لو كان آدم سعيدًا… (مختارات من الأعمال الكاملة لإميل سيوران)

ترجمة: محمد علي اليوسفي

لو كان آدم سعيدًا…
(مختارات من الأعمال الكاملة)
ترجمة: محمد علي اليوسفي

▪تقديم المترجم:
موسيقار العدم يحنّ إلى ما قبل النشأة

من النادر جداً أن تصدر الأعمال الكاملة لأحد الكتاب الكبار، بعد موته، من دون دراسة، أو مقدمة مستفيضة تتناول أعماله.
وهذا ما حدث في الطبعة الكاملة لأعمال “إميل ميشال سيوران” التي صدرت في نهاية سنة 1995 عن منشورات غاليمار الفرنسية (سلسلة كوارتو) في 1820 صفحة.
ولقد اضطر الناشر إلى الاعتذار، المبرَّر، عندما صدر المجلد مشيراً إلى احترام مبدأ دافع عنه سيوران: عدم نشر أي كلام آخر غير ما كتبه المؤلف.
لماذا ؟
لأسباب عديدة:
فهاهو ذا سيوران يقول في شذرة من كتابه “قياسات المرارة “: (كل تعليق على كتاب هو سيئ أو غير مجدٍ، فكل ما لا يأتي مباشرة لا قيمة له) هذه الشذرة يصدِّر بها الناشر الطبعة الكاملة أيضًا. ويمكن أن نجد هذه الفكرة بأشكال وصياغات مختلفة في كتب سيوران. يقول في كتابه “الاعترافات واللعنات” مثلا: ( لا ينبغي الكتابة عن أحد، أبداً. لقد اقتنعت بجدوى هذه الفكرة إلى درجة أنني كلما ملت إلى فعل ذلك، كانت فكرتي الأولى أن أهاجم الشخص الذي سأكتب عنه، حتى وإن كنت معجبا به.)
وللخروج من هذا المأزق، أي عدم التعريف بالكاتب وتقديم أفكاره، التجأ الناشر إلى أسلوب آخر: أن يجعل المؤلف يتحدث عن نفسه من خلال ملحق يضم مقتطفات من الحوارات التي أجريت معه على مر سني حياته.
وهذا ما سنقوم به، بدورنا: سنتحدث عنه بلسانه. وسيكون استنادنا أساساً إلى تلك المقابلات، وعلى بعض آرائه في “شذراته” أو كتاباته المقطعية، وبالخصوص على الكتاب المتميز الذي أصدرته “سيلفي جودو” سنة 1990 عن منشورات “جوزيه كورتي” بعنوان (محاورات مع سيوران)، يلي ذلك نبذة عن حياته، وتعريف تحليلي بأبرز أعماله، ثم مقتطفات مترجمة منها. ونلفت الانتباه إلى أن مجلة (ماغازين ليترير) المجلة الأدبية الفرنسية، قد نشرت في عددها لشهر أيلول- سبتمبر 1997 كراسا يضم شذرات لم تنشر من قبل لسيوران، وقد ترجمنا بعضها استكمالاً وتنويعًا لهذه المختارات.

عاش سيوران في مرحلة تتحدث عن الحداثة، وما بعد الحداثة، لكنه اختار الابتعاد عن زمانه، وعن الزمن. سعى إلى تحطيم المعنى من أجل خوض تجربة اللامعنى. أعلن أنه ضد الفلاسفة وضد المنظومات الفلسفية والمقولات. كما أنه ضد المفكرين الذين ينطلقون من الاقتباس والاستشهاد. وفضَّل شكل الكتابة المقطعية، والاعتراف، والحكمة المختزلة، على الخطاب المتماسك زوراً وزيفا كما يقول. يمكننا تحمل الشر وليس مفهمته. ولا معرفة عنده إلا عبر الحواس (كل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيزيولوجية.)
أمام الفلسفة والفكر، يختار سيوران الشعر والموسيقى. وهو مثل الشاعر، يخاتل شكوكه ليتعاطى الكلمة ويحوِّل اللاواقع إلى واقع صيغي. الشاعر؟ (هذا الوحش الذي يراود خلاصه عبر الكلمة والذي يملأ خواء الكون برمز الخواء تحديداً) أي الكلمة. والموسيقى؟ (ليست من جوهر إنساني لأنها لا تبعث أبدًا على تصور الجحيم.)
في إجابة له عن سؤال “كيف تتحمل الحياة ؟” أشار سيوران إلى الاستطيقا، إلى ضرورة الكذب من أجل الوجود. ثمة دور تعزية للفن:

“أكتب لأتفادى نوبة(…) في التعبير راحة(…) الكتابة انتحار مؤجل.

أراد الغربة في أعماقه حتى لا ينتمي إلى أي أرض ويحافظ على وعيه بالطابع الانتقالي المؤقت لحياة أي إنسان. فالإنسان الذي يحترم نفسه ليس له وطن. وعليه الانخراط في منابع النشأة؛ ما قبل الانفصال والتمزق. ذلك أن التاريخ سقوط أول في الزمن وطرد من الأبدية. وما بعد التاريخ هو سقوط ثان، أي أنه سقوط من الزمن.

أمام هذه العدمية، لِمَ الكتابة إذن؟

الكتابة نسيان الشيء لصالح تسميته أو معرفته. إنها كتابة تعبر عن انتظار الكائن. وهي، لذلك،لا تأتي عبر منظومة فكرية، بل ضمن انقطاعية الكتابة المقطعية استجابة لتشظي الكائن.
عدمية سيوران تستبعد أي هروب خارج عدمنا الزمني. فكيف نتمكن من معانقة الأبدية في حضن الزمن؟

إنه غنوصي ذو صفاء ووضوح فكري ينكر الخلاص. متصوف دنيوي متخلص من الأشكال الماورائية. فإذا النشوة عنده حضور كلي من دون موضوع وجْد:خواء ممتلئ، وهذا اللاشيء، عنده، هو كل شيء. فلا مجال لاستعادة الحالة الفردوسية الأولى. واليائس من خلاصه يصير عالم جمال. إن الإنسان الأخير هو إنسان خاوٍ: إنه حكيم الأزمنة الحديثة.

▪القطيعة مع المكان والزمان:

ولد إميل ميشال سيوران يوم 8 نيسان- أبريل 1911 في “رازيناري” وهي قرية في مقاطعة ترانسلفانيا الرومانية، من أب قسيس أرثوذكسي. وعرف منذ طفولته بحبه للعزلة والتنزه في الجبال المحيطة بقريته. التحق سنة 1920 بالمدرسة الثانوية في مدينة سيبيو المجاورة. وأمضى الأعوام ما بين 1928 و 1932 في جامعة بوخارست حيث حصل على دبلوم حول الفيلسوف برغسون. واكتشف الفيلسوف الألماني سيمل.
ويتحدث سيوران عن حالات من الأرق واليأس لازمته خلال هذه المرحلة فأوحت إليه بكتابه الأول الذي ألفه سنة 1932 ونشره سنة 1934 تحت عنوان “على ذرى اليأس” ثم أعقبته عناوين أخرى مثل “كتاب الخدع ” و “دموع وقديسون”.

خلال العام الدراسي 1934- 1935 حصل على منحة دراسية في ألمانيا لإعداد أطروحة في الفلسفة. لكنه لم يفعل شيئًا، ومر بمرحلة عقم في حياته لم تميزها سوى رحلة إلى باريس لمدة شهر، قرر إثرها الإقامة في فرنسا. فعاد إلى رومانيا وعمل على تحقيق هذا الهدف. فحصل على منحة من المعهد الفرنسي في بوخارست كي يدرس في باريس التي وصل إليها سنة 1937. وخلال الأعوام الأولى من إقامته وضع كتاب “غروب الأفكار” ونشره بالرومانية في سيبيو.
التحق بالسربون لدراسة اللغة الإنكليزية فاكتشف الشعراء الإنكليز ثم قرر تعميق لغته الأم (الرومانية) لكنه سرعان ما استغرب هذا الاختيار. حتى قرر سنة 1946 أن يقطع مع لغته ومع الماضي، من أجل الإقامة النهائية في فرنسا. لذلك بدأ يطور لغته الفرنسية. ونشر كتابه الأول بهذه اللغة بعد ثلاثة أعوام، أي سنة 1949، ضمن منشورات “غاليمار” التي سوف تتولى أعماله لاحقا. فكان أول كتاب ينشره بالفرنسية بعنوان “موجز التفكيك” وحصل به على جائزة اللغة الفرنسية المخصصة للكتَّاب الأجانب (كان من بين أعضاء لجنة التحكيم: أندريه جيد، جول رومان، سوبرفيال، بولهان، الخ…).
ثم اتخذ سيوران قراراً برفض كل أنواع الجوائز. وهذا ما التزم به على الرغم من العروض الكثيرة. وتأكدت قيمته ككاتب باللغة الفرنسية. وتوالت مؤلفاته: “قياس المرارة “، “بحث في الفكر الرجعي” ، “التاريخ واليوتوبيا” ، “السقوط في الزمن”. وخلال هذه المرحلة؛ أي مع بداية الستينات، أشرف على سلسلة دراسات ضمن منشورات “بلون” لكنها لم تنجح على الرغم من أهمية عناوينها. فخاب ظنه وألغى السلسلة بعد صدور الكتاب السابع. فكانت تلك تجربة النشر الوحيدة التي خاضها سيوران. وتابع إصدار مؤلفاته “الخلق السيئ” (1969) “مساوئ أن يكون المرء قد ولد “(1973)، “التمزق” (1979)، “تمارين الإعجاب”(1986)، وفي العام نفسه صدر له مختصر كتاب كان قد ألفه باللغة الرومانية بعنوان”دموع وقديسون” ثم أصدر “الاعترافات واللعنات”(سنة 1987)، وكتاب “على ذرى اليأس” (سنة 1990) مترجماً عن الرومانية.
وجدت أعماله في البداية تقبلا محدوداً. لكن قاعدة قرائه ما انفكت تتوسع في الأعوام الأخيرة، ولا سيما بعد موته (1995). فظهرت كتبه في سلسلة الجيب الشعبية. وكثرت ترجماته وتناولت وسائل الإعلام كتبه ونجاحه المفاجئ.

▪قراءة في أعماله:

1- “موجز التفكيك “:
أول كتاب يؤلفه سيوران باللغة الفرنسية مباشرة. أسلوب فيه الكثير من المبالغة والكتابة الكلاسيكية “الباروكية”. لم يبلغ فيه إيجاز الحكمة بعد. نبرة استفزازية. بداية إعلان عن موضوعاته الأثيرة: الشر، الخلاص، التاريخ، الانحطاط، القداسة، مصادر التدمير الذاتي. ويعتبر النقاد هذا الكتاب “الخلية-الأم لأعماله اللاحقة” بنبرته الرؤيوية التي تكاد تكون نيتشوية(نسبة إلى الفيلسوف نيتشه) والميتافيزيقا السلبية التي تستند إلى أفضلية العدم حيث “الكائن مجرد ادعاء باللاشيء” وما النتيجة التي يتوصل إليها الرائي إلا “رؤية تختلط فيها الحكمة بالمرارة و…بالمقلب”.

2- “قياسات المرارة”:
يختلف هذا الكتاب عن الكتاب السابق بتلاشي الغنائية المتمردة لصالح الصلافة الساخرة والحكمة المقطرة؛فإذا الحكمة والفكاهة السوداء والمفارقة تتحالف كلها مع النزعة الارتيابية من أجل قلب القيم السائدة.

3- “إغواء الوجود”:
العدمية تؤدي إلى الجمالية. ما من حل آخر غير الإقامة في وهم الوجود، وهو الأمر الذي يعني بالنسبة للكاتب، تعويض خواء الكون برمز الخواء ذاته: أي الكلمة. اختار سيوران “محاسن المنفى” كي يقيم في “مدينة اللاشيء”. وقطع الجذور ليصير “غريب الميتافيزيقا “، مع تأملات ينطوي عليها الكتاب حول الشعر والرواية والكلمة. فيضع سيوران ثقته في حقيقة الكلمة “خلق الكلم “.

4- “بحث في الفكر الرجعي “:
يتناول سيوران في هذا الكتاب مختارات من نصوص الكاتب المتصوف جوزيف دي ميتر، ذلك “المفكر المغالي” الذي يغوي “بفصاحة الشراسة” وهو صوفي ساخر، قارئ جيد للعهد القديم لكنه يمتاز أيضا بانتمائه إلى القرن الثامن عشر.وأهم ما فيه أنه موسوم، مثل سيوران، بـ”ختم المنفى” ويؤمن مثله بسقوط الإنسان لأن الشر يسكن أفعاله.غير أن سيوران يأخذ على جوزيف دي ميتر إيمانه “بالخطيئة الأولى”. كان دي ميتر من أبرز مفكري القرن الثامن عشر الذين وقفوا ضد الثورة الفرنسية، وقد شكل إعجاب سيوران به فرصة مناسبة ليقدم، هذا الأخير، بعض آرائه في السياسة والثورة (انظر المختارات).

5- “التاريخ واليوتوبيا “:
مثل كتاب “إغواء الوجود” يضم كتاب “التاريخ واليوتوبيا” مقالات مطولة. غير أن سيوران يبدو هنا أقرب إلى المؤرخ منه إلى الفيلسوف؛ فيبحث عن الدوافع الخفية وراء مختلف الأنظمة السياسية بالطريقة ذاتها التي توخاها في دراسته عن جوزيف دي ميتر: إن الأيديولوجيات تختلق فراديس في الزمن، ويكون موقع تلك الفراديس إما في الماضي (النشأة) أوفي المستقبل، وذلك حسب الرغبة في الدعوة إلى الحنين للماضي، أو إلى عبادة التقدم.

6-” السقوط في الزمن “:
هذا الكتاب يضم جوهر أفكار سيوران ورؤيته الميتافيزيقية. وهو أهم كتبه ومفتاحها! تاريخ الوعي هو تاريخ محنته. لقد نُفي الإنسان من براءته الأولى وسقط في التاريخ. هذا السقوط يقود إلى رعب الصيرورة: أول درجة من درجات سقوطه وانحطاطه. لكنه مهدد بالسقوط من هذا الزمن أيضا بسبب الشك الذي يحوِّل الزمن إلى “أبدية جهنمية ” وإلى سأم: “الجحيم هو المكان الذي نُحكم فيه بالزمن إلى الأبد” والارتيابية تلوح بمثابة الصيغة الدنيوية للشيطاني. وحتى السعي إلى جعْل المعرفة مطلقا آخر، إنما يعني عبادة اللامعنى. ما من منفذ إلا هذا: تحويل هذا العدم إلى امتلاء، والتخلص من الثنائية عبر التجربة الموحدة للخواء، والمؤدية إلى عتبة البوذية والصوفية.

– الإنسان سجين الوقت. انفصل عن عالمه وعن ذاته. إنه يهرب نحو المستقبل محبوساً بسبب التسارع المدوخ للزمن. وهو ما يميز الحضارة.

– هذا الإنسان المحاصر والمستعبد من الزمن يستطيع السمو إلى عظمة مأسوية بفضل الشك، هذه المسافة النقدية التي يقيمها مع ذاته. لكن، إذا كان هذا الشك ثأره فهو أيضا خسرانه “تبدأ الحضارة بالأسطورة وتنتهي بالشك”.

– أن تكون إنساناً ليس حلاً،وكذلك أن تكف عن أن تكون كذلك!

– من أجل كسب الحرية ينبغي “التمرن على أن تكون لا شيئًا” وهي الطريق الوحيدة لبلوغ براءة ثانية.

– المرض يقظة تُكسب الإنسان زيادة في الكينونة.

7-” الخالق السيئ”:
مشكلة الشر هي جوهر هذا الكتاب. فيه يفصح سيوران عن مبادئ غنوصية عرفانية (نزعة فلسفية دينية تهدف إلى إدراك كنه الأسرار الربانية).
-وجود مبدأ الشر في أصل النشأة.
-المسيحية في ضوء مبدأ الشر…
-البوذية ومفهوم الخواء.

8- “مساوئ أن يكون المرء قد ولد”:
مجموعة من الحكم؛ الأصل: لماذا الرضا بالقليل أفضل من لا شيء؟ ويمكن تلخيص الكتاب هكذا: “آه! لو وُلدنا قبل الإنسان!” نوستالجيا، حنين، إلى “زمن ما قبل الزمن” حتى نتفادى كارثة الولادة. إذن فالشر خلفنا وليس أمامنا.

– التراجيديا الحقيقية للإنسان هي في استحالة العودة إلى زمن الماضي وبلوغ عدم ما قبل الوعي.

9 – ” التمزق “:
بعد التأمل في مفهوم التاريخ ضمن أعمال سابقة، يتناول سيوران في هذا الكتاب ما بعد التاريخ. ويحاول تخيل إحدى النهايات المحتملة لحضارتنا، “بالمراهنة على الكارثة “النهاية المحتومة للإنسانية”مقدرة ومكتوبة في بداياتها” ذلك أن الجنس البشري، بعد أن غادر براءته الأولى، يمعن في الانحطاط والعماء.

10- ” تمارين الإعجاب”:
هذا الكتاب يضم المقالات والمقدمات التي كتبها سيوران عن كتَّاب آخرين.غير أن هواجسه الشخصية تبرز من خلال آرائه في الآخرين.وكما يدل عنوان الكتاب فهو “بورتريهات إعجاب”. ويتحدث فيه سيوران عن مفهومه الخاص للأدب “الكتابة رذيلة” لكنها رذيلة خلاص،لأن التعبير “يطهر”(هذه الكلمة لا تنتمي إلى قاموسه، فلنقل:) لأن التعبير يؤدي إلى بعض الراحة.

▪ومن آرائه في الآخرين نقتطف:

• جوزيف دي ميتر: أشد المفكرين شغفا وتعصبا. وحش فاتن!

• بول فاليري: ذهب إلى الحدود القصوى مع اللغة، ذهب إلى حيث تصير اللغة هوائية، في منتهى الرقة والخطورة؛ فلا يبقى منها إلا جوهر دانتيلا ودرجة أخيرة قبل اللاواقع.

• بيكيت: جعل من حب الكلمات “سنده الوحيد “. لم يكن يعيش في الزمن بل كان يعيش موازيًا للزمن.

• هنري ميشو: المهووس القادر على أن يكون نزيهًا. المتصوف المكبوت. اقترابه من التصوف يتم عبر”عواصفه الداخلية”. وسرُّ طريقته يكمن في معايشة الدُّوار بالعمل على تعميقه.

• ميرسيا إلياد: بعيد وغريب عن كل الديانات التي يدرسها، ومع ذلك فهو قادر على العطاء والخصب. أذكر أنني قلت له ذات يوم بأنه ربما سبق له أن عاش في حياة أخرى ولم يتغذَّ إلا بالأعشاب، وذلك لنجاحه في المحافظة على قدر كبير من الحيوية والثقة،والبراءة أيضًا.

• سان جون بيرس: يتحدى العدم: “من أولئك الشعراء الوسطاء في النزاع القائم بيننا وبين العالم”. إنه مثل القصيدة؛ معاصر…لازمني.

• فيتزجيرالد: عاش تجربة “باسكالية” من دون أن تكون له روح باسكال. وككل الطائشين ظل يخشى تعميق التوغل في ذاته.

وهناك كتاب آخرون نستطيع تقريبه منهم:
• كايْوَا: المخفق في عالم التصوف. استطاع من خلال تأمل الأحجار أن يعود إلى النشأة؛ أن يتسلل خارج الزمن.

• بورخيس: “الحضري المترحل ” أو “الحضري الذي بلا وطن “. كان الأجدر به أن يظل في الظل؛ أكبر عقوبة له هي تكريسه شعبيًّا. إنه يمثل صنفًا من الإنسانية في طورها إلى الانقراض. أكثر ما يعجبني فيه قدرته على التحدث بالرهافة نفسها عن العودة الأبدية كما عن التانغو. لكل شيء قيمته، بالنسبة إليه، ما دام هو مركز كل شيء.

11- “اعترافات ولعنات”:
متابعة الحِكم المقطعية التي تأتي على شكل شذرات، وتتناول التيمات المعتادة: الخواء، الخيبة،انحطاط الكائن الخ… وصولاً إلى الشيخوخة، ومحاسبة الذات. منذ العنوان: اعترافات؛ بمعنى التمرد والقبول. ومضات، لحظات فالتة. حِكم قصيرة “أُصبنا كلنا بعدوى الأمل”. عودة إلى تأمل الموسيقى. نوع من عودة الفكر إلى لحظات صفاء وسكينة. تسليم: “ليس للحياة أي مبرر وجود، وهذا هو المبرر الوحيد، على أية حال “.

12– ” دموع وقدِّيسون”:
تُرجم هذا الكتاب من الرومانية. من كتابة الشباب، مع تشذيبها من الحُميَّا الأولى. نواتات تفكيره “الشغف بالمطلق في روح مرتابة “. الدموع تعكس آلام الحنين للمطلق، والمنفى الماورائي. والقديس أو المتصوف ينوس “بين هوى الوجد ورعب الخواء”.

13- “على ذرى اليأس”:
هو أول كتاب وضعه بالرومانية وكان في الثانية والعشرين من العمر. وتدل عناوينه الفرعية على مضامينه: “عدم القدرة على مواصلة العيش”، “الشعور بالنهاية”، “مهزلة ويأس”، “استشعار الجنون”، “كآبة ووجد”، “رؤيا”، “احتكار الألم”، “السخرية والسخرية المضادة”، الخ…
ويعتبر هذا الكتاب نواة كتبه الأخرى: القلق والكآبة، الشعور بالعدم، مديح الصمت، وصولاً إلى عاداته الشخصية التي لازَمته: النزْهات الليلية، الأرق، الكسل، حب الموسيقى، هاجس الانتحار، والمنفى الميتافيزيقي: “أيكون الوجود بالنسبة إلينا منفى والعدم وطناً؟ ” وهي تيمة سوف
تلازمه في ما بعد ويطورها في أكثر من كتاب.

إنه كتاب منبثق من عنف داخلي “لو لم أكتبه لانتحرت “. غنائية وشكوى من الوجود. مديح النار. الشباب. إحالات إلى الطاقة الحيوية عند نيتشة. “استسلام المتصوف ينبجس من الخواء وليس من النار الباطنية” ويؤاخذ الحكيم لأنه يتجاهل “مأسوية الهوى” فما من فكر خلاق حقا يتخلى عن ذاتيته. ومن هنا صفة “المفكر العضوي” التي ينتسب إليها سيوران؛أي المفكر الذي يحوِّل حالاته إلى معرفة، ويستخلص نظرياته من لحمه ودمه؛ من تجربته الذاتية: “في مواجهة الإنسان المجرد الذي يفكر من أجل التفكير، ينهض الإنسان العضوي، المفكر الذي يحدده فقدان توازن حيوي يقع في ما وراء العلم والفن. أحب الأفكار التي تحافظ على نكهة الدم واللحم. ألم يفهم الناس بعد أن زمن الاهتمامات السطحية والذكية قد ولى، وأن مشكلة الألم أكثر إيحاء من مشكلة الجدل والقياس، ذلك أن صرخة اليأس أكثر إيحاء بما لا يقاس،من ملاحظة حاذقة… لِمَ لا نريد التسليم بالقيمة المتفردة للحقائق الحية؟”

▪بعض آرائه:
قبل تقديم مختارات من شذراته، ارتأينا ترجمة مقتطفات من آرائه المبثوثة في عدد من المقابلات التي أجريت معه، وقد صدرت بدورها ضمن أعماله الكاملة عن منشورات “غاليمار” الفرنسية. ونبدأ بمقتطفات من كتاب سيلفي جودو “محاورات مع سيوران” الذي صدر سنة 1990 عن منشورات جوزيه كورتي.

• يقول سيوران متحدثاً عن الفترة التي سبقت تأليف كتابه الأول “على ذرى اليأس” في بداية شبابه “عشت لحظات، يكون المرء فيها مأخوذا خارج المظاهر. هزة فورية تأخذك من دون استعداد. يجد الكائن نفسه في امتلاء خارق، أو بالأحرى في خواء حماسي. كانت تجربة عظيمة؛ الكشف المباشر ببطلان كل شيء. تلك الاشراقات فتحت لي مجال معرفة السعادة القصوى التي يتحدث عنها المتصوفة. وخارج هذه العادة المؤقتة لا يمتلك أي شيء وجوداً حقيقياً. نحن نعيش في مملكة الأشباح. ونحن، على أية حال، لا نعود كما كنا أبدًا، سواء أكانت تلك العودة من الفردوس أم من الجحيم”.

• “الخطر لدى المتصوفة ليس الشيطان بل ذلك الخواء “(بعد الكشف)

• “الخواء يغدو معرفة. والتصوف يغدو فاقداً للمطلق.”

• “الإخفاق هو الصيغة العصرية للعدم. طيلة حياتي كنت مفتوناً بالفشل، وما يعقبه من ندم، وهو ما عبرت عنه في كتابي “على ذرى اليأس”.

▪وعن الموسيقى يقول: “أفضل دليل على أن الموسيقى ليست من جوهر إنساني، بأي شكل من الأشكال، هو أنها لا تبعث أبدًا على تصور الجحيم(…) إنها الفن الوحيد الذي يضفي معنى على كلمة المطلق. إنها المطلق معيشا لكن عبر وهم كبير، لأنه يتلاشى مع عودة الصمت…”

▪وعن الشعر: “بقدر ما تطول علاقتنا بالشعر نتمكن من مغالبة الخواء الداخلي. وبالشعر، كما بالموسيقى، نلامس شيئاً ما، جوهرياً. وفي الشعر يستبعد الزمن، فإذا أنت خارج الصيرورة… الموسيقى والشعر غيبوبتان متساميتان.”

▪عن أقرب كتبه إلى نفسه: ( كتاب “مساوئ أن يكون المرء قد ولد” ألتزم بكل كلمة في هذا الكتاب الذي نستطيع فتحه في أي صفحة، وليس من الضروري قراءته كله. كذلك أميل إلى كتاب “قياسات المرارة” لأن كثيرين هاجموه. غير أنني أتمسك بشكل خاص بالصفحات السبع الأخيرة من كتاب “السقوط في الزمن” وهي تمثل أفضل ما كتبت وأكثره جدية.)

• ومن مقابلة أجراها معه مايكل جاكوب سنة 1988: “بقيت مجهولاً تمامًا طيلة ثلاثين عاماً، وكانت كتبي لا تباع قط. لقد تقبلت ذلك الوضع جيداً لأنه يناسب رؤيتي للأشياء. الأعوام الوحيدة المهمة هي تلك التي عشتها مجهولاً. أن تكون مجهولاً ففي ذلك لذة – مع جوانب من المرارة أحياناً، لكنها حالة خارقة.”

• وعن مسألة انتمائه، يجيب في مقابلة أجراها معه فرناندو سافاتر سنة 1977 “أشعر أنني منفصل عن كل البلدان وعن كل المجموعات. أنا متشرد ميتافيزيقي. أشبه قليلاً أولئك الرواقيين في نهاية الإمبراطورية الرومانية، والذين كانوا يشعرون بأنهم “مواطنو العالم” الأمر الذي يعني أنهم مواطنو اللاَّمكان.”

• ويتحدث عن “الضحك” في مقابلة مع لِيَا فرجين سنة 1984: “الضحك هو المبرر الكبير للحياة! وعليَّ القول إنني،حتى في أعمق لحظات اليأس، كنت قادراً على الضحك. هذا ما يميز الإنسان عن الحيوان. الضحك ظاهرة عدمية، تماماً كما يمكن للفرح أن يكون حالة مأتمية.”

• وعن تفضيله للكتابة المقطعية، أو الشذرات، يقول في حواره مع سيلفي جودو: “الشذرة، وهي الشكل الوحيد الملائم لمزاجي، تمثل كبرياء لحظة محوَّلة، مع كل التناقضات التي تحتويها. إن عملا ذا نفس طويل، وخاضعا لمتطلبات البناء ومزيفا بهاجس التتابع، هو عمل من الإفراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حقيقيا.”

☆المختارات☆
■ من كتاب “موجز التفكيك “:

في كل إنسان ينام نبي. عندما يستيقظ يكون الشر قد زاد قليلاً في العالم.

يكمن الفرق بين الذكاء والغباء في طريقة التعامل مع النعت (الصفة)، ذلك أن استخدامه من دون تنويع هو الذي يؤدي إلى ابتذاله.

الخلاص ينهي كل شيء وينهينا.
العيب في كل مذهب للخلاص يكمن في إلغاء الشِّعر، مجال عدم الاكتمال. ومن شأن الشاعر أن يخون نفسه إذا طمع في الخلاص: فالخلاص هو موت النشيد، نفي الفن والروح.

لا يوجد إنسان لم يتمنَّ – لا شعوريا على الأقل – موت إنسان آخر. كل واحد يجر وراءه مقبرة أصدقاء وأعداء؛ وليس من المهم كثيراً أن تكون تلك المقبرة قد أحيلت إلى مهاوي القلب أو أسقطت على سطح الرغبات.

الحرية مبدأ أخلاقي من جوهر شيطاني.

مجمل تدرُّجات الضوء التي تتضمنها الفكرة هو الدليل الوحيد على عمقها، كما أن نبرة الابتهاج اليائسة بها هي الدليل على فتنتها.

ما يجعلني أعترف بأن الشاعر حقيقي يكمن في ما يلي: عند قراءته، ومعايشته كتاباته مطولاً، يتغير شيء ما، في داخلي…

الحياة، – هدية يقدمها للأحياء أولئك المهووسون بالموت…

■ من كتاب “قياسات المرارة”:

الشاعر: شخص ماكر يمكنه أن يتبرَّم بلا داعٍ، وأن يسكن الحيرة، وقد يطلب المزيد منها مهما كانت الوسائل. فيما بعد، تأتي أجيال ساذجة وتشفق عليه.

كل مفكر، في بداية طريقه، يُؤْثر رغماً عنه الجدل أو الصفصافة المستحية (المتدلية الأغصان).

يصيبنا نوع من الضيق عندما نحاول تخيُّل الحياة اليومية للمفكرين الكبار… ما عسى سقراط كان يفعل، حوالي الثانية ظهرًا؟

الشعر الجدير بهذا الاسم يبدأ من تجربة القدر؛ وحدهم الشعراء السيئون أحرار.

مع كل فكرة تولد فينا، يتعفن شيء ما فينا.

الكذب ينبوع دموع! مكر العبقريّ وسرّ الفن.

لا أكون أنا–أنا إلا إذا كنت تحت أناي أو فوقها، وقت الغضب أو وقت الانهيار؛
عندما أكون في مستواي المعتاد لا أدرك أنني موجود.

ما بين السأم والوجد تجري كل تجربتنا مع الزمن.

اليأسُ موثَّق، الأمل وهْم وتخييل.

ندرك أننا لم نعد في مرحلة الشباب عندما نكف عن اختيار أعدائنا، أو عندما نكتفي بمن عندنا منهم.

تأتي أحقادنا كلها من بقائنا تحت مستوى ذواتنا وعدم قدرتنا على اللحاق بها وهذا لن نغفره أبداً للآخرين.

كل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيسيولوجية.

كلما أحاطت بنا المصائب، جعلتنا تافهين أكثر: حتى مساعينا تتغيَّر. تدعونا المصائب إلى التبجّح، تخنق فينا الشخص كي توقظ الشخصية.

لا أعطل من قدِّيس…

منذ ألفيْ عام والمسيح ينتقم منَّا لأنه لم يمت على كَنَبَة (أريكة).

☆ عن الحب:

فن الحب؟هو في القدرة على الجمع بين مزاج مصَّاص الدماء ورصانة شقائق النعمان.

من يقتل نفسه من أجل غانية يدخل تجربة أكمل وأعمق من تجربة البطل الذي يبلبل العالم.

أحلم أحيانًا بحب بعيد وبخاريّ مثل انفصام العطر…

ثمة راهب وجزَّار يتشاجران داخل كل رغبة.

لو كان آدم سعيداً في الحب لوفَّر علينا التاريخ.

أن نتصور حبًّا أعمق من ربيع-يحزنه زنا الأزهار-فيبكي عند جذورها.

الجنس: بلقنة الأجساد(…)

في اللذة كما في أوقات الهلع، نعود إلى أصولنا؛ الشمبانزي المستبْعَد بغير وجه حق، يبلغ المجد أخيرًا – ولو لمدة الصرخة.

ما زلنا نحب… على أية حال؛ وهذه الـ “على أية حال ” تغطي لا نهايةً…

☆ عن الموسيقى:

لولا هيمنة المفهوم لحلت الموسيقى محل الفلسفة، ولكان في ذلك فردوسُ الوضوح، الدقيق عن التعبير،وبَاءٌ من النشوة المتنقلة.

ما قيمة كل الألحان مقارنة بتلك التي تخنق فينا الاستحالة المزدوجة للعيش وللموت!

الموسيقى ملجأ الأرواح التي جرّحتها السعادة.

ما من موسيقى حقيقية إلا تلك التي تجعلنا نجس الزمن.

اللانهاية الراهنة، لغو وانعدام معنى بالنسبة للفلسفة، ومع ذلك فهي حقيقة الموسيقى، بل جوهرها ذاته.

عندما تلوح الموسيقى نفسها عاجزة عن إنقاذنا، يلمع خنجر أمام عيوننا؛ لم يبق شيء يسندنا، إلا إذا استثنينا فتنة الجريمة.

كم أتمنى الموت بالموسيقى حتى أعاقب نفسي، لأنني شككت أحيانًا في سُموِّ أذِيَّتِها.

الموسيقى منظومة وداعات تستدعي طبيعةً فيزيولوجية لم تكن الذرات نقطةَ انطلاقها، بل الدموع.

☆ عن التاريخ ودواره:

الأحداث: أورام الزمن…

تطور: كان من شأن برومثيوس، في أيامنا، أن يكون نائباً يمثل المعارضة.

الإنسان كائن يفرز الكارثة.

عن مصادر الخواء:
وحدها الروح المتصدعة يكون لها انفتاح على الماوراء.

للحشرات جحيم ينقصه، لحسن الحظ، مسرحيّ أو مؤرخ وقائع.

الأرق هو شكل البطولة الوحيد المنسجم مع السرير.

لا يبلغ الجنون إلا الثرثارون والصموتون: هؤلاء المفرَغون من كل لغز وأولئك الذين خزَّنوا من الألغاز الكثير.

قال لي أحد المرضى: “ما الجدوى من آلامي؟ لست شاعراً حتى استثمرها أو أفتخر بها.”

في حالة الشحوب ينسحب دمنا كي يكف عن التدخل – أو الاعتراض – بيننا وبين لسنا ندري ماذا…

المرض منفذ لا إرادي إلى ذواتنا، يجبرنا على التوغل “في العمق ” ويحكمنا به – والمريض؟
إنه ميتافيزيقي رغم أنفه.

بعد البحث سدى عن بلد تنتمي إليه،ترتد إلى الموت، حتى تتمكن في هذا المنفى الجديد،من الإقامة كمواطن.

الحيَيْوان المنويّ قاطعُ طريقٍ في حالته الخام.

■ من كتاب”بحث في الفكر الرجعي”

الذين ينتمون إلى حزب من الأحزاب، يعتقدون أنهم يتميزون عن أولئك المنخرطين في حزب آخر، والحال أن جميعهم يلتقون في العمق، وفي طبيعة واحدة، بمجرد لجوئهم إلى الاختيار، ولا يختلفون إلا في الظاهر، أي حسب القناع الذي اختاروه.ومن الجنون أن نتخيل الحقيقة كامنة في الاختيار ما دام كل اختيار أو تحديد موقف،يعادل الاستهانة بالحقيقة. ومن سوء حظنا أن الاختيار واتخاذ الموقف قدر لا مناص لنا منه، كل واحد منا مكره على اختيار اللاحقيقة والخطأ.

الثورة الناجحة التي تستولي على السلطة،تتحول إلى ما هو عكس الاختمار والولادة فتكف عن كونها ثورة وتقلد، بل عليها أن تقلد،ملامح النظام الذي قلبته، وكذلك أجهزته وطريقة عمله. وكلما بذلت جهدا من أجل ذلك (وهي لا تستطيع أن تفعل غير ذلك) زادت في هدم مبادئها والقضاء على حظوتها.

تصير الثورة محافظة على طريقتها الخاصة،فلا تقاتل من أجل الماضي، بل تقاتل دفاعًا عن الحاضر. ولا شيء يساعدها على ذلك أفضل من اتباع الطرق والأساليب التي مارسها النظام السابق عليها للمحافظة على ديمومته.

ما من حالة ثورية حقًّا إلا حالة ما قبل الثورة، عندما ينخرط الناس في العبادة المزدوجة للمستقبل وللهدم.

حتى الفوضويّ المتطرف في نزعته، يُخفي في أعماق تمرُّده إنسانًا رجعيًّا ينتظر الساعة المناسبة، ساعةَ الاستيلاء على السلطة،حيث يطرح تحوُّلُ الفوضويِّ إلى… سلطة مشاكل لا يمكن لأية يوتوبيا أن تتجرَّأ على حلها، أو محاولة حلّها، من دون أن تسقط في الغنائية وإثارة السخرية.

ما من حركة تجديد إلا وتنزلق، في لحظة اقترابها من الهدف وتَحَقُّقها في الدولة، نحو آلية المؤسسات القديمة،لتسترجع التقاليد. وكلما تحددت واتضحت فقدت من طاقتها؛وهذا هو وضع الأفكار أيضا: كلما زادت صياغتها ووضوحها نقُصَتْ جدواها وفاعليتها: كل فكرة جلية هي فكرة بلا غد.وفي ما وراء الطور الأخلاقي، تنحطُّ كلٌّ من الفكرة والفعل ويلتغيان: الأولى تؤدي إلى المنظومة الفكرية،والثاني يؤدي إلى السلطة.

تكمن مأساة الحياة السياسية في تلك القوة الخفيّة التي تحمل كل حركة على إنكار ذاتها وخيانة إلهامها الأول، وإلى فسادها المطَّرد مع تأكيد ذاتها وتقدُّمها. فلا شيء يكتمل، في السياسة كما في غيرها، إلا على هلاكه.

كل مذهب يتضمن نواة كارثته: باعتبار أن الفكر لا يكون بَنَّاءً إلا سهوًا، فإن لقاء الإنسان والفكرة يتضمن دائما،على وجه التقريب،عاقبة وخيمة.

■من كتاب “السقوط في الزمن”

الزمن، ولا بد من الإقرار بذلك، يشكل عنصرنا الحيوي؛ عندما نتجرد منه نجد أنفسنا بلا سند، في عمق اللاواقع، أو في قلب الجحيم.

أن تتألم يعني أن تكون أنت ذاتك تمامًا، أن تبلغ حالة عدم تطابق مع العالم.

لا وجود لحرية ولا لحياة حقيقية من دون التمرّن على التخلُّص من الملكية.

كل أثر [إبداعي] مهما كانت درجة سموُّه، ينبثق من اللحظة الراهنة ويحمل علاماتها.

الملاك، من حيث الوصف، عقيم وغير ناجع، وكذلك هو شأن النور الذي يعيش فيه خاملاً، لا يلد شيئًا، لأنه محروم من المبدأ المعتم، الباطني، الذي يكمن في كل تمظهر للحياة. أما الإله فإنه يظهر أكثر امتيازًا لأنه مجبول من الظلمات: ولولا عدم الاكتمال الحيوي لتلك الظلمات، لظلَّ في حالة شلل أو غياب، عاجزًا عن أداء الدور الذي نعرف. إنه مَدين لها بكل شيء، بما في ذلك كينونته.
ما هو خصب وحقيقي لا يكون مضيئًا كلّيًّا ولا جديرًا بالاحترام كلّيًّا.

■ مقتطفات من الصفحات السبع الأخيرة المفضلة لدى سيوران
(من كتابه “السقوط في الزمن”)

ما أميزه في كل لحظة من اللحظات، هو لهاثها واحتضارها، وليس الانتقال نحو لحظة أخرى.
أهيئ زمنا ميتا، وأتمرغ في اختناق الصيرورة.

الآخرون يسقطون في الزمن؛ أما أنا فقد سقطت من الزمن.

إذا كنت لا أحس بالزمن، إذا كنت بعيداً عنه أكثر من أي كان، فأنا بالمقابل أعرفه. إنني أتأمله باستمرار: إنه يشغل مركز وعيي.

ارحموا من كان في الزمن ولم يعد قادرا أن يكون فيه!

ثمة شيء ما، مقدس، في كل كائن لا يعرف أنه يوجد، في كل أشكال الحياة المتخلصة من الوعي. ومن لم يحسد النبات قط ينتقل الى جانب المأساة الإنسانية.

كيف يؤدي وعي المرء بالموت إلى تلطيف فكرة الموت أو تأخير حدوثه؟عندما يدرك المرء أنه فانٍ، فمعنى ذلك في الواقع، أنه يموت مرتين فقط ،ولا يظل يموت في كل مرة يدرك فيها أنه سيموت.

الجميل في الحرية أننا نتعلق بها في النطاق ذاته الذي تبدو فيه مستحيلة.

بعد أن أفسد الإنسان الأبدية الحق، سقط في الزمن، حيث تمكَّن من العيش حتى وإنْ خانته البحبوحة: الثابت أنه حقق الانسجام والتكيف، إن عملية ذلك السقوط والتكيف تدعى التاريخ.

لكن ثمة سقطة أخرى تنتظره وتهدده وإن كان يصعب تقدير مداها. هذه المرة لم يعد الأمر يتعلق بسقوطه من الأبدية، بل من الزمن، والسقوط من الزمن يعني السقوط من التاريخ، إنه الصيرورة المعلقة…
لا بد من الاعتراف بأن الزمن يشكل عنصرنا الحيوي؛ وعندما يُنزع منا، نجد أنفسنا بلا سند، في اللاواقع تماما، أو في قلب الجحيم. وربما في الاثنين معا، في السأم، ذلك الحنين (النوستالجي) الظامئ إلى الزمن، واستحالة اللحاق به والاندراج فيه،والإحباط من رؤيته يتدفق هناك في الأعلى،فوق بؤسنا وشقائنا. لقد خسرنا الأبدية والزمن! والسأم هو اجترار هذه الخسارة المزدوجة.

■من كتاب “الخالق السيئ”

ألا يشكل الندم علامة على الشيخوخة المبكرة؟ إذا كان ذلك صحيحاً فقد وُلِدتُ مُسِنّاً.

“ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر روحه ؟”
أن يربح العالم ويخسر روحه! -أنا فعلت أفضل من ذلك:خسرت الاثنين معاً.

من هو “المعاصر”؟ إنه شخص نتمنّى قتله من دون أن نعرف جيداً، كيف.

تتمزق كل لحظة بين الحنين إلى زمن الطوفان ونشوة الرتابة.

لا تتقدم الروح إلا إذا تحلت بالصبر على اللف والدوران، أي الصبر على التعمُّق.

الواجب الأول عند الاستيقاظ: الخجل من الذات.

نصيب الذي أفرط في التمرد أن لا تبقى له من الطاقة إلا القدرة على الخيبة.

أن يتمنى المرء المجد، يعني أنه يفضل الموت مكروهاً على الموت منسياً.

الألم يجعلك تعيش الزمن في تفاصيله، لحظة لحظة. فلا حاجة إلى التساؤل عمّا إذا كان موجوداً بالنسبة إليك! إنه ينزلق على الآخرين، على الذين لا يتألمون؛ لذلك يمكن القول إنهم لا يعيشون في الزمن، وربما لم يعيشوا فيه قط.

كل أفكارنا مرتبطة بمصائبنا. إذا كنا نفهم بعض الأشياء فإن الفضل في ذلك يعود إلى انتكاس صحتنا، فقط.

يطلبون منك أفعالاً، حججاً، أعمالاً، وكل ما يسعك إنتاجه هو بكاء تم تحويله.

لا يستسلم الطموح للظلمة إلا بعد استنفاد كل احتياطيِّ المرارة الذي بحوزته.

لا توجد أية وسيلة للبرهنة بأن الوجود أفضل من عدم الوجود.

دور الأرق في التاريخ، من كاليغولا إلى هتلر؛ هل تكون استحالة النوم سبباً أم نتيجة للقسوة؟ الطاغية يسهر– وهذا ما يميزه في الجوهر.

قال شحاذ: “عندما أبكي بجوار زهرة، تنمو بوتيرة أسرع.”

لعل الجنون مجرد حزن كفَّ عن التطور.

الوظيفة الوحيدة للذاكرة تكمن في مساعدتنا على الندم.

كل بداية لفكرة توافق جرحاً لا يُدرَك في الروح.

عضال! نعت شرَفيّ يُفترض أن لا يتميز به إلا مرض واحد، أفظع الأمراض قاطبة: الرغبة.

أن تتألم يعني أن تنتج المعرفة.

التفكير هدم في جوهره. وبشكل أدق: في مبدئه. نفكر، نبدأ بالتفكير، كي نقطع العلاقات، ونلغي الصلات، ونجازف ببِنْية ما هو “واقعي”. فيما بعد فقط، عندما يتقدم الحفر والتنقيب، يستدرك الفكر ويتمرد على حركته الطبيعية.

على المستوى الروحي، كل ألم هو فرصة؛ على المستوى الروحي فقط.

يمكن الزعم بكل ثقة أن القرن الحادي والعشرين، وهو أكثر تقدما من قرننا،سوف ينظر إلى هتلر وستالين باعتبارهما طفلين في جوقة.

يا لَكمّية التعب التي ترتاح في دماغي!

قد يفيدنا النوم في شيءٍ مّا لو أننا في كل مرة ننام نتدرب على الموت؛بعد مرور بضعة أعوام من التدرب،من شأن الموت أن يفقد كل امتياز ولن يبدو إلا مجرد إجراء شكلي، أو مجرد إزعاج.

الموت نكهة الوجود. وحده يسبغ مذاقاً على اللحظات،وحده يقاوم تفاهتها. نحن مدينون له بكل شيء تقريباً. هذا الاعتراف بالدَّيْن، الذي نزداد إنكارا له، هو أفضل تعزية لنا في الحياة الدنيا.

يعتبر ثرثرةً كلُّ حوار مع شخص لم يعرف الألم.

نظريا لا يهمني كثيراً أن أعيش أو أن أموت؛ عمليا، تشغلني كل أشكال القلق التي تفتح هوة بين الحياة والموت.

الكآبة التي تعبر عنها عينَا الغوريلاَّ، ذلك الحيوان الثديي المفجع! أنا أنحدر من نظرته.

يمكن للمرء التفكير في الموت كل يوم،والمثابرة مع ذلك في الكينونة بنشاط وحبو؛ لكن الأمر ليس كذلك إذا ما فكر باستمرار في ساعة موته؛مَنْ لا ينظر إلا إلى تلك اللحظة من شأنه ارتكاب جريمة ضد كل لحظاته الأخرى.

كل فكرة خصبة تتحول إلى فكرة كاذبة،تنحلُّ إلى معتقد. وحدها الفكرة العقيم تحافظ على حالة الفكرة.

الإنسان هذا المُبيد، يلاحق كلَّ ما يعيش، كل ما يتحرك: قريباً سوف نتحدث عن آخر قملة.

كل كائن هو نشيد مدمَّر.

لا يشعر الآخرون أنهم دجالون؛ ومع ذلك فهم كذلك؛ أنا…دجال مثلهم تمامًا، لكنني أدرك ذلك وأتألم منه.

كل شيء يختصر إجمالاً في الرغبة، أو في عدم الرغبة. ما تبقَّى مجرد ظلال فروق.

“أنا حر في الدرجة الأخيرة”،-هذه الجملة رفعت المتشرد الذي نطق بها في ذلك اليوم، فوق مستوى الفلاسفة والفاتحين والقديسين، لأن أحدًا من هؤلاء لم يتجرأ، وهو في قمة مهنته، على ذكر مثل هذا النجاح.

الساقط إنسان مثلنا جميعا، مع فارق أنه لم يتفضَّل بخوض اللعبة. نحن نلومه على ذلك ونتحاشاه، نؤاخذه على كشف سرنا وعرضه علنًا، ونعتبره، بحق، بمثابة بائس وخائن.

استيقظت مندفعًا من النوم بسبب هذا التساؤل: “إلى أين تذهب هذه اللحظة؟” وكان جوابي: “إلى الموت” وسرعان ما عدت إلى النوم.

التلذُّذ بتوقُّع الكارثة يتقلص طردًا مع اقترابها،ثم يتلاشى تمامًا حالَمَا تحدث.

الحكمة تستر جراحنا: إنها تعلمنا كيف ننزف خفية.

الذي لم يمت شابًّا يكون جديراً بالموت.

كل شيء يتلاشى ويفسد لدى الكائنات،ما عدا النظرة والصوت: لولاهما لما تمكّنَّا من التعرف على أحد بعد مرور بضعة أعوام.

في هذه اللحظة تحديدًا، وفي كل مكان تقريبًا، ثمة آلاف وآلاف يحتضرون، بينما أبحث سدًى، متشبِّثًا بقلمي، عن كلمة للتعليق على احتضارهم.

مللت من كوني أنا، ومع ذلك أتوسل للآلهة باستمرار كي تعيدني إلى ذاتي.

في المتحف البريطاني، أمام مومياء لإحدى المغنيات وقد بدت أظافرها الصغيرة منبثقةً من الضمادات، أذكر أنني أقسمت ألا أقول أبدًا: أنا…

لا وجود إلا لعلامة واحدة تشهد على أننا فهمنا كل شيء: أن نبكي بلا سبب.

ما اسم هذا العظم الذي ألمسه؟ ما العلاقة بيننا، أنا وهو؟ ينبغي إعادة هذه التجربة مع جزء آخر من الجسد، ومواصلة ذلك إلى أن تكفَّ كل الأجزاء عن أن تكون مِلْكَنَا.

لكي يجد المرء نفسه، لاشيء أفضل له من أن “يُنسَى”. وأن لا يأتي أحدهم ليتدخل بينه وبين ما هو مهمّ. كلما انصرف الآخرون عنا ازداد عملهم من أجل كمالنا: إنهم ينقذوننا من خلال هجْرنا.

لعل ما يجعل الشيخوخة قابلة للتحمل يكمن في ذلك الاستمتاع برؤية أولئك الذين آمنوا بنا يتلاشون واحدًا واحدًا، وهكذا لم يعد من الممكن أن نخيِّب ظنَّهم فينا.

مستشرساً من أجل إنقاذ الماضي، يمثل الندم ملجأنا الوحيد ضد مناورات النسيان: وماذا يكون الندم في جوهره غير الذاكرة وقد انتقلت إلى الهجوم؟ عندما يُحيي الندم وقائع عديدة ويحوِّرها كما يريد، يقدم لنا كل الصيغ المطلوبة لحياتنا، بحيث يكون من الصحيح القول بأنها تبدو لنا، بفضل الندم،مثيرة للشفقة وزاخرة في آن.

ما أفضِّله: عصر الكهوف وعصر الأنوار.
لكنني لا أنسى أن الكهوف أدَّت إلى التاريخ، وأن الصالونات أدَّت إلى المقصلة.

في كل مكان: الجسد مقابل المال. لكنْ ما قيمة جسد مدعوم ماليًّا؟-في السابق، كان الإنجاب يتم عن قناعة أو عَرَضًا. أما اليوم فمن أجل قبض الإعانات المالية. هذه المبالغة في الحسابات لا يمكن أن تكون خالية من الأذى بالنسبة إلى نوعية الحيوانات المنوية.

التلذُّذ بالألم كشعور، وكتعبير عنه أيضا، موجودان في كتابات هوميروس،بصفة استثنائية طبعًا. أما بصفة عامة، فينبغي انتظار أزمنة أقرب. لقد كان الدرب طويلاً من الملحمة إلى المذكرات الشخصية.

لم يكن من شأننا الاهتمام بالكائنات لولا الأمل في العثور،ذات يوم، على شخص “مخوزق” أكثر منا.

كلنا نعيش في قرارة جحيم، وكل لحظة فيه معجزة.

■من كتاب “مساوئ أن يكون المرء قد ولد”

الاتصال الحقيقي بين الكائنات لا يتم إلا من خلال الحضور الصامت، من خلال اللاتواصل ظاهريًّا، من خلال التبادل الغريب، الخالي من الكلمات، والذي يشبه الصلاة الداخلية.

لا يمكن للعمل [الأثر] أن يتحقق ويوجد إلا إذا تم إعداده في الظل مع اعتناء يتميز به القاتل الذي يهيئ لضربته. وفي الحالتين يكون المقام الأول لإرادة الضرب.

كلما توغل الفن في طريق مسدود، ازداد عدد الفنانين. هذا الخلل يكف عن كونه كذلك إذا فكرنا بأن الفن، في طريقه إلى النضوب، صار مستحيلا وسهلا في آن.

بعد ليلة أرق بيضاء، يلوح المارَّة آليين. لا يبدو على أحد أنه يتنفس أو يمشي. يلوح كل واحد وكأنه يتحرك بنابض: لاشيء يأتي تلقائيًّا؛ ابتسامات آلية، وحركات أشباح. أنت نفسك شبح، فكيف تريد أن تجد في الآخرين أحياء؟

بعد تجارب معينة، يتوجب علينا تغيير أسمائنا، لأننا لم نعد نحن. كل شيء يتخذ مظهرًا آخر،بداية من الموت. إنه يلوح قريبًا ومرغوبًا فيه، فنتصالح معه، ونتوصل إلى اعتباره “أفضل أصدقاء الإنسان” كما قال عنه موزار في إحدى رسائله إلى والده المحتضر.

ما يجعل الشعراء السيئين أكثر سوءا هو اكتفاؤهم بقراءة الشعراء (مثل الفلاسفة السيئين الذين لا يقرؤون إلا الفلاسفة الرديئين) والحال أنهم –الشعراء– قد يستفيدون أكثر من كتابٍ في علم النبات أو الجيولوجيا. لا يمكن للمرء أن يغتني إلا إذا عايش اختصاصات بعيدة عن اختصاصه. وهذا لا يكون صحيحا،طبعا، إلا في المجالات التي تستفحل فيها الأنا.

ترياق السأم هو الخوف. ينبغي أن يكون الدواء أقوى من الداء.

الخوف يؤدي إلى الوعي،الخوف المَرضيّ وليس الخوف الطبيعي، وإلا لكانت الحيوانات قد بلغت درجة وعي تفوق وعينا.

الحقيقة تكمن في المأساة الفردية. إذا ما تألمتُ حقًّا، فأنا أتألم أكثر مما يتألم الفرد، أتجاوز دائرة “أناي”وألتحق بجوهر الآخرين.
الطريقة الوحيدة لبلوغ ما هو كوني تكمن في ضرورة انشغالنا بما يخصنا فقط.

إذا أردت التعرف على بلد، يتوجب عليك أن تعايش كُتَّابه الذين من الدرجة الثانية، فهم وحدهم يعكسون طبيعته الحقيقية. أما الآخرون فانهم إمَّا يشهِّرون ب/ أو يشوهون ضحالة مواطنيهم: لا يريدون ولا يستطيعون أن يكونوا في مستوى واحد معهم. إنهم شهود مشبوهون.

الناسك التائه؛ هو أفضل ما وُجد حتى اليوم. أن تبلغ حدًّا لا يعود لك فيه ما تتخلى عنه! هذا ما ينبغي أن يكون عليه حلمُ كلِّ عاقلٍ تخلص من الوهم وبلغ الهدى.

كل ما يعيش يُصْدر ضجيجًا.يا لها من مرافعة عن المعادن!

على المرء، عندما يبلغ عمرًا معيَّنًا، أن يغيِّر اسمه ويلجأ إلى مكان مجهول لا يعرف فيه أحد، ولا يخشى فيه رؤية أصدقاء أو أعداء، وهنالك يعيش حياة رضيَّة وهادئة؛حياة شرِّير منهك.

عندما كنت شابًّا،كانت لذتي في خلق أعداء لا تعادلها لذة. أما الآن، فما أن أكسب عدوُّا حتى تكون فكرتي الأولى هي التصالح معه كي لا أنشغل به. امتلاك أعداء مسؤولية كبيرة.حِمْلي يكفيني، لم أعد قادرًا على حَمْل أعباء الآخرين.

نتقبل من دون رعب فكرة النوم المتواصل؛ وبالمقابل من شأن اليقظة الأبدية ( وهذا هو معنى الخلود لو كان ممكنا) أن تصيبنا بالرعب.

اللاشعور وطن؛ الوعي منفى.

كل جيل يعيش في المطلق، ويتصرف كما لو أنه بلغ القمة، بل نهاية التاريخ.

لا يمتلك قناعات إلا ذاك الذي لم يعمِّق شيئا.

كل شعب، في مرحلة من مراحل تطوره، يذهب به الظن إلى أنه شعب مختار.عندئذ يُعطي أفضل ما فيه، وأسوأ ما فيه.

ما إن تكف الحيوانات عن الخوف من بعضها بعضًا حتى تسقط في البلادة وتبدو لنا بمظهر الوهَن الذي نلاحظه عليها في حدائق الحيوانات. ومن شأن الأفراد والشعوب أن يقدموا المشهد نفسه، لو توصلوا ذات يوم إلى العيش في تناغم،وإلى عدم الارتجاف خوفًا، علانية أو في الخفاء.

إذا كان صحيحًا أن الموت يعيدنا إلى ما كنا عليه قبل أن نكون، ألم يكن من الأفضل لو تشبثنا بالاحتمال المحض ولم نتحرك إلى ما هو أبعد منه؟ لمَ هذه الانعطافة إذا كان في إمكاننا البقاء أبديًّا في امتلاء غير متحقق؟

(…) من الصباح إلى المساء، نصنع الماضي.

اللاوعي هو السرّ، إنه “مبدأ حياة” الحياة. الملجأ الوحيد ضد الأنا، ضد بؤس أن يكون المرء قد اكتسب فردانيته، ضد الأثر المضني لحالة الوعي؛ وهي حالة من الرعب وصعوبة المواجهة بحيث كان ينبغي أن تكون مخصَّصة للمصارعين وحدهم.

كلما مر الزمن ازدادت قناعاتي بأن أعوامي الأولى كانت فردوسًا. ولا أشك أنني مخطئ. لو كان هناك فردوس فإنه يتوجب عليَّ البحث عنه قبل أعوامي كلها.

لا شيء يفوق جسامة الحقارات والبذاءات التي نقترفها بسبب الخجل.

…العطالة إلهية. ومع ذلك ضدّها تمرَّد الإنسان.

في الفنّ كما في كل شيء، يكون الشارح،عادةً،نبيهًا وفطنًا أكثر من النص المشروح. هذا ما يمتاز به القاتل على الضحية.

■ من كتاب “التّمزّق”

على الكتاب الحقيقي أن يحرك الجراح، بل عليه أن يتسبب فيها. على الكتاب أن يشكل خطرًا.

ما الألم؟ إحساس لا يريد الزوال، إحساس طموح.

كنا ذات يوم نتحلق حول المائدة ونتحادث في “اللاهوت”. كانت الخادم، وهي ريفية أمية، تستمع إلينا واقفة. قالت:” أنا لا أؤمن بالإله إلا عندما أشعر بألم في أسناني”. بعد مرور حياة كاملة ظل تدخلها هو الوحيد الذي أتذكره.

عندما تكره شخصا تريد منه أن يكون كل شئ إلا ما هو عليه. كتب “ت” يقول لي بأنني أفضل إنسان يحبه في العالم… لكنه ناشدني في الوقت نفسه أن أتخلى عن هواجسي، وأغير طريقي، وأن أصير شخصا آخر متخليًا عن الذي أكونه. معنى ذلك أنه يرفض وجودي.

كل فعل شجاع يتأتى من شخص غير متوازن. كل الحيوانات، وهي من باب التعريف سوية، تعتبر جبانة، إلا عندما تدرك أنها الأقوى، وهذا هو الجبن بعينه.

الإنسان الذي يحترم نفسه ليس له وطن. الوطن مادة لاصقة.

كل تلك العيون القاسية، الشرسة.في حالة الهياج العام لا نتجرأ على تخيل تعابيرها.
كلمة ” جار” ليس لها من معنى في المدن الكبرى. إنها مفردة كانت مشروعة في الحضارات الريفية، حيث كان الناس يعرفون بعضهم عن قرب، ويمكنهم أن يتبادلوا الحب أو الكراهية في سلام.

يمكننا، عند كل المفكرين تقريبًا، ملاحظة حاجتهم إلى الإيمان بالمواضيع التي يعالجونها، وتماهيهم معها إلى حد ما. هذه الحاجة، المدانة على مستوى النظرية، تبدو مع ذلك نعمة، فبفضلها لا يقرفون من التفكير…

أن تكون موجودًا يعني أن تكون محشورًا(محاصَرًا ).

من العائلة التي أصابها صدع، ينبثق ولد ويكرس نفسه للحقيقة فيتيه باحثًا عنها.

أحول مقاومة الاهتمام الذي أبديه تجاهها، فأتخيل عينيها، خديها، أنفها، شفتيها، في أوج التحلل عبثًا: فما يتضوع منها ويعجز عنه الوصف يستمر. في مثل هذه اللحظات ندرك لماذا نجحت الحياة في البقاء على الرغم من المعرفة.

يكون من الأفضل لنا عندما نتوصل إلى الفهم أن نقضي نحبنا فورًا. ما الفهم؟ إن ما نتوصل إلى فهمه حقًّا لا يصير قابلاً للتعبير بأية طريقة كانت، ولا يمكن إبلاغه إلى أحد، حتى إلى الذات، بحيث يموت المرء وهو يجهل الطبيعة المحددة لسرّه الخاص.

تأسيس عائلة. أعتقد أنه من الأسهل عليَّ تأسيس إمبراطورية.

قول ياباني: وحدها الورقة التي تسقط هي ورقة كاملة.

يكمن أساس المجتمع، أيّ مجتمع، في نوع من كبرياء الإذعان. عندما يتلاشى هذا الإذعان ينهار المجتمع.

نحن عبيد ونبقى عبيدًا، طالما لم نُشْفَ من عادة الأمل.

لا أقاوم العالم، أقاوم قوة أكبر، أقاوم تعبي من العالم.

ما زال النشاط الجنسي القديم معتبرًا. ينبغي الاعتراف بأن هذه القيمة ظلت قائمة منذ أن كانت الحياة حياة. كيف نفسر الملل من كل شيء إلا من الجنس؟ إن هذا النشاط الأقدم الذي يطبع الكائن الحيّ لا يمكن إلا أن يترك ميسمه علينا، وهكذا نفهم لماذا يعتبر من لا يمارسه شخصًا منفصلاً، حطام إنسان أو قدّيسًا.

مهمتي أن أقتل الوقت، ومهمته أن يقتلني أيضاً. لا خلاف بين القتلة.

حالة العافية هي حالة عدم إحساس، وربما كانت حالة لاواقع. ما إن نكفّ عن التألّم حتى نكفّ عن الوجود.

ما من صداقة تتحمّل مقدارًا مبالغًا فيه من الصراحة.

كل شيء هو لا شيء، بما في ذلك وعي اللاشيء.

لو قيّض للأمواج أن تفكر لاعتقدت أنها تتقدم، ولها هدف، وتتطور، وتعمل لخير البحر، وقد لا تتخلف عن وضع فلسفة لا تقل بلاهة عن اندفاعها.

بئس كتاب نستطيع قراءته دون التساؤل طيلة الوقت عن المؤلف!

لا شيء أغرب من قدر الجسد.

كيف يمكن التوسع غدًا في فكرة عالجناها البارحة؟ – بعد مرور ليلة لا يبقى المرء هو ذاته، ومن الغش ادعاء الاستمرارية-الشذرة، جنس كتابة مخيّب للآمال بلا شك، مع أنه الوحيد النزيه.

كل شخص ينتظر اضمحلاله بفعل الأمراض أو السنين، في حين أن وضع نهاية لكل ذلك أمر متاح. الأفراد مثل الإمبراطوريات، يفضلون النهاية الطويلة المخجلة.

ليست الشيخوخة، في النهاية، إلا القصاص منك لأنك عشت.

الضجر الذي يبدو وكأنه يعمّق كل شيء لا يعمّق في الواقع شيئًا، بالنظر إلى أنه لا يتوغل نازلاً إلا في ذاته ولا يسبر إلا فراغه الخاص.

الأمل هو الشكل السويّ للهذيان.

حلمت حلماً عجيبًا أفضّل عدم التوقّف عنده. كان من شأن فلان أو فلان أن يحلله. ياله من خطأ! لندع الليالي تدفن الليالي.

كل مشروع هو شكل مموَّه للعبوديّة.
*
أنا الآن وحدي. ماذا عساي أتمنّى أفضل؟ لا وجود لسعادة أكثر كثافة. بلى، سعادة أن أنصت، من شدة الصمت، إلى وحدتي وهي تنمو.

مع أن الخجل مصدر لا ينضب للآلام في الحياة العملية، فهو السبب المباشر، وربما الوحيد، لكلّ غنًى داخليّ.

الموت هو أمتن ما ابتكرته الحياة حتى الآن.

مثل صيني: ” عندما ينبح كلب واحد لرؤية شبح، يتولى عشرة آلاف كلب مهمة تحويل ذلك الشبح إلى حقيقة.”

■ من كتاب “اعترافات ولعنات”

إن تطبيق المعاملة ذاتها على الشاعر وعلى المفكر تبدو لي خطأ في الذوق.ثمة مجالات لا ينبغي أن يقترب منها الفلاسفة. تفكيك القصيدة كما تفكك منظومة (فلسفية) هو جريمة، بل عمل تدنيسي وانتهاك حرمات.
أمر مثير للفضول: الشعراء يبتهجون عندما لا يفهمون ما يكتب عنهم. ذلك أن الرطانة تغريهم وتوهمهم بتحقيق تقدُّم. هذا الضعف يجعلهم دون مستوى نقادهم وشارحيهم.

أفضل طريقة للتخلص من العدو هي أن تمدحه أينما حللت. سوف ينقلون إليه ذلك فلا تبقى لديه قوة لإزعاجك: لقد حطَّمتَ قوته… وسوف يواصل حملته ضدك دائما، لكن من دون صرامة وبأس، إذ يكون قد كف لا شعوريا عن كرهك. لقد هُزم وهو يجهل هزيمته.

أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها!

لا يسكن المرء بلادا، بل يسكن لغة. ذلك هو الوطن ولا شيء غيره.

من يعِشِ الخلود يفوِّتْ… سيرته الذاتية. وفي خاتمة المطاف لا تكون ناجزه أو مكتملة إلا المصائر المحطمة.

الحلم، بإلغائه للزمن، يلغي الموت. والموتى يستغلون ذلك كي يزعجونا. البارحة رأيت أبي. كان كما عرفته دائما. ومع ذلك ترددت قليلا. وإذا لم يكن هو؟ تعانقنا على الطريقة الرومانية، لكن كما هي الحال معه دائما؛ من دون دفق حنان،من دون حرارة، من دون إظهار مشاعر الفرح مثلما هو متبع لدى شعب منفتح. وبسبب تلك القبلة المتحفظة، الثلجية، تيقنت أنه هو، فعلا. استيقظت وأنا أقول لنفسي إن المرء لا يبعث من الموت إلا دخيلا، منغِّصا، وإن ذلك الخلود المزعج هو الوحيد الموجود.

النقد تفسير خاطئ ومعكوس: ينبغي أن تتم القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر.

كل رغبة تبعث في داخلي رغبة مضادة، بحيث، مهما فعلت، لا أجد قيمة إلا لما لم أفعل.

“سوف تحل نهاية الإنسانية عندما يصير الجميع مثلي” هكذا قلت ذات يوم، في سَوْرَةٍ لست مؤهَّلاً لوصفها.

ما أشدَّ ما كان البشر يتبادلون الكراهية في الظلمة وعفونة الكهوف! هذا ما يجعلنا نفهم لماذا لم يرغب الرسامون الذين كانوا يتعيَّشون داخل تلك الكهوف،في تخليد وجوه مَنْ يشبهونهم وفضلوا عليهم وجوه الحيوانات.

كثيرا ما ينبجس الجوهري إثر حديث طويل. الحقائق الكبرى تقال على العتبات.

الرسالة الجديرة بهذا الاسم تكتب تحت وطأة الإعجاب أو الاستنكار، أي المبالغة في كلتا الحالتين. لهذا نفهم لماذا تكون الرسالة الجدِّية رسالة ميتة في المهد.

تغيير الكاتب لغتَه يعادل كتابةَ رسالةِ حبّ بوساطة قاموس.

ليس غير الموسيقى لربط صلة لا تنفصم بين كائنين. أيُّ هوًى هو هوًى فانٍ. إنه ينحط، شأنه شأن كل ماله صلة بالحياة، في حين أن الموسيقى ذات جوهر أسمى من الحياة، وبالتالي أسمى من الموت.

من الملاحظ أن الرطانة الفلسفية، وهذا عين الصواب، سريعة الانتشار، شأنها شأن اللهجة العامية. والسبب؟ الأولى مفرطة في تكلفها، والثانية مفرطة في حيويتها، إفراطان مدمِّران.

الانتعاظ أو هزَّة الجماع،ذروة؛ اليأس أيضا. أحدهما يدوم لحظة؛ والثاني يدوم حياة.

حقيقة أن الحياة ليس لها معنى، هو مبرر للعيش، وهو الوحيد على أية حال.

في بحثها عن صيغة قابلة لإرضاء الجميع، ركزت الطبيعة اختيارها على الموت. والموت، كما كان متوقَّعًا، لم يكن ليُرضي أحدا.

يعيش أيامه الأخيرة، منذ شهور، منذ أعوام، ويتحدث عن نهايته بصيغة الماضي، عن وجود يلي الممات. استغربت كيف أنه لا يأكل شيئا تقريبا ويتوصل إلى البقاء: “جسدي وروحي استغرقا الكثير من الزمن والضراوة من أجل الالتحام، إلى درجة أنهما لا يتوصلان الآن إلى الانفصال.”
وإذا لم يكن له صوت تشوبه نوبة احتضار فإن مرد ذلك إلى كونه لم يعد على قيد الحياة منذ زمن طويل.” أنا شمعة مطفأة.” هذه أصح عبارة قالها بخصوص تحَوُّله الأخير. وعندما حدثته عن احتمال حدوث معجزة،كان جوابه: “يتطلب الأمر الكثير من المعجزات.”

كان علينا ألا نتكلم إلا عن الأحاسيس والرؤى: وليس عن الأفكار أبدا، لأنها لا تنبثق من دواخلنا ولا تكون ملكنا حقا، أبدا.

مدمِّر ومكتسِح بالسأم، هذا الإعصار على البطيء…
*
توجد كآبتان؛ الأولى يعالجها الدواء، والثانية تلازمنا: إنها الأنا في مواجهة ذاتها إلى الأبد.

في التخلص من الحياة حرمان من سعادة السخرية منها. هذا هو الرد الوحيد على من يخبرك بأنه يرغب في التخلص منها.

المادح: كثيرا ما يكون عدوًّا مستقبليا.

أجدى طريقة لاكتساب أصدقاء أوفياء أن تهنئهم على فشلهم.

المبالغة في الحديث عن الجنس تفسده. الذروة الجنسية لم تكن حدثا فلسفيا قط.

ما من عائق أمام الخلاص أكبر من الحاجة إلى الفشل.

الإشراق إطلالة أخيرة على الوهم.

عندما نموت نصير سادة العالم.

التدفق الخالص للزمن، الزمن العاري والمختزل في جوهر متدفق بلا انقطاع للَّحظات، ندركه في الأرق. كل شيء يختفي. ويتسرب الصمت إلى كل مكان. ننصت فلا نسمع شيئا.تكف الحواس عن التوجه نحو الخارج. نحو أي خارج ؟ إنه انغمار لا يبقى فيه إلا هذا التدفق الخالص من خلالنا، وهو نحن أيضا، ولن ينتهي إلا مع النوم أو طلوع النهار.

إذا كنت أفضل النساء على الرجال فلأنهن يتميزن عن الرجال باختلالٍ أشد في التوازن، وبالتالي، بتعقيدٍ أكثر،وتوقدِ ذهنٍ وصلافة، من دون نسيان ذلك السمو الغامض الذي تمنحهن إياه عبودية القرون.

إن الندم، كهجرة في الاتجاه المعاكس، إذْ يمتِّعنا باستعادة حياتنا، يوهمنا بأننا عشنا الكثير من
الحيوات.

يقاس عمق أي هوى بالمشاعر الدنيئة التي تسكنه والتي تضمن كثافته وديمومته.

لا توجد الموسيقى إلا بمقدار زمن الاستماع،مثل الإله لا يوجد إلا بمقدار ديمومة الوجد.

الفن السامي والكائن السامي يشتركان في كونهما يتوقفان علينا كليا.

الكآبة تتغذى من ذاتها، ولهذا لا تعرف كيف تتجدد.

كلما تألمنا أكثر طالبنا بالأقل. الاحتجاج علامة على أن الإنسان لم يجتز أي جحيم.

موقعنا في مكان ما،بين الوجود والعدم، أي ما بين وهمين.

“عندما هفا طائر النوم إلى بناء عشه في حدقتي، رأى الأهداب فارتعب من الشبكة” من الذي استطاع، أفضل من ابن الحمراء، هذا الشاعر العربي الأندلسي، أن يسبر ما لا يُسبر من أعماق الأرق؟

رفعتُ جبال الهِمَالايا طيلة الليل – كيف أسمِّي ذلك نوما؟

بعد كلام كثير لمدة ساعات ها أنذا يغزوني الفراغ، الفراغ والخزي. أليس من البذاءة أن يكشف المرء أسراره ويعري كيانه، أن يحكي ويستمع إلى من يحكي، في حين أن أكثر لحظات حياته امتلاء قد عرفها خلال الصمت، خلال الإدراك الحسي للصمت؟

أنت الآن هادئ، لقد نسيت عدوك. أما هو فيسهر ويترقب. ومع ذلك عليك أن تكون مستعدا عندما يهجم. سوف تنتصر عليه لأن الضعف تمكن منه بسبب ذلك الهدر الهائل للطاقة، أي الحقد.

ما لا يهمنا هو الذي لم ننجزه، ما لم نستطع إنجازه، بحيث لا يتبقى لنا من حياتنا إلا ما لم تكنه.

لا جدوى من تخليك عن هذا المعتقد الديني أو ذاك المعتقد السياسي، سوف تحافظ على التصلب والتعصب اللذين دفعا بك إلى تبنِّيه، سوف تظل حانقا دوما، لكنّ غضبك سوف يكون موجها ضد المعتقد المتروك؛ أما التعصب فإنه يظل ملتحما بجوهرك، وسوف يبقى، بصرف النظر عن القناعات التي تستطيع الدفاع عنها أو رفضها. العمق هو عمقك، جوهرك، سوف يبقى هو ذاته، ولن تستطيع تحويره بمجرد تغيير آرائك.

“ورأى الرب أن النور حسن”
هذا أيضا هو رأي الفانين، ماعدا الأرِقين. فالضوء عندهم اعتداء، جحيم أقسى من جحيم الليل.

لا شيء أشد ازعاجا لاستمرارية التأمل من الشعور بالحضور الملحّ للدماغ. ربما هنا، يكمن السبب في أن المجانين لا يفكرون إلا من خلال بروق (ومضات).

منذ القِدم ونحن نموت. ومع ذلك لم يفقد الموت شيئا من نضارته. هنا يكمن سر الأسرار.

أن تقرأ يعني أنك تترك آخرَ يجهد من أجلك. إنه الشكل الأكثر لطفا في درجات الاستغلال.

ما أن أخرج من “أنا” حتى أنام.

لكي تبني المحارة قوقعتها عليها أن تمرِّرَ في جسمها ما يعادل وزنها خمسين ألف مرة من مياه البحر.
…إلى أين ذهبت أبحث عن دروس في الصبر!

أن نكون أو لا نكون.
…لا هذا ولا ذاك.

حذار من المفكرين الذين لا تعمل عقولهم إلا انطلاقا من الاقتباس.

إذا كانت الروابط بين البشر على هذه الدرجة من الصعوبة فلأنهم خلقوا للعراك وليس لإقامة “روابط “.

الارتياب يتسلل إلى كل شيء، لكن مع استثناء مهم: لا وجود لموسيقى ارتيابية.

آخر شاعر مهم في روما، جوفنال، وآخر كاتب لامع في اليونان، لوسيان، كلاهما تعامل مع السخرية التي انتهى إليها أدبهما، كما ينبغي لكل شيء، سواء أكان أدبا أم لا، أن ينتهي.

يا للحظّ الذي يتمتع به الروائي أو المؤلف المسرحي في التعبير متنكرا، وفي التخلص من صراعاته، وأكثر من ذلك، في التخلص من كل أولئك الشخوص الذين يتعاركون داخله! الأمر مختلف بالنسبة للباحث فهو محصور في جنس جاحد لا يسقط فيه تعارضاته الخاصة إلا عبر مناقضة نفسه في كل مرة. في الحكمة تحرر أوسع – انتصار للأنا المجزَّأة…

آراء، نعم؛ قناعات، لا. هذه هي نقطة البدء للافتخار الفكري.

لا شيء يعادل الظهور المفاجئ “للصرصور” لحظة الاستيقاظ .إنه يعيدك إلى الوراء مليارات السنين حتى العلامات الأولى، حتى أمارات الوجود،أي في الواقع، حتى المبدأ ذاته للصرصور.

كل ما نستطيع تصنيفه قابل للتلف. لا يدوم إلا ما هو قابل لتعدد التآويل.

في أوج الليالي،لا أحد غير مجتمع الدقائق. كل دقيقة تتظاهر بمرافقتنا ثم تهرب – فرار يليه فرار.

كلما تقدمنا في السن أدركنا أننا نتوهم أنفسنا متحررين من كل شيء وأننا في الواقع لسنا متحررين من أي شيء.

الأوراق الأخيرة تسقط متراقصة.لا بد من جرعة كبيرة من فقدان الحس كي نواجه الخريف.

ما أعرف يقوِّض ما أريد.

يأتي وقت لا يقلد المرء فيه إلا نفسه.

في لغة أخرى مستعارة (غير اللغة الأم) نكون واعين بالكلمات. فهي لا تكون موجودة فيك بل خارجك. هذا البون بينك وبين وسيلتك للتعبير يفسر صعوبة، بل استحالة، أن يكون المرء شاعرا في غير لغته. كيف عساك تستخلص جوهر كلمات ليست متجذرة فيك؟ إن القادم الجديد يعيش على سطح الكلمة، ولا يمكنه، في لغة تعلمها متأخرا، أن يترجم ذلك الاحتضار الباطني الذي ينبجس منه الشعر.

” لماذا الشذرات؟ ” سألني ذلك الفيلسوف الشاب مؤاخذا. – “بسبب الكسل، بسبب النزق، بسبب القرف، لكنْ لأسباب أخرى أيضا…” – وبما أنني لم أجِدْ منها سببا واحدا، أطنبت في تفسيراتٍ بدَتْ له جادَّة وانتهت بإقناعه.

على أية حال، لم أُضِع وقتي، أنا أيضا تمرغت، كأي إنسان، في هذا الكون الزائغ.

■ من كتاب “دموع وقدِّيسون”

ليست المعرفة هي ما يقرّبنا من القديسين، بل يقظة الدموع التي تغفو في أعماق ذواتنا. عندئذ، ومن خلالها فقط، نبلغ المعرفة وندرك كيف يتمكن المرء من أن يصير قديساً بعد أن كان إنساناً.

هل أصير طاهراً بما فيه الكفاية ذات يوم لكي أنعكس في دموع القديسين؟

يوم الحساب لا تُوزَن إلا الدموع.

“لا أستطيع وضع اختلاف بين الدموع والموسيقى” (نيتشة)
من لا يستوعب هذا فوراً لم يعش في حميمية الموسيقى قط.كل موسيقى حقيقية تخرج من الدموع، لأنها ولدت من الندم على الفردوس.

رفْعُ كتلٍ هائلة من الصخور تحت جَلْد السياط مع رؤية تلك الصخور تدخل الأبدية، والشعور بالفراغ وهو يولد حول الأهرامات بسبب هروب الزمن! كان العبد الأخير أقرب إلى الأبدية من أي فيلسوف غربي! كان المصريون يعيشون في نشوة الشمس والموت. أما نحن فقد صارت الشمس بالنسبة إلينا لحداً مأتمياً! وقد استسلم العالم الحديث إلى إغراء الأشياء المنتهية.

وحدهما، الفردوس والبحر، يستطيعان إعفائي من اللجوء إلى الموسيقى.

كلما فكرت في الخوف المريع من الموت لدى تولتستوي، أبدأ بفهم استشعار النهاية لدى الأفيال.

حدُّ كلِّ ألم ألمٌ أكبر منه.

خروج آدم هو الحدث التاريخي الوحيد، في الجنة.

شكسبير ودوستويفسكي يديمان فيك الندم على كونك لم تكن قديساً أو مجرماً. وهاتان طريقتان للتدمير الذاتي.

نحمل في داخلنا الموسيقى كلها: إنها تثوي في أعمق طبقات الذكرى. كل ما هو موسيقيّ يُعتَبر ذا علاقة بالتذكر. لاشك أننا استمعنا، عندما كنا بلا أسماء، إلى كل شيء.

أن تؤمن بالفلسفة فهذا دليل عافية.أما ما ليس كذلك فهو أن تنكب على التفكير.

ربما سبق لي أن عشت حيوات أخرى. ولولا ذلك لما عانيت كل هذا الرعب. إن الوجودات السابقة هي المبرر الوحيد للرعب.وحدهم الشرقيون أدركوا شيئاً ما عن الروح. لقد سبقونا وسوف يدومون أكثر منا. لماذا تخلينا،نحن العصريين، عن ترحلنا ؟ إننا نكفِّر، في حياة واحدة، عن الصيرورة اللامتناهية.

الدموع محك الحقيقة في عالم المشاعر. الدموع وليس البكاء. ثمة تهيؤ للدموع يجد تعبيره في وابل جوَّاني.ويوجد مريدون في مادة الدموع لم يبكوا قط، فعلاً.

من دون الإله كل شيء ليل،ومعه حتى النور يصبح عديم الجدوى. التصوف اقتحام المطلق للتاريخ. إنه مثل الموسيقى، إكليل كل ثقافة،ومبررها الأخير.

ما عدا في لحظات الشعور بالحاجة إلى العزاء، لا يهتم الشعراء بالقديسين إلا في نطاق كون الأخيرين مثيرين للاهتمام.

البطل هو الذي يفكر في الموت أقل من كل الناس. ومع ذلك لا أحد يطمح إلى الموت، بطريقة لا واعية طبعاً،كما يطمح إليه البطل. هذه المفارقة تحدد وضعيته: شهوة الموت من دون الإحساس به.

أُنصت إلى الصمت ولا أستطيع خنق صوته: كل شيء قد انتهى. هذه الكلمات نفسها تصدرت بداية العالم، بما أن الصمت سبق تلك البداية…

السخرية تمرين يعري الضحالة في جدية الوجود. الأنا تُحوِّل العالم إلى عدم، ذلك أن السخرية لا تجلب الإحساس بالقوة إلا عندما يُلغَى كل شيء. منظور السخرية خدعة لهذيان العظمة.ولكي تتعزى الأنا من عدم وجودها تصير كلَّ شيء. تصيب السخرية كل ما هو جدي عندما تبلغ الرؤيا القاسية للاَّشيء. المأسوي هو الطور النهائي للسخرية.

الأطفال، تماماً مثل العشاق، يستشعرون حدود السعادة.

مهما كانت درجة ثقافتك، إذا لم تفكر في الموت بكثافة،فأنت إنسان بائس. إن أي عالم كبير-حتى وإن كان كذلك حقاً-هو أدنى بكثير من أمِّيٍّ مسكونٍ بالأسئلة النهائية. العلم بصورة عامة يبلِّد الأرواح عبر تقليص وعيها الميتافيزيقي.

عندما تذرع الشوارع يبدو لك العالم موجوداً كيفما كان. لكن ما إن تنظر عبر النافذة حتى يصير كل شيء لا واقعياً. ما الذي يجعل شفافيةَ زجاج نافذة قادرةً على فصلنا عن الحياة إلى هذه الدرجة؟ في الواقع تبعدنا النافذة عن العالم أكثر من جدار السجن. من طول رؤيتنا للحياة، ينتهي بنا الأمر إلى نسيانها.

كل مشهد، والطبيعة بوجه عام، هروب خارج الزمن.ومن هنا ينبع الإحساس بأنْ لاشيء قد وُجد، وذلك في كل مرة نستسلم فيها لحلم المادة الذي هو الطبيعة.

ثمة في الحياة ما يشبه هستيريا نهايةٍ لفصل الربيع.

لست تعسًا بما فيه الكفاية لكي أصير شاعرًا… ولست لامباليًا بما فيه الكفاية لكي أصير فيلسوفًا، لكنني أتحلى بصفاءٍ كافٍ لكي أُدان.
“أعيش بما يموت منه الآخرون”(مايكل أنجلو). لا يمكن أن نضيف شيئاً حول العزلة…

العالم مجرد ذريعة. نحتاج إلى التفكير بشيء ما-فاخترناه كمادة للتأمل. لذلك لن يفوِّت الفكر فرصة تدميره.

اعتبر الزهَّاد المسيحيون أن الصحراء وحدها بلا خطيئة، وقارنوها بالملائكة.بتعبير آخر، لا وجود للطهر إلا حيث لا ينمو شيء.

أحياناً أنكبّ على التفكير في نُسَّاك “طِيبَة” الذين كانوا يحفرون قبراً ليسكبوا فيه الدموع ليل نهار. وإذا سئلوا عن سبب أساهم أجابوا بأنهم يبكون أرواحهم.
في الصحراء الخالية، القبر واحة، مكان وسند.يحفرون ثقباً كي يمتلكوا نقطة ثابتة في الفضاء. ويموتون كي لا يتيهوا.

الفردوس يزمجر في قاع الوعي، بينما الذاكرة تنتحب. هكذا نفكر في الدلالة الميتافيزيقية للدموع كما نفكر في الحياة باعتبارها سياقاً للندم.

(*)ملحق:


إذا كان هناك مخفِق للمطلق، فهو أنا. أقول هذا بكل الافتخار المطلوب.

أسمع في أعماقي، حتى وإن لم أتوغل فيها إلا قليلاً، نداءات السديم قبل أن يتحول أو ينحط إلى كون…

أمتلك شجاعة سلبية، شجاعة موجهة ضدي. لقد وجهت حياتي خارج الوجهة التي وضعتْها لي. لقد أعقت مصيري.

أنا متقدم كثيراً على الموت.

أنا فيلسوف عوَّاء. أفكاري، إذا كانت هناك أفكار، تنبح؛ إنها لا تفسر شيئا، بل تنفجر.

بالأمس، في القطار الذي كان ينقلني من كومبياني إلى باريس، أمامي فتاة (19عاما؟) وشاب.
حاولتُ مقاومة اهتمامي بالفتاة وبجاذبيتها، ولكي أتوصل إلى ذلك، تخيلتها ميتة، في حالة جثة متحللة، وتخيلت عينيها، وجنتيها، أنفها، شفتيها، كل ما فيها، في حالة تحلل. لكن، من دون طائل. ظلت فتنتها تجذبني. تلك هي معجزة الحياة.

كل تناقضاتي تأتي مما يلي: لا أحد يستطيع أن يحب الحياة مثلي، وأنْ يُحس،في وقت واحد وبطريقة غير متقطعة تقريباً، إحساساً بعدم الانتماء وبالمنفى والتخلي. أنا مثل إنسان أكول يفقد شهية الأكل بسبب طول تفكيره في الجوع.

عجزي عن العيش لا يضاهيه إلا عجزي عن الكسب المادي. المال لا يناسبني. بلغت سن السابعة والأربعين من دون التوصل إلى الحصول على دخل مادي. لذلك لا أستطيع التفكير في ما له علاقة بالمال.

ناشر أمريكي، مرَّ بباريس، فكتب لي يطلب مقابلتي في “مكتبي”. مكتبي؟ هذا ما يصيبك بالغثيان إلى الأبد. أمام الهاتف، السيارة، أو أية آلة بسيطة، أشعر بالغثيان والهلع. كل ما أنتجتْه العبقرية التقنية يصيبني برعب مقدس تقريباً. إنه شعورٌ بعدم انتماء كامل إلى رموز العالم الحديث.

منذ خمسة وعشرين عاما وأنا أعيش في الفنادق. وهذا امتياز: ما من استقرار في أي مكان. وهكذا لا يتمسك المرء بشيء. ويعيش حياة عابر سبيل. إنه شعور دائم بالرحيل الموشك، إدراك لواقع انتقالي إلى أقصى حد.

أشعر أنني خارج كل شيء، خارج ما ندعوه كل شيء. يبدو أن هناك من سحرني. أنا مسحور. هناك من يمسك بي. لكن، من؟

إلهي، لِمَ لا أميل إلى الصلاة؟ لا أحد في العالم أقرب مني إليك ولا أبعد. قليل من اليقين وقليل من العزاء، هذا كل ما أطلب منك. لكنك لا تستطيع الإجابة، لا تستطيع.

منذ بضعة أيام…كنت أتهيأ للخروج، عندما رغبتُ في ترتيب منديل رقبتي، فنظرت في المرآة. فجأة، رعب لا يُسمَّى: مَنْ هذا الرجل؟ من المستحيل أن أتعرف على نفسي. وعبثاً تعرفت على معطفي، ومنديلي، وقبعتي، لم أعرف من أنا؛لأنني لم أكن أنا. دام ذلك ثلاثين ثانية تقريباً، ولما نجحت في العودة إلى ذاتي؛ لم ينته الرعب فوراً، لكنه تقهقر رويدًا رويداً. المحافظة على العقل امتياز يمكن أن يُسحب منا.

ماذا تفعل؟ أنتَظرُني.

لم يضع كل شيء، مادام المرء غير راضٍ عن نفسه.

حدث أن أشفقت حتى على قطعة معدن،على أي شيء، لأن كل ما يوجد يلوح لي مهجوراً، سيِّئَ الحظ،وقد أُسيءَ فهمه. حتى حجرُ الصوَّان ربما يتألم بدوره. كلُّ ما له شكل يتألم، كل ما هو منفصل عن السديم من أجل متابعة مصير منفصل. المادة وحيدة. كل موجود هو وحيد. ما من أحد، ما من إله يستطيع إنقاذ هذا العالم من هذه الوحدة العجوز!

يصيبني الذهول من كمية الوقت الذي أمضيته وأنا أتبرم من كل شيء، ومنّي شخصيًّا بالأساس. لكن، إذا كانت لي قيمة ما، فإن سببها هو ذلك الوقت الذي أهدرته، حسب البشر، وليس حسب الإله.

بالأمس، في حديقة النباتات، خرج أسد بحر من بركته، ومكث يتناعس تحت الشمس. سكنتني تلك الكتلة الشحمية، البليدة، المنهكة، ولم تكفَّ عن ملازمتي: لا يمكن إيجاد صورة أفضل من تلك، عن الضَّجر الأبله، الثخين، الأوَّلي…
(أسد البحر،ذلك الفاقد للإرادة، هو أنا. لهذا السبب يلاحقني ويسكنني.)

أزمة الضجر التي انتابتني في الخامسة من عمري(سنة 1916)، ذات ظهيرة لن أنساها، شكلت لديَّ أول يقظة حقيقية للوعي. إلى تلك الظهيرة تعود ولادتي كائنًا واعيًا. ومَنْ كنتُ قبل ذلك؟ كنت كائنًا لا أكثر ولا أقل. بدأتْ “أناي” بذلك الصَّدْع وتلك المكاشفة معًا،كعلامة على الطبيعة المزدوجة للضجر. فجأةً أحسستُ بحضور اللاشيء في دمي، في عظامي،في أنفاسي، وفي كل ما يُحيط بي، كنتُ مُفْرَغًا مثل الأشياء. لم يعُدْ من وجود للسماء أو للأرض، بل امتداد شاسع للزمن؛ الزمن الموميائي المحنَّط.

لولا الضجر لما كانت لي هوية. بفضله وبسببه وُهِبْتُ إمكانية التعرف على ذاتي… الضجر هو اللقاء مع الذات-من خلال إدراك بطلان الذات.

ضجري انفجاريّ. هذا ما أمتاز به على القلِقين الكبار الذين كانوا إجمالا مستسلمين وهادئين.

لا أستطيع أن اُبْديَ شغفًا في الاهتمام إلا بالإله وبكل ما هو في منتهى التفاهة. أما ما يندرج بينهما، أي الأمور الجادَّة، فهي تبدو لي غير محتمَلة وغير مجدية.

يا لها من عادة سيئة أن أفكر ضد أحدهم أو ضد شيء ما! هذه الحاجة إلى العراك بوسائل الدماغ؛ ألا تأتي من شراسةٍ غيرِ مُشْبَعة، أو حتى من جبنٍ في الحياة؟ من المؤكد أنني، عندما أُمسك بالقلم، أكتسب شجاعةً لا يمكنني التَّحلِّي بها أبدًا أمام العدوّ.

لو كانت لي شجاعة كافية، كل يوم، كي أصرخ ربع ساعة، لتمتعت بتوازن كامل.

محطة قطارات الشمال. فيها توجد ساعة حائطية تُشير إلى الدقائق: الساعة الآن، الرابعة و43 دقيقة-فكرتُ في أنّ هذه الدقيقة لن تعود أبدًا، وأنها تلاشت إلى الأبد،غاصت في الكتلة المحتومة التي لن تعود. كم تبدو لي نظرية العودة الأبدية تافهة وبلا أُسس! كل شيء يتلاشى إلى الأبد. ولن أعود إلى رؤية هذه اللحظة أبدًا. كل شيء هو متفرِّد وبلا أهمية.

هذا المساء، طيلة نزهتي المعتادة حول حديقة اللوكسمبورغ، لم أكفَّ عن ترديد بعض الأغاني الإسبانية، وكان ذلك بصوت عالٍ على ما يبدو، لأن الجميع كانوا يلتفتون. كنتُ أمرُّ بنوبة من تلك النوبات التي تتغلب فيها الإثارة على الانهيار. ولا شك أنَّ الذي يراني، من الخارج، يظنّ أنني مجنون، أو يتوقع أنني سعيد (لا في الأرض بل، الله أعلم أين!) وبمعنى من المعاني، كنتُ سعيدًا، فعلاً. ذلك أنني استطعت أن أستعيد في ذهني تلك الليلة كلها التي قضيتها في “تالامانكا” واستيقظت فجأة حوالي الثالثة أو الرابعة فجرًا كي أقصد الصخور الوعرة المشرفة على البحر- لإنهاء كل شيء. كنتُ أرتدي “البيجاما”، وعليها معطف مطريّ أسود اللون؛ مكثت بضع ساعات فوق تلك الصخور إلى أن جاء الضوء وطرد أفكاري السوداء. لكنْ، حتى قبل شروق الشمس، لاح لي جمال المنظر، ونباتات الدرب، وصخب الأمواج، وأخيرًا السماء، كل ذلك بدا لي على درجة من الجمال بحيث تخلَّيْتُ عن مشروعي، واعتبرته متسرِّعًا على أية حال. قلت في نفسي: إذا كان كل شيء لاواقعيًّا، فإن هذا المنظر لاواقعيّ أيضا. ثم أجبتُ نفسي: هذا ممكن، بل حقيقي؛ غير أن تلك اللاواقعية تروق لي، تغريني، تعزِّيني. الجمال ليس وهمًا كاملاً، إنه مطلع وهم، بداية واقع.

إلى السيد “س” الذي ما انفك يضرب نفسه بعنف لاعتقاده بأنه مسؤول عن انتحار زوجته –
أوضحتُ بأن الانتحار كامن فيها، وأنها لم تكن تنتظر سوى ذريعة حتى تقتل نفسها، وإذا كان له من ذنب فهو توفيره لتلك الذريعة. هذا كل ما في الأمر “كان الانتحار فيها، تماما كما كان تبكيت الضمير فيك” قلت له.

ما الندم،أو تبكيت الضمير؟ إنه الرغبة في أن يجد المرء نفسه مذنبا، في أن يلتذ بتمزيق نفسه، في أن يرى نفسه ويحسها أسود مما هي في الواقع.

فقد نابليون ثلاثين ألف جندي في معركة “فاغرام” من دون أن يشعر بأي ذنب. عانى من سوء المزاج فقط – لكن ما جدوى ملاحظة هذه الأمور؟ إن الشعور بالذنب لا يصيب إلا الذين ينقصهم الفعل، الذين لا يستطيعون الفعل، وهكذا فإن الندم عندهم يحل محل العمل.

عندما يكون المرء وحده، حتى وإن لم يفعل شيئا، لا يحس بأنه يبدد وقته. لكنه تقريبا، لا يبدده إلا إذا كان في رفقة.

لا شيء لديَّ حتى أقوله؟ لا يهم! هذا “اللاشيء” حقيقي وخصب، إذْ لا وجود لحوار عقيم مع الذات. هناك نتيجة دائما،حتى وإن تمثلت في أمل ملاقاة الذات، ذات يوم.

مَنْ أنتَ؟ أنا إنسان يزعجه كل شيء،أريد عدم الإزعاج،عدم الاهتمام بي.أجهد كي أجعل الآخرين لا يُعيرونني أيَّ انتباه. ومع ذلك…

ـــــــــــــــــــــ
(*) هذا الملحق يضم بدوره مختارات من كراس نشرته مجلة ” ماغازين ليتيرير ” المجلة الأدبية الفرنسية، في شهر أيلول-سبتمبر 1997 ؛ أي بعد موت المؤلف، وتضمَّن بعض الشذرات التي لم تنشر ضمن الأعمال الكاملة.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *