ضحك وسط الدموع

عبد الجليل الشافعي

                                              (وأنه هو أضحك وأبكى). سورة النجم.

في ليلة من ليالي غشت الحارقة، وقت الأصيل إذا ما أردنا الدقة، كان الناس قد تجمهروا حول الخيمة كما تتجمهر النجوم بالقمر. بعد أن وصلهم الخبر، انسلوا من فجاج القرية المختلفة، أغلبهم يرتدي جلابيب اختلطت ألوانها بأديم الأرض الشبيه ببشرتهم القمحية، تكوفوا كما لو كانوا كثيبة مشاة يتشاورون حول معركة تتعرش في الأفق نتائجها، وتونع برؤوسها المماثلة لرؤوس أغيالٍ خلقت من عجين الخيال وربت بخميرة حكايات الجدات. بعدها، أمرهم الإمام، بشاربه المقوس كلفِّة طريق شديدة الانعراج، أن ينطلقوا. استجابوا للأمر في حركة تكاد تكون آلية، ثم شرعوا يصدحون، في صوت وإيقاع واحد، حتى ليساورك الشك فيأنهم فرقة إنشاد مدربة:

لا إله إلا الله

محمد رسول

لا إله إلا الله

محمد حبيب الله.

* * * * * *

         تجاوزوا الحائط الطيني القصير المثلمة جوانبه كما لو كان خندقا يفصل بين دفتين،بين هدفين، أُقنع جنودهما بأن تحقيق السلام يمر – بداهة – عبر عبَّارة الدم المراق ولعلعة الرصاص كأنها زغاريد تبارك الرَّدى.وكانوا، كلما ابتعدوا، إلا وخفتت أصوات النساء الباكيات فتغدو أنَّاتهن قادمة من عالم برزخي التكوين لا يرى، النساء اللائي اكتفين بالبكاء والأنين القريب إلى مواء قطط يسكنها الدَّنفُ، بعد أن صككن وجوههن ونتفن شعر رؤوسهن وخططن خدودا نجلاءَ على تربة الخدود بأزاميل أظافرهن في طقوس بدائية متوحشة!.

 كانت أمي أكثر نساء العائلة إحساسا بالفجيعة، ومنه، فقد كان حزنها،

 أكبرُ،

أوسعُ،

أفجعُ.

تأرَّثت النار في فؤادها المكلوم، فلم تجد كيف تُكبيها غيرالتمرغ في التراب -مثل جدي ذبيح – الذي يصير لونه في عز الصيف أقرب إلى غمام الخريف الخلبيَّة، وتولول حتى يتبخر صوتها دون أن يتبخر البَوَى الذي استوطن القلب، ثم شرعت في لطم وجهها كأنها تتخفف من الألم، بمزيد من الألم!، وإذ احتدم وطيس الوجع في حلبة الحشا، أمسكت بقضيب الحديد المعلق في بهو الخيمةوشجت رأسها في صورة تخالها معها شيعية “تُطبِّر” في ساحة كربلاء في يوم عاشوريِّ المناحة. . ! ثم سقطت دفعة واحدة، كما تسقط خشبة على الأرض.

مشى الناس مشيا منظما فوضويا في ذات الآن، تسبقهم “الرمُوكا”[1] وهي تحمل الجثة، جثة الجدة. تجلد المشيعون حتى وصلوا إلى المقبرة البعيدة عن القرية على نحو غريب، ظلوا طوال الطريق يكبرون ويهللون، وحين وصلوا، أخيرا، المقبرة، حمل النعش ستة رجال أغلبهم من الجيران وأبناء الأسرة،وفي تلك اللحظة نبت بيت شعر قديم في حرث الذاكرة:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته     يوما ما على آلة حدباء محمول

* * * * * *

قبل الجميع وصل المعطي حفار القبور الذي يدهشك حرصه وإتقانه لعمله،الرجل الذي ظل يعارك أرض المقبرة لقرابة ثلاثين سنة، ويشق نفقا، السائر فيه لا يقدر على العودة أبدا . . وإذا ما هده التعب، آوى إلى شجرة الزيتون التي تتوسط المقبرة والتي لا يعرف أحد من زرعها، تعصمه من سياط لهيب شمس غضوب،وفي إتقان تُعلمه العادة والدربة، نظف جنبات القبر من الأشواك ونبات البسباس الذي يشكل آجاما تغطش القبور، وجعل الحفرة مستقيمة بزوايا متساوية، ثم نضد التراب الذي قدَّه من خرقة الأرض، حتى غدا شبيها بهضبة صغيرة، ثم أشار بيده المفلطحة المشققة إلى حملة النعش أن يلقمهوها إياه حتى يضعها في قاطرة الذهاب السرمدي تلك. إذ ذاك، تزاحم المشيعون كأنهم يرون عملية الدفن لأول مرة في حياتهم، وبالموازاة مع ذلك، كان الطلبة يقرؤون القرآن بأصواتهم الغليظة التي يعيث فيها النشاز كغيط بلا حارس أو حدود: (يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم).

* * * * * *

         أنزلت جدتي إلى الحفرة الطويلة في ضيق وضمور، دون أن تظهر منها أية مقاومة! وأهيل عليها التراب في سرعة، كما لو أنهمكانوا يخافون أن تخرج من كفنها محتجة وتقرعهم، أو أن تطير محلقة في فلواتِ السماء. وقتها، كان الطلبة قد كفوا عن تلاوة القرآن، وشرع الإمام في الدعاء لها والناس يرددون وراءه: (آمين) في إيقاع كأنما الكلمة تفعيلة بحر شعري:

  • اللهم ارحم الفقيدة واغفر لها.
  • آمين.
  • اللهم يسر حسابها.
  • آمين.
  • اللهم تبثها أثناء السؤال.
  • آمين.

استمر الإمام في الدعاء طويلا، والناس وراءه مرددين مثل أفراد كورال، كلمتهم الوحيدة، وإذ أراد أن يختم سيل الدعوات الهدار ذاك، قال:

  • اللهم أبدلها دارا خيرا من دارها وأهلا خيرا من أهلها، وزوجا خيرا من زوجها.

وقبل أن يردد الناس كلمتهم المسكوكة، زعق خالي– ولم يكن قد تحدث طول الطريق الفاصلة بين الخيمة والمقبرة –في وجه الفقيه غاضبا:

  • الله يهديك آسي الفقيه، آش كا تقول، وهذا ليمدفون حداها_مشيرا إلى قبر جدي_ معجبكش؟

ساعتها، حاول الناس كتم ضحكتهم، لكنها ما لبتت أن هزمت سد شفاههم، فسُمعت قهقهات ورسمت ابتسامات من وسط غابة الدموع . . .

25-12-2019

[1]– العربة التي يجرها الجرار.

قاص من المغرب

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *