس باحساس ما.

* ارغب في أن أعود إلى بعض الكلمات المألوفة لديك: “ليس هناك أمر أخشى منه إلا الواقع” وأيضا “المرئي يظهر غير المرئي”، ما معنى الواقع لديك؟

** ما هو الواقع؟ ما هو غير المرئي؟ لقد تراءت لي هذه الأسئلة في البداية أسئلة مضحكة، لكنها استنفدت صبر غلايوتي. في أي حال، لك الحق بأن تطرحها، على الرغم من أنني لا استطيع أن أعيد كتابة فصل من تاريخ الفلسفة، كما أنه ينبغي علي أن أثق بالحدس، الذي غالبا ما يكون خادعا، ومن دونه، يتراءى لي، إنني سأقع في فخ الأفكار، وسأضيع في هذه المتاهة التي أفرغتها من الهواء. “الواقع” بالنسبة إلي، هو الملموس والمرئي والحساس والمادة (القابل للحجز). إنه ما واجهه أحدهم – كما بونج – بالروح لأنه مراوغ. الواقع، هو الذي يأتيني عن طريق الحلم أو التأمل، أما غير المرئي، فهو لا يعني المجرد، بل هو الذي يهرب من حجز الحواس والذي يتراءى لي أن عليه الهرب من آلة كشف الحواس.

* ما نلاحظه أنك في كتبك الأخيرة، بدأت تجمع الشعر والنثر معا، بطريقة أكبر من قبل؟

** كتبت خلال السنوات الأخيرة نثرا يجد امتداده مع ما كتبته في “منظر ذو وجوه غائبة”، وتتمات صغيرة للقصائد الموجودة في كتابي “منتصف المنزل”، لهذا تراءى لي أن تناسق المادة كان كافيا كي أجمعها في كتاب واحد – تماما مثل موسيقي يبدل آلاته، أي ينتقل من “الناي” إلى “الكمان”. إنها قصائد كتبت في الحلم، “بين السهر والنعاس”.

* ألا يدلّ ذلك على حرية أكبر؟

** على متعة العمر أو مواساته، ومع ذلك أشعر بأن الوسواس يؤرقني وبخاصة حين تجيب الأشياء عن حاجة داخلية. إن ذلك أكثر من رؤية، إنه نوع من الطبيعة جاءتني مع تقدمي في العمر.

* ومع ذلك، فثمة عاطفة في أساس قصائدك ونثرك؟

** إنها النبع. فأنا لم أكتب أبدا نصا ذا معنى لا ينطلق من هذا الأمر.. في أي حال، إن هذه الحساسية، إن هذه الذبذبات، لديها الجنوح إلى أن تكون أقل توترا، حتى وإن بقيت كثير التأثر بانفعالات الخارج. أكانت مؤلمة أن باعثة على الغبطة.

* يتراءى وكأنك تتساءل، في النص عينه، حول دور الشاعر في مواجهة أحداث العالم، كما عن ثقل الشر؟

** في كتابي “في اجتياز حديقة”، عبرت عن هذا الشك الذي أسرني خلال نصوص مخصصة بالطبيعة. أجد نفسي مدهوشا بحديقة أمرّ بقربها، في حين كانت أمي تغوص في النسيان، وفي حين كنت أتألم من ذلك بشدة. غالبا ما بحت بهذا الألم، طرأ على بالي عدة مرات – على سبيل المثال – ما قرأته عند شالوموف، (وهو كاتب روسي أمضى 30 عاما في مخيمات الكوليما)، لقد استمر في كتابة القصائد وقال شيئا جميلا عن الشعر: “بنيت حصني في الشتاء”.

* هل تلتحق الحالة الشعرية بالحالة الروحانية؟

 

تتطلب كلمة الروحانية أن تستعمل بكثير من العذاب. لكن في الحقيقة، قرأت في هذه السنوات الماضية الكثير من قصائد جان دو لاكروا، أحد القمم الشعرية في نظري، وكذلك قصائد جلال الدين الرومي، أحد كبار الصوفيين. هل أن الحدس في عدم تمكننا من التقاط نبع العبارة وهو الذي يقارب الشعر والروحانيات؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *