مقطع من رواية (الجليد)، رواية اسكندنافية

ترجمة: سليمان زوڨاري، حصري لموقع "أنا الآخر"،"لازورد"

الجليد

لطالما شعرت بالوحدة أكثر كلّما كان الجوّ باردا. يذكّرني ذاك البرد الّذي ينبعث من الجانب الآخر من النّافذة بالقرّ الذّي ينداح من جسدي. ها أنا محاصر من الجهتين ولكنّي أقاوم الشّعور بالوحدة والبرد في آن. ولهذا، فإنّي أحفر حفرة في الثّلج كلّ صباح. إن كان هناك أحدهم يشاهد صنيعي من خلال منظاره المكبّر منتصبا على المياه المجمّدة، لابدّ من أنّه سيظنّ بأنّي فقدت صوابي. ربّما سيعتقد بأنّي أعدّه العدّة إلى موتي. رجل عار في البرد القارس منهمك في إحداث حفرة في الجليد حاملا فأسا بيديه.

ربّما كنت في عمق أعماقي أتمنّى أن يراني ظلّ أسود في ذاك الفضاء الأبيض الشّاسع يوما ما ويتساءل إن كان من الضّروريّ التّدخّل قبل فوات الأوان. على كلّ حال، إن كان الأمر يتعلّق بإنقاذ حياتي، فأظنّ أنّ ذاك لن يجدي نفعا إذ لم يكنّ لديّ أيّ مخطّط للانتحار.

لقد فكّرت في إنهاء حياتي في وقت مضى مباشرة إثر حلول الكارثة بيد أنّي لم أجرأ على المحاولة. لقد كان الجبن رفيقا وفيّا لي طوال حياتي. الآن كما في الماضي، أعتقد بأنّ التحدّي الأوحد للبقاء على قيد الحياة هو ألا نستسلم فالحياة ماهي إلاّ غصن وهن ممتدّ على جرف سحيق. سأتمسّك به ما دمت قادرا على ذلك قبل أن أسقط مثل الآخرين جاهلا ما ينتظرني. هل سيكون هناك أحدهم ليستقبلني في القاع؟ أم لن يكون هناك إلا ظلام متجمّد وقاس ينتظر لقائي على أحرّ من الجمر؟
أخذ الجليد يستقرّ شيئا فشيئا.
الشّتاء قاس في هذه السّنة التي تعلن عن بدايات الألفيّة الجديدة. اعتقدت بأنّي سمعت الجليد يغمغم أغنية عندما استيقظت هذا الصّباح في عتمة ديسمبر. لا أعلم من أين أتيت بفكرة أنّ الجليد يغنّي، ربّما أورثنيها جدّي الذي رأى النّور على هذه الجزيرة، يحتمل أنّها قصّة من قصصه التي كان يسردها عليّ عندما كنت طفلا. لم تكن القطّة ولا الكلب مصدر الجلبة التي أيقظتني فحيواني المنزل خاصّتي يغطّان في نوم عميق لا يمكنني بلوغه. قطّتي مسنّة وتشكو من آلام عضليّة بينما تعاني كلبتي من صمم تامّ في أذنها اليمنى وتسمع بصعوبة بأذنها اليسرى إذ يمكنني أن أمرّ بجانبها دون أن تتفطّن إليّ.
إذا ما هذا الضّجيج يا ترى؟
شنّفت أذنيّ في السّواد. نظرا إلى المكان الذي صدر عنه الصّوت، على الأرجح أنّها حركة الجليد، رغم أنّه سمكه، هنا في عمق الخليج، يصل إلى عشرة سنتمترات على الأقلّ. في يوم من أيام الأسبوع المنقضي، كنت قلقا أكثر من العادة فذهبت مشيا إلى حيث يلتقي الجليد بالبحر. كان الجليد وقتئذ يمتدّ على مسافة تتجاوز الكيلومتر وراء آخر الجزر الصغيرة، ولكنّه هذا الصّباح قد تحرّك مرتفعا منخفضا تارة، مطلقا طقطقة هاتفا بالنّشيد تارة أخرى.
فكّرت بأنّ الحياة مرّت سريعا وأنا أنصت إلى تلك الجلبة. أنا هنا الآن وذكرى تثقل كاهلي على الدّوام. لقد نشأت في فقر مدقع يستحيل تخيّله في أيامنا هذه في هذا البلد. كان أبي نادلا في أحد المطاعم، نادلا ذليلا وبدينا. لطالما جاهدت أمّي في اقتصاد النّقود التي نعتاش منها. لقد اقتلعت نفسي اقتلاعا من غياهب ذاك الجبّ. كنت أمضي وقتي في اللّعب في هذا المكان ذاته عندما كنت طفلا على جزيرة جدّي وجدّتي غير آبه بهذا الزّمن الآخذ في الانكماش بلا هوادة. كانا شخصان يتّقدان نشاطا حوّلته الشّيخوخة إلى انتظار يلفّه السّكون. كانت تفوح من جدًي رائحة السّمك فيما كانت جدّتي بلا أسنان. هي لطيفة دائما رغم ابتسامتها المخيفة التي تتفتّح للناظر مثل ثقب أسود.
كنت في المشهد الأوّل قبل برهة من الزّمن، وها قد بدأت النّهاية.
كان الجليد يغنّي في الظّلام فيما كنت أتساءل إن كنت سأصاب بذبحة قلبية. نهضت من السّرير وفحصت ضغط الدّم لديّ. كان كلّ شيء على ما يرام: 15/09، معدّل نبض منتظم، أربع وستّون دقّة في الدّقيقة. لم أكن أشعر بالألم في أيّ عضو من أعضائي عدى تشنّج في ساقي اليسرى اعتدت عليه ولم يعد يسبّب لي أيّ ازعاج على عكس الجليد الذي كان يقضّ مضجعي في الظّلام هناك وكأنه كورال من الأصوات المبهمة. نزلت إلى المطبخ وجلست إلى الطاولة منتظرا بزوغ الفجر. كانت الجدران تحدث طقطقة بسبب البرد الشّديد أو ربما هي خطوات فأر يركض في أحد الممرّات السّرية.
يشير المحرار الخارجي إلى حرارة تبلغ تسع عشرة درجة مئوية تحت الصّفر.
سأفعل اليوم ما أفعله كلّ يوم من أيّام الشّتاء. سأرتدي كالعادة روب الاستحمام وجزمة مهترئة ثم أحمل الفأس وأنزل إلى حدود الجسر الخشبي العائم. أحتاج لقليل من الوقت كي أحفر حفرتي بما أنه لم يكن للجليد الوقت الكافي ليتراكم من جديد في الموقع ذاته. إثر ذلك، سأتعرّى وأنغمس فيها. إنّه لأمر مؤلم ولكنّني ما إن أخرج منها حتّى يستحيل البرد المتجمّد حرّا شديدا.
أغوص في حفرتي السّوداء حتى أشعر بأنّي لازلت على قيد الحياة. إثر كلّ حمّام بارد، يتبدّى لي وكأنّ منسوب الوحدة قد انحسر قليلا. ربّما أموت يوما جراء صدمة برد. لي موطأ قدم تحت الحفرة التي أغطس فيها مما يعني أنّي لن أختفي تحت الجليد. سأظلّ قائما في الحفرة المائية التي ستنكمش حولي سريعا. سيكتشف جونسون جثّتي. جونسون هو ذاك الرّجل الذي يوزّع البريد في هذه الأرجاء، على هذه الجزر.
لن يستوعب أبدا ما حدث حتى آخر يوم في حياته.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *