“التماعات في عتمة”

شوقي عبد*

قحطان جاسم في قصائده “المقلة” او القصيرة؛

شعرية مكثفة مفتوحة على للتاويل…

يقال- ان لبيد كان من المعمرين، وعاش حياة طويلة، كتب الشعر قبل الاسلام، و له معلقة تحمل اسمه، بثمانية وثمانين بيتاً. و غيرها، لكنه توقف عن قول الشعر بعد دخوله الاسلام وحين سئل عن السبب، قال أنه اكتفى بسورة البقرة و سورة الرحمان. لكن هذا الشاعر المبدع قال بيتاً واحداً طوال حياته في الاسلام التي تقارب من السبعين عاما.

يقول – لبيد –

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد

في بيت واحد اوجز معاناته بكل اشكالها من كهولة و اهمال و موت كل من احب .. اذن كيف يمكن ان تكون القصيدة موجزة؟

بمعنى كيف لشاعر أن يعبر عن اشكالات الحياة ومواقفها عن طريق قصيدة طويلة أو ربما طويلة جدا، أو عن طريق القصر او الومضة، الكتابة في مساحة ضيقة رغم اتساع الهامش الابيض للورقة. لا نريد أن ندخل في الأصول الآولى لمثل هذا النوع من القصائد، إذ لها ما يكفي  من العمق الجذري الابداعي في تاريخ الشعر العربي و العالمي، وهي محاولات اتسع استعمالها خاصة في التسعيات ونهايات القرن العشرين.

أعتقد أن كل تجريب في الشعر هو ممكن وإن “كفن الشعر القديم” كما يقول طالب  عبد العزيز ، يتقبل كل ما هو  جديد. الرهان يكون على موهبة الشاعر واتساع رؤيته للعالم، حينها تضيف عبارته، وتوغل في كثافتها الشعرية مع اتضاح المعنى و امتلاكه لانزياح شعري يغوي دهشة المتلقي ويعزز قوة السؤال و البحث عن اجوبة شافية لقلقه الوجودي وخو فة من رخاوة الحاضر وانغلاق الافق، و خلق مناخات متضاربة تولد الرغبة في التأمل داخل القصيدة كمحاولة لاصطياد الكثير من تلك الرغبة و الرعشة القادمة من اكتناز المفردة وقوتها.

يغوينا الشاعر قحطان جاسم بمجموعته الاخيرة التي صدرت عن دار الرافدين، تحت عنوان يشي بالمضمون بشكل او آخر،وهو “التماعات في عتمة”.واذا كانت مفردة العتمة تدل على الظلام الدامس، فان الالتماعات ما هي الا الشهب او فلاشات الذاكرة المرة التي تحاول ان تخفف وحشة العتمة،لكنها ثوان معدودات من الانكشاف ثم سرعان ما تعود الظلمة، كأن العيش في العتمة هو المتعارف عليه،وعلينا تدوين تلك الالتماعة القادمة من طلاسم الذاكرة وطياتها المشبعة برغبة الخلاص الابدي والركون الى فسحة من الهدوء والطمأنينة حتى لو كانت مجرد حلم او رغبة او مناجاة.

يقول الشاعر قحطان جاسم عن مجموعته الجديدة، وذلك في سياق مقدمته للكتاب “سعيت ومنذ سنوات إلى كتابة ما أسميه “القصدة المقلة”… إن هذه القصيدة تجد لها جذوراً في تراثنا الأدبي. فهي تتأسس على الصورة الشعرية المكثفة، والفكرة الجمالية المنفتحة على التأويل المتعدد، والمعنى المعرفي المركب..”.

المجموعة تقع في ثمان وتسعين صفحة، تضم تسع عشرة قصيدة، إضافة إلى الإشارة التي كتبها الشاعر في مقدمة الكتاب وكذلك الفهرس.

الاستنتاج من هذا، أن القصائد قصيرة بمعنى أنها تقع في دائرة القصيدة القصيرة أو كما أراد الشاعر تسميتها بالقصيدة “المقلة”، لكنها تبتعد عن القصيدة القصيرة جداً أو قصيدة “الهايكو” فهي تقع ما بين الاثنتين. رغم أن هناك تشابها واسعا بين القصيدة القصيرة والأخرى “المقلة”

ـ يقول – قحطان جاسم

 العاصفة

التي غواها الكاهن

سراً

غادرت المعبد، للتو..!

وفي مكان آخر ـ يقول ـ الشاعر-

وحده الألم

يمنحنا المهارة

في غمرة المصائب !

وتمتاز مثل هكذا قصائد، أنها تستفيد من الأنواع الفنية الأخرى ـ مثل ـ الفن التشكيلي و الإبداع الموسيقي وحتى من الشاشة الكبيرة ـ السينما ـ

ـ الموسيقى كالدموع

تطهرنا في العزلة

من خطايانا..

ومن شروطها اكتمال المعنى داخل بنيتها المختزلة،ويكمن فيها روح العبارة المتصوفة “كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة”. كما أنها تلتقط دواخل الإنسان المهزوم و المنكسر الذي يبحث عن سر وجوده و قيمة الإنسان أمام كل هذه التحولات المهمة في العالم الخارجي، إذ أن التماعات الداخل الإنساني تكون بمثابة البئر الذي يغرف منه الشاعر، مفرداته وصوره الشعرية وبناء ايقاعات قصيدته، لذلك تجد هذه القصائد ولعاً عند المتلقي، فهناك الحزن المبهم و الألم المتواصل وغياب المعشوق والغربة وتقلباتها .

ـ الكل يمضي إلى زاوية

أو حانةٍ

أو يهتدي إلى جحرٍ،

سواك..

لقد أبدع الشاعر في بناء قصيدته من ناحية الكثافة الشعرية والمعنى المكتمل وطرح أسئلته الوجودية ـ إذ يقول ـ

ـ غداً سيأتي،

معي أو بدوني،

الغد

الذي أمضيت

حياتي أبحث عنه عبثاً

كما أنها تسجل هوامش الحياة اليومية، كالركون في زاوية حانة ومراقبة حركة دوران الزمن وهندسة الفضاءات المتخمة بالدخان و رائحة النبيذ الرخيص ـ يقول ـ

ـ لا شيء هذه الليلة،

ذاتها الغابة،

القيود،

الممرات الكثيفة

و الأقنعة…!

هذه القصائد تشبه تدوين التيه داخل غابة كثيفة، إذ تضيع عليك بوصلة الجهات وأنت تحاول أن تجد لك درباً تمشي فوقه يأخذك إلى أي مكان، لكن ليس البيت الذي تريد أن تركن  إليه جسدك المتعب. فيها الهجر الذي لا يشبه كل هجر والحزن الموغل بكل لوعاته وقبضة القلب التي تعتصر صدرك وأنت تحاول أن لا تنكسر وتترك الخوف والخذلان لضحايا أخرى لكنها تشبهك و لها سحنة وجهك. و حين تقف وتلتفت لتعيد تشكيل أو ترتيب الأشياء من حولك تجد…

ـ لا شيء

لا شيء

سوى الفراغ

و بقايا أقنعة

و فؤوس

و تتصاعد موسيقى الاوبرا داخل هذه النصوص حتى تصل بك إلى ذروة الإحساس بالألم سواء كان ألمك الشخصي أم أنه ألم العالم الذي تراه من حولك يتغير و أحياناً يتصاعد حتى تظن ان كل حزن هو حزنك.و كل الم هو المك و وجعك الذي لا بد منه .

في قصيدة “ليس هناك ما يروض الألم” ـ يقول قحطان جاسم –

 لا توقظ الألم

ليس هناك ما يروضه

سنمر بطرق مختلفة وغريبة…

لكننا لن نصل

إلا إلى ذات المكان

حيث التراب بارد والعتمة صلدة

ـ ـ ـ

  • كاتب عراقي مقيم في أميركا
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *