The listeners
صلاح نيازي
The listeners :
ترجمة وتقديم صلاح نيازي
يُعَدّ “ولتر دي لا مير” Walter De La Mare (1873 -1956) من الشعراء الإنكليز المبرزين في تنشئة الجوّ الشعري في القصيدة، وهو تأليف نادر في الشعر عامة، واندر في الشعر العربي، إذا استثنينا بعض قصائد الحلاج، وبعض مقاطع من مقصورة آبن دريد المدهشة.
قصيدة: “السامعون”، مثال دقيق على طريقته تلك، وعلى التقنيات الفنية الأخرى التي يتفرد بها.
خلاصة القصيدة كحدث، ان مسافراً يعود إلى مبنى قديم، ربما قلعة، ليلاً. لا يدلّك راوية القصيدة على هوية المسافر، ولا على السبب الذي دفعه للعودة إلى ماضٍ مجهول. هكذا تبدأ القصيدة من الوسط، أيْ كما يقال باللاتينية Medias res . المشهد الأول مسافر على صهوة فرس يطرق الباب المضاء بالقمر، وما من جواب. ينتظر قليلاً ويطرقه ثانية وما من جواب. هكذا يعود المسافر، ولكن إلى أين؟
بين الوصول والعودة تدور أحداث القصيدة. خطورتها في صغرها. أهميتها في غموضها. سعتها الكونية في جغرافيتها المحدودة.
بدا ان المبنى مأهول بالأشباح أو بالأرواح، ثمة حركة غير مرئية، حتى اسكفة النافذة قد تسلق عليها نبات اللبلاب، وغطّاها، ربما للتدليل على ان المبنى مهجور منذ زمن طويل.
نُشرتْ هذه القصيدة لأوّل مرّة عام 1912 في مجموعته الشعرية الثانية، وهي من أكثر القصائد الإنكليزية رواجاً. ومنذ لك الحين وحتى الآن ما تزال موضع نقد وتحليل، وكُتِبَتْ عنها عشرات الدراسات المتخصصة (افدت منها شخصياً لكتابة هذه المقدمة وبالتالي ترجمة النص).
لا يمكن تقسيم القصيدة شكلياً إلى أشطر، ذلك أنّ الجمل والإيقاعات تتدفّق في بعضها بعضاً، وتعطي تأثيراً إيجابياً، ووقعاً شبيهاً بالتعويذة السحرية. وهي إلى ذلك قصيدة مقاطع Stanza- long poem وكأنها حقب بأمكنة وأزمنة مختلفة. يوم ُحشرٍ مصغّر، إلاّ قليلاً.
المسافر يتحدّث من عالم البشر، غير أنّ الأشباح هي الوحيدة التي كانت تصغي، ولا تقوى على الردّ عليه. الجناس الاستهلالي في الحروف الأولى، والمؤثرات الموسيقية، تساهم في الغموض، وفي الصمت الذي يولّد القلق. الصمت في هذه القصيدة اقوى مولّد للهواجس.
أمّا استعمال صيغة النفي في القصيدة، فكأنّ اللاشيئية في المصطلح المادّي، وجود بحدّ ذاته، صمت، إلاّ أنه صمت مشحون بالوجود.
وهذا هو مفتاح القصيدة، فالمنزل غير مأهول، بمعنى واحد فقط، ذلك أنّ الإنسان لا يعيش فيه، على الرغم من أن أشباحه ما تزال تجوس بصورة ما. في الواقع يتجسد الصمت في البيتين الأخيريْن بفاعلية، لتثبيت هيمنته الكلية في غياب البشر.
مَنْ يقرأ القصيدة باللغة الإنكليزية، يكتشفْ حسنات أخرى، منها أنّ الأبيات الأكثر طولاً، والأكثر سلاسة، تصوّر الحالة المزدحمة “للبيت الخالي” ولأصدائه… إلخ“.
أمّا حروف العلّة، والحروف الساكنة، فقد وُصِلتْ بكلماتٍ آخْتِيرتْ بمهارة،. استخدمت الأصوات في هذه القصيدة لتضخيم حجم الصمت ليس إلاّ. من تلك الأصوات مثلاً صوت قضم الفرس، أو رنين حذواته الحديدية على الحجارة.
لننظر إلى القصيدة من زاوية أخرى. إنها تتميز، كأية قصيدة كبرى شبيهة بها، باللغة الإنكليزية، بثلاثة مقومات أساسية، هي: أوّلاً البعد التأريخي، وثانياً البعد الديني وإلاّ الفولكلوري أوهما معاً، وثالثاً البعد الفني. فإذا غلفت هذه الأبعاد بغموض شفّاف، تكون القصيدة قد تعددت مستوياتها وتشعبت معانيها.
لنأخذ البعد التأريخي، أوّلاً. يستدلّ النقاد على أن مشهد القصيدة ينتسب إلى العصور الوسطى. ذلك لأن الشاعر استعمل كلمة Spake : أي تكلّم وهي كلمة مهجورة بدلاً من كلمةSpoke . الدليل الآخر استعمل الشاعر كلمة Turret(البرج)، المأخوذة من الإيطالية بدلاً من الكلمة المتداولة
Tower. بالإضافة جاء المسافر على صهوة فرس، فما أشدّ شبهه بفارس من فرسان العصور الوسطى. قد يكون من المفيد أن نذكر ان البرج تعني حسب قاموس كولن: برج دائري أو اسطواني، كجزء من قلعة أو بناية كبيرة، ولا سيّما في العصور الوسطى، هل ثمة إشارة إلى منارة؟ خاصة وأن دي لا مير كان مطلعاً بتوسع على الثقافة العربية.
البعد الثاني في القصيدة هو البعد الديني أو الغيبي. قبل كل شيء تجمع هذه القصيدة بصورة فريدة بين عالم الأموات وعالم الأحياء. ويرى النقاد ان ثمة إشارات عميقة لقوى خفية، لا سيما تلك الأشباح
التي كانت تهفّ في البيت المظلم.
يقول الشاعر
“وكانوا يسمعون في سكينة ضوء القمر
ذلك الصوت من عالم البشر”
عموماً يحاول الشاعر أن يقول من خلال القصيدة إن” هناك عالمَ أرواحٍ موازٍ لعالمنا، ولكنْ لا تراه العيون، وعلينا أن نستعدّ لتقبّله”
ويرى بعض النقاد ان المسافر شخصية كونية مسافرة عبر الحياة” و” السامعون ” نظراء أو مشابهون للآلهة، التي تعي الحاجات البشرية الملحّة، ولكنّها لا تقوم بأيّ عمل، ولا تستجيب لتوسلاتهم”.
البعد الثالث، وهو ما يهمنا هنا، هو البعد الفني، أي ما التقنيات التي توسلها الشاعر، وأوّلها التقنيات الموسيقية. منها ما يسمى باللغة الإنكليزية Alliteration وهو ما يترجمه قاموس المورد: الجناس الاستهلالي. و فيه يكون فيه الحرف الأول من الكلمة، هو نفسه في كلمة ثانية أو ثالثة، وهذه خصيصة في الشعر الإنكليزي لا طائل من محاولة تقليدها. لو أخذنا الشطر التالي مثلاً، فحرف السين يتكرر في أوّل الكلمات:
Silence surged softly
للعروض الشعري في هذه القصيدة، أهمية قصوى. ولكن خشية الإطالة، نذكر باختصار شديد، نظرة مبسطة، إشباعاً لفضول بعض المهتمين بالأوزان الشعرية.
انتقى “دي لا مير” لقصيدته هذه وزن الـ anapest (لا شبه له بالأوزان الشعرية العربية) وقد اتبع فيه، نمطاّ أو نوعاً ثابتاً abcbdefeشطران على قافية واحدة، وشطران بلا تقفية، وذلك حفاظاً على وحدة الأبيات دون السقوط في نمط رتيب Singsong.
ذكرنا أعلاه، أن القصيدة، أية قصيدة، ما أن تغلّف بغموض شفاف حتى تكون أكثر إثارة، وأحدّ فضولاً.
قصيدة ا”لسامعون” Unknowable لا ترشد القارئ إلى هوية السامعين ولا ماذا يعنون حتى بالنسبة للمسافر نفسه. ولكنْ مَنْ هذا المسافر؟ لماذا رحل ولماذا عاد؟ لماذا أعطى وعداً لسكنة البيت بالعودة، وأرواح مَنْ تلك الأشباح التي كانت تجوس بالبيت، ولماذا كان الصوت البشري غريباّ عليها؟ يقول المسافر مخاطباً الأشباح:
“خبريهم أني جئت وما من أحد ردّ
وأنني حافظت على عهدي”
ما هو العهد الذي حافظ عليه؟ ولماذا؟ ما من أحد يدري.
ولكنْ ربما ما يميّز هذه القصيدة، بالنسبة للقارئ العربي، هو مهارة الشاعر في تضخيم الحدث عن طريق الحركة واللون. القصيدة بالتالي لوحة مرسومة بالأبيض والأسود ولا لون سواهما. القصيدة ليلية. ولأنها كذلك يكون الشاعر قد مهدّ لحاسّة السمع أن تكون على أشُدّها حدّة.
المشهد الأوّل في القصيدة، مسافر على صهوة فرس، أمام باب مضاء بالقمر، وهذا هو اللون الأبيض الوحيد في القصيدة. وهو لا ريب لا ينير طريقاً، وإنما ينير الفزع.
المسافر يطرق الباب. في هذه اللحظة يهرب طير من البرج الدائري. لهذا الهروب تداعيات نفسية، منها أنّ الطير كان نائماً، آمناً، ربما لأنّ البيت لم يكنْ مسكوناً، وهروبه ليلاً إلى لا أين، للنجاة بريشه لا يخلو من مخاطرة.
الحركة الثانية، هي الطرق على الباب ثانية، وهنا استعمل الشاعر كلمة: Smote وتعني الطرق بقوة، وذلك يدلّ على نفاد صبر المسافر.
الحركة التالية، يرفع فيها المسافر رأسه إلى أعلى ليرى إنْ كان أحدٌ ما يطل من النافذة ليرى عيني المسافر الرماديّتين. استعمل الشاعر مصطلح : Grey بعناية، ذلك أنه إذا وُصفت به العين فإنما يعني أن صاحبها، مرتبك ومشوش، وأن صدره مكتظّ بالعواطف.
الحركة الأخيرة هي عودة المسافر إلى المجهول، وبها يعود الصمت إلى البيت كما كان راكداً ركود موت.
السامعون
“أما من أحدٍ موجود؟” قال المسافر
طارقاً البابَ المضاءَ بالقمر؛
وفرسه في الصمتِ يقضم الحشائشَ بجلبةٍ
من الأرض السرخسية للغابة:
وحمامةٌ طارت من البرجِ الصغير،
فوق راس المسافر
دقّ على الباب للمرّةِ الثانية؛
“أما من أحدٍ موجود؟“
لكنْ ما من أحدٍ نزل إلى المسافر؛
ما من رأسٍ أطلّ من أسكفة النافذة المسجّفة باللبلاب
ونظر في العينيْن الرماديّتين
حيثُ يقفُ مرتبكاً وساكنا
لكنّ حشداً من السامعين الاشباح فقط
يقطن في البيتِ المنعزل عندئذٍ
كانوا يسمعون في سكينة ضوء القمر
ذاك الصوت من عالم البشر:
يزحم أشعة القمر الضئيلة على السلّم المظلم
الذي يؤدّي إلى الصالة الخالية
وهي تصغي بجوّ أثاره وهزّه
نداءُ المسافرِ الوحيد،
وشعر داخلياً بفتورها،
بينما ترك فرسهُ يقضم العشب الكثيف،
تحت السماء المكوكبة من بين أوراق الشجر:
هنا دقّ الباب فجأة حتى
أقوى، ورفع رأسه:-
“خبّريهم إني جئتُ وما من أحدٍ ردّ،
وانني حافظتُ على عهدي“.
لم يأتِ السامعون بأية حركةٍ،
رغم أنّ كلّ كلمة فاه بها
رنّ صداها خلال ظلال البيت القانط
من الرجل الوحيد الذي تُرِكَ يقظانَ:
نعم لقد سمعوا قدمه في ركاب الفرس.
وصوتَ الحديد والحجر،
وكيف أنّ الصمت خيّم على مهل على البيت
عندما كانت الحوافر المندفعة قد ذهبتْ.
- ارتأى مثقف عربي ضليع في الترجمة ان يكون العنوان :”المستعمون”. ولكن الفعل
استفعل لغةً هو طلب الشئ. كأن تقول استنجد أي طلب النجدة أو استفسر طلب التفسير. ولكن ليس في القصيدة إلى ما يشير إلى مَنْ كانوا يريدون الاستماع. بالعكس.
لذا فضلت “السامعين ” على غرار الصيغة العراقية العامية :”يا سامعين الصوت”.