يميني متطرّف، ميزوجيني، سمج يفتقر إلى روح الدعابة؟ لماذا أسيء فهم نيتشه؟

ترجمة: هيثم مدوري| تونس

يميني متطرّف، ميزوجيني، سمج يفتقر إلى روح الدعابة؟

لماذا أسيء فهم نيتشه؟

رغم بغضه لمعاداة السّامية، أعتبر الفيلسوف الألماني يمينيّا متطرّفا، بالإضافة إلى الكثير من الإلتباسات الأخرى التّي ارتبطت به و بفلسفته وكتاباته حسب كاتب سيرته.

 يعتبر فريدريش نيتشه، كارل ماركس وتشارلز داروينثلاثي الفكر بامتياز في القرن 19، حيث لا يزال لصدى أفكارهم تأثيرا كبيرا إلى اليوم. عرف نيتشة بأنّه الثائر الأكبر على التقاليد والمحطّم الأعظم للرّموز الدّينية. ومن بين مقولاته الشّهيرة نذكر “موت الإله” و”ليس هناك حقائق مطلقة، بل هي مجرّد تأويلات“. رغم أهميّة مثل هذه الأفكار، إلّا أنّ ربطه بأفكار أخرى كالإنسان الأعلى، أخلاق السادة وأخلاق العبيد و إرادة القوّة، التي ربّما كانت أخطرها، ساهم في توسيع نطاق تحريف أقواله. توجد ثلاثة خرافات أساسيّة نسجت حول نيتشه وتحتاج إلى الدّحض واحدة تلو الأخرى: متطرّف سياسيّا إلى اليمين، كاره للنّساء أو ميزوجيني، سمج ويفتقر إلى روح الدّعابة.

لطالما كان سوء فهم أفكاره أمرا شائعا. حيث إدّعى ريتشارد سبانسر، أحد قادة أقصى اليمين الأمريكي، بأنّه نيتشه “قد فتح عينيه على الحقيقة  إذ كان مفعول أفكارهكمفعول الحبّة الحمراء”. كما اعتاد المنظّر جوردان بيترسون على اقتباس أقواله بشكل مكثّف. لكن قبل كلّ هؤلاء، ادّعى النّازيون التأثّر به. خلال نشأته في عهد رايخ بيسمارك، كان نيشته منذ البداية يبدي كرهه لثلاثة مفاهيم كبرى: دولة ألمانيا الكبرى، القوميّة ومعاداة السّاميّة. “ألمانيا، ألمانيا فوق كلّ شيء، هذه هي نهاية الفلسفة الألمانيّة”. هكذا كتب نيتشه.”سأطلق النّار على كلّ معاد للسّامية”.

كان لأخته إيليزابيث أفكارا متباينة معه فقد تزوّجت بمحرّض على معاداة الساميّة ممّا جعله يرفض حضور حفل زفافهما. سافر الزوجان إلى الباراغواي بهدف تأسيس مستعمرة “ألمانيا الجديدة” للآريين “أصحاب الدّماء النقيّة”. فقد نيتشه رشده فعادت اليزابيث سنة 1889 إلى ألمانيا وتولت الإعتناء بأخيها قبل أن تقوم بجمع كلّ مسودّاته وأوراقه ومن ثمة تأسيس مؤسّسة “أرشيف نيتشه”.

كانت إليزابيث بارعة في تزييف الحقائق وتوجيهها. عند موت أخيها في 1900، لم تكن تعتقد بأنّ صدى قناع موت أخيها مبهر بما فيه الكفاية، فاختلقت له قناعا ثانيا. واقترفت الأمر ذاته مع كتاباته، حيث تلاعبت وزيفت ميراثه الأدبي حذفا وتلفيقا وفق مشيئتها. كما نشرت سيرة مشكوك في أمرها من تأليفها حول أخيها وأجّلت نشر مذكّراته الخاصّة، هو ذا الإنسان، حتّى تأكّدت من محو كل هجاء لنفسها فيها. 

كان نيتشه متقشفا في ما ينشر، وكان يحبّذ كذلك العبث بعناوين كتبه  . لقد كتب عناوينا أكثر من الكتب التي ألفها.ومن بين العناوين الّتي تخلّص منها كان عنوان “إرادة القوّة”. وعلى الصفحة المخصّصة لمسودّة العنوان، خربش مكان العبارة “قائمة تبضّع”. بيد أنّ إليزابيث قامت بتجميعمقتطفات متفرّقة من هنا وهناك ولفّقت كتابا أسمته “إرادة القوّة” ونشرته باسم أخيها إثر وفاته. حقق المؤلّف نجاحاكاسحا حتّى أنّها قامت بنشر طبعة ثانية أكثر اسهابا بعد عدّة سنوات.

عاشت إليزابيث حتّى العام 1935. وهو ما منحها أكثر من 40 عام بعد وفاة أخيها لتعبث بكتاباته ومراسلاته وتشوّه إرثه الأدبي. أصبح أرشيف نيتشه إثر ذلك مؤسّسة مليئة بمتطرّفي اليمين الّذين تتناسب توجّهاتهم القوميّة العنيفة مع هواها (هوى إليزابيث). من بينهم كان هناك أوسوالد سبينغلر وألفريد باوملر الّذين أشرفا على عمليّة حرق الكتب الشّهيرة في برلين وأشرفا على طباعة ما بدى لهم من نصوص نيتشه وخاصة كتاب “السّعي إلى القوّة” حيث بدا مرّة أخرى وكأنّه فعلا من تأليف نيتشه نفسه. إلتحق باوملر بأرشيف نيتشه بصفته محرّرا عبر توصية من مارتن هايدغر. اتّفق كليهما على رأي غريب يتمثّل في أن أعمال نيتشه المنشورة أقلّ قيمة بما أن فلسفته الحقيقيّة تكمن في “الناخلاس” – أي ما يتركه الكاتب وراءه من مخطوطات ورسائل باللغة الألمانيّة – الذي عبثت به إيليزابيث بما يخدم مآربها الخاصّة.  الإثنان شهرة نيتشه وميراثه الغنيّ وغير المنشور والّذي وجّهت إليزابيث محتواه لصالحها. وهذا ما جعلهما يستمرّون في تركيب شذرات متفرّقة ليقوّلوا نيتشه أفكارهم.

في العام 1932، أقنعت إليزابيث إدارة متحف فايمر الوطني بعرض مسرحيّة من تأليف موسيليني فقد كانت من أشدّ المعجبين به. كان هتلر من بين الحاضرين في العرض وأهداها لها باقة هائلة من الأزهار. بعد ذلك بسنة واحدة، أصبح هتلر مستشار ألمانيا وأدّى زيارة إلى مؤسّسة أرشيف نيتشه حاملا سوطه الشّرفيّ. ظلّ هناك لأكثر من ساعة ونصف. اختفى سوطه عندما غادر المؤسّسة وظهر مكانه عكّاز نيتشه التي أهدتها إياه إليزابيث.

 يجوز للّرجل الأكثر لينا وعقلانيّة، إن كان له شارب عريض، أن يجلس تحت ظلّه شاعرا بالأمان..”

كان هتلر مفتونا بالفكرة القائلة بأنّه قائد فيلسوف ورغم ذلك فإن إثبات دراسته لفلسفة نيتشه يعتبر أمرا مستحيلا، أما الرّأي الأكثر رواجا هو أنّه لم يفعل ذلك قطّ. الكتب الناجية من مكتبته في السجّن سنة 1924، أين كتب كتابه كفاحي، لم يكن من بينها أي من أعمال نيتشه. من المرجّح أنّه امتلك بعضها بين مجموعة كتبه في وقت ما ثم ضاعت لاحقا. أمّا مكتبته الخاصّة فلم تكن تحتوي على كتب بدا على صفحاتها أثر القراءات المتكرّرة.  أطلق على الفيلم ذائع الصّيت حول تظاهرة نورمبارغ لسنة 1934  عنوانا نيتشويا وهو “انتصار الإرادة”. لكن عندما سأل المخرج، ليني ريفنشتال، هتلر إن كان من محبّي القراءة لنيتشه، أجاب: “كلاّ، لا أفضّل أعمال نيتشه كثيرا…هو ليس بملهمي”. 

تحتوي كتب  نيتشه على عدّة أفكار مركّبة لا ترتبط به شخصيّا. لكن بعض العبارات الرنّانة “كالوحش الأشقر”، أو الإنسان الأعلى (لا تنطوي على أيّ دلالات عنصريّة)، أدّت إلى مغالطات لا تنتهي حول أفكاره “بغض النظر عن ثنائية الخير والشّر”. حتّى مسؤولو الدّعاية النّازيّة ومحرّرو الشعارات استعملوا عدّة كلمات ومعان لنيتشه إذ تفطّن بعضهم إلى العبث الذي يكتنفها. قدّم المنظّر النّازي إرنست كريك ملاحظة بشكل ساخر إزاء مفارقة أنّ نيتشه لم يكن إشتراكيّا، ولا قوميّا، بل ومعارضا للتفكير العنصري، لكنّه كان من روّاد الفكر الوطنيّ الاشتراكي.

علاوة على ما سبق، يوصف نيتشه كونه كارها للنّساء، ميزوجينيّا. ولد نيتشه في سنة 1844، و ارتاد مدرسة من أفضل المدارس في أوروبا، بينما التحقت أخته إليزابيث بمؤسسة السيّدة باراسكي لكي تتعلّم كيفيّة الحصول على زوج وكيف تكون ربّة بيت. تعلّمت أيضا شيئا من الفرنسيّة لأنً معرفتها علامة رقيّ، ولم يكن الهدف من تعلّمها  للتحدّث بها (لا سمح الله). لكنّ نيتشه عاملها دوما بشكل مكافئ. وكان يمدّها بقائمات مطالعة ويحثّها على التفكير المستقلّ وتوسيع معرفتها من خلال متابعة المحاضرات. 

عندما كان أستاذا لفقه اللّغة بجامعة بازل سنة 1874، كان نيتشه من بين أربعة فقط صوّتوا لصالح قبول النّساء للدّراسة بالجامعة. لكنّهم خسروا التّصويت ضد أغلبيّة رفضت ذلك. في العام 1876، سافر إلى إيطاليا للإنضمام إلى المناضلة النّسويّة مالويدا فون مايسنباغ التي ناضلت من أجل تحرير المرأة. كانت مايسنباغ قد نفيت من ألمانيا، عقابا لتهريبها رسائل خلال ثورة 1848، إلى شمال لندن حيث استقرّت مه بقيّة المنفيين السيّاسيين وإشتغلت كمدرّسة. كانت لمالويدا ذائعة الصّيت إلى درجة أن غاريبلدي دعاها لتناول الإفطار والتحدّث عن السّياسة على يخته أثناء إبحاره في نهر التايمز بإنجلترا. فتنت مالويدا بسحر غاريبلدي، الّذي يشبه قراصنة الكارييب، الّذي رفعها على كرسيّ منجّد حتّى تتمكّن من الصّعود مرتاحة إلى متن قاربه  للحديث وهما يتناولون الإفطار.

حاول نيتشه وماييسنباغ تأسيس مدرسة للعقول الحرّة في كهوف مدينة سورنتو. كانت مدارس الحقوق الحرّة تشمل النّساء ولا تحدّ من وصولهنّ إلى دراسة الثقافة والفلسفة والجماليات والشك الديّني  والحريّة الجنسيّة. لم تر المدرسة النّور لكن صداقة نيتشه لمايسنباغ وسّعت دائرة معارفه النّسويّة لتشمل المناضلة الحقوقيّة النّسويّة ميتا فون سالس-مارشلينز وريزا فون شرينهوفر المناضلة من أجل حق المرأة في التّصويت.

بحلول العام 1880، سمح للنسّاء بحضور المحاضرات في الجامعات كمستمعات فقط. شجّع نيتشه أخته وصديقاته على التّسجيل. في العام 1887، كانت سالس-مارشلينز أوّل إمرأة تتحصّل على شهادة الدكتوراه من جامعة سويسريّة ثمّ نسجت شرينهوفر على منوالها وحصلت هي الأخرى على الدكتوراه في الفلسفة.

.” في كتاب العلم المرح، كتب كم هو مريع أن تلقّن شابة صغيرة أن الجنس عمل آثم ومشين.”

سنة 1882، وقع نيتشه بعنف في غرام لو سالومي، التّي ستسحر لاحقا أيضا ريلكه وفرويد. في هذه الفترة، كتب نيتشه حول المعضلة النفسيّة للنساء. في كتاب العلم المرح، كتب قائلا:  “كم هو مريع أن تلقّن شابة صغيرة أن الجنس عمل آثم ومشين، لكي تقذف قذفا إلى الزواج ويدفعها رجل نشأ ليتصرّف كإله إلى واجب المعاشرة الجنسية. كيف ينتظر منهما التعوّد على بعضهما البعض؟ يقول “هكذا تتشكّل عقدة نفسيّة لا مثيل لها أبدا”.

لم أكن أعلم أنّ نيتشه قد كان مرحا إلى أن قرأت رسائله. “الرجّل الأكثر لينا وعقلانية، إن كان له شنب عريض، أن يجلس وكأنّه تحت ظلّه شاعرا بالأمان.” كتب أيضا يسخر من نفسه: “كما أنّ الشنب الكثيف يوحي بكونه عسكريّا وسريع الغضب وعنيفا أحيانا – ولهذا يعامله النّاس على ذاك الأساس”

نظرا لتدهور صحّته ولسوء رؤيته، اضطرّ نيتشه إلى اختصار كتاباته الفلسفيّة إلى شذرات في شكل حكم. كان نيتشه يجيد فنّ اللّعب بفقاقيع الضّحك وفقعها وأنت تبحث عن المعنى من ورائها كقوله: “هل الإنسان غلطة الرّب أم أن الرّب غلطة إنسان؟” أو “لا يجاهد الإنسان لنيل السّعادة، فقط الإنجليز يفعلون ذلك.” التي  قالها مشاكسا جيريمي بينتهام و جون ستيوارت ميل. ومن أقواله المرحة أيضا “عادة ما يقلّل حبّ التملّك مما تملك” و “لا تصدّق فكرة تأتيك من الدّاخل”. كما يسخر أيضا من قرّائه : “أسوء القرّاء هم أولئك  الذين يتصرّفون كالقطيع المسلوب الإرادة، يأخذون بضعة أفكار يمكنهم استخدامها، ليلوّثوا ويخلطوا البقيّة ثمّ يخلطونها قبل أن يشتموا الكلّ”

يعتبر نتيشه فيلسوفا إستثنائيّا إذ لا يملي علينا ما نفكّر. فلا شيء يضاهي النيتشويّة. لقد حوصل ذلك في إحدى شذراته: “تجازي المعلّم شرّ جزاء بأن تقنع بكونك تلميذا تابعا إلى الأبد”. بلغة أخرى إقرأ لي لكن فكّر أكثر.

أما بشأن الخرافات التّي تشكّلت حول شخصه، فستكون الكلمة الأخيرة في هذا المقال  للرجل ذاته. لقد كتب “أنا خائف من فكرة أن يستغلّ أشخاص غير مخوّلون وعديمو الكفاءة نصوصي لغايات لئيمة”.. هذا هو خوف كلّ معلّم … هو يعلم جيّدا، بحكم الحوادث والظّروف، بأنّه يمكن أن يتحوّل إلى كارثة أو نعمة للبشر”

••• ••• •••

(*)(Ullstein Bild) أولشتاين بيلد هو صاحب الصورة

(*)ترجم هذا النّص من الإنجليزيّة عن سيو بريدو Sue Prideaux، من جريدة الغارديان.

رابط اﻷصلي للمقال:

https://www.theguardian.com/books/2018/oct/06/exploding-nietzsche-myths-need-dynamiting

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *