الدرج والحفلة
للشاعر المغربيّ: نوفل بوشارب
الطريق التي أمشي عليها ليست طريقي
أنا ربما البداية أو النهاية،
قالتِ العشيرةُ :
“هذا هو الطريق، طريقك،
فتمشّى ..
هذا الوجه الذي تحمله الآن،
ستحمله للأبد
هذا الظلِّ الذي يمشي معك الآن،
سيمشي معك للأبد
هذا المطر الذي تسمعه الآن،
ستسمعه للأبد
إنعكاس ضوء القمر هذا الذي تراه الآن،
ستراه للأبد .. “
قلتُ :
أما أنا فأحياناً أمشي،
و أحياناً أهرب، أو أهرول،
و حين يضرب قلبي و أفتح عيني
تشكل الحياةُ لي صدمةً،
حفلةً دخلتها من بابٍ آخر،
متاهة مسكونة بالأشباح،
و معبراً بين جزيرتين.
أنا الباب و الشبح و المعبر،
أنا شخصانِ في جدالٍ دائم،
حضرتُ الحفل بروح السِّكير،
أرى الحياة مقلوبةً
كأنني أراها من قعر الكأس،
قلبي كقارورة ضائعة بالبحر
لا أعلم أي يدٍ ستسرقني.
مبحراً و مسافراً عشتُ،
و كلُّ ما رأيت هنا خيّب أملي
حفلةُ جنسٍ ضخمة
حضرتها بقضيبي الصغير.
قال العرّاف:
“الآلهة خزفيّةٌ و الشياطين من فولاذ،
كل الطرق هي طريقك يا بنيَّ،
عش إن الموت يحاصرك”
و غرقت في سهادي،
أعيدت كلماتُ العرّافِ في رأسي،
أتمنى إذا أعيدتِ الحياة،
أن تعادَ معكوسةً هذه المرة،
أبدأها شيخاً و أموت وليداً،
خرافة العوَدِ الأبديِّ تضجرني،
لأنني أحب تجريب حياةٍ أخرى.
كل شيء يتحدث لي،
صنعت إخوةً هنا،
الشراشف، النوافذ، المطر من خلف النوافذ،
الطاولات، الجدران، الناس داخل الجدران،
الوجوه البائسة، الورود، الأيدي، الكراسي،
الفئران المسرعة نحو حتفها،
و حين يعانقني بقوة كل شيءٍ حولي،
أرفع رأسي نحو السماء المستنيرةِ بنجومها
لأسألها بعتابٍ : لماذا؟
لماذا؟
لماذا لم يأتِ ساعي البريد؟
لماذا تطير الطيور؟
لماذا احتشد الفقراء في قلبي؟
يعييني كل شيءٍ فأنام،
هناك دوماً غذاً، حلمٌ آخرُ،
صفحةٌ أخرى،
و لكن أن تنام هو الموت،
أما أنا فأحب الحياة.
مدٌّ و جزر،
تلطم الذكريات عقلي بأسى كالموج،
أكثرَ من لطمِ الأمواجِ للشطِّ المسكين،
أنسى الحياة، أتركها هناك،
فأجد الذاكرة في جيب البنطلون،
في الجيب الصغير الذي تحسبه فارغاً،
كسنتيمٍ يشبه بسمةَ الميِّت.
آه تذكرت،
كان هذا مجرد سباق في البداية،
تذكرت يا ربي، تذكرت،
كانت الجائزة ألماً، ضجراً،
كينونةً، و بعدها عدماً،
لو مسح أبي منيَهُ على السرير،
لكنتُ شخصاً آخرَ الآن.
لا أدري من أنا، من أنا؟ هل أنا المصادفة؟
أم قطعةُ دومينو سقطت في تتابعٍ سخيف؟
وضعني طائرٌ مهاجرٌ في بطن أمي،
كائنا ما كنتُ، كنتُ مرتاحٍ في العدم،
لأن الحياة سجنٌ على ضخامتها،
مسرحٌ باطِلٌ،
نتدافع عند النهاية للخروج منه،
مسرعين و كأن العرض لم يكن ذا شأن،
كأنها كانت على ناب وحشٍ،
كأنها حبة رملٍ ضائعة تسبح.
أحاسبُ سؤال المعنى،
فيهجرني،
أقول معزياً نفسي :
“هناك إله،
عربيداً أو حكيما، لا يهمُ،
المهم هو الأمل”
أرى شجرةً تحترقُ، فأرى الله،
أراه في إستدارة نهدٍ،
في ترهلات العجوز،
في إفتراس ضبعٍ رضيع الغزال.
أطنُّ، و أطنُّ،
مثل الذبابة هنا،
أبحث عن الضوء،
لكن النافذة تمنعني،
أرطم وجهي مع الزجاج،
أدوخ، فأتخيل العالم من جديد
أكتبه كي أحسّ أنني موجودٌ حقاً،
آه كم الكلِمة وطن،
و كم كبيرٌ هذا الوطن،
كم السماء واسعة
و كم تحاصرها الكلمة.
أشربُ الآن فأتذكر أنني أنسى،
الحياة فتاتُ خبزٍ،
قطرة ندى في صحراء، ضربة رعدٍ،
سكونٌ بين نغمتين،
حكايةٌ تروى على لسانِ مجنون،
و قاطرةٌ في قطار الكون المجهول.
أريد أن أقول بها الشعر دوماً،
ليأخدني القطار بعيداً، أبعد ما يكون،
آه، لقد غرقتُ في كأسِ البيرة هذا حتماً،
فنسيتُ معه كلَّ تخيلاتي.
أمكنةٌ كثيرةً زرتها على أريكتي،
صليت في معابد كثيرة،
إكتسيت بجلود حيواناتٍ كثر،
بِعْتٌ عبيداً على موانئ لا تحصى،
تزوجتٌ نساءاً كُثراً على الرصيف،
حلمتُ بالحياة أكثر مما عشتها.
أحس الحياةً كتاباً من رمل،
و أنا صفحةٌ عذراء،
مضيتُ شاعراً بين الأزقة،
مسافراً في الجيب،
و أحياناً مداساً تحت الأقدام،
لكن حراً كما أردت دوماً،
وقعت بين أيدي ناسٍ يكتبون بي ما يشاؤون،
و مسحتِ الريح ما كُتبَ،
طعم القدر بفمي تلذذته طيلة الطريق،
ولو أحزنني حزن أيوب مراتٍ،
حسبي أن يكون المكتوبُ قصيدةً تشبعُ الجياع
حسبي أن يكون قصيدةٌ تواسي المضلومين،
كثراً كانوا أم قلّة،
ولو كانت خبزةً مقسومةً على سكان الصين،
ستارةً تفتحها فإذا بك تطلُّ على العالم من جديد.
أحسُّ حين أمشي أنني لا أتقدم
بل يجيء العالَمُ لي
كالكرة، فأقذف به بعيداً،
فإذا بي أقذف بالحياة نفسها
تقمصتُ دورَ المسافر هنا،
فأتقنتُ الدورَ
سافرتُ بين الفلسفات،
عشتُ، قلقتُ، تطلّعتُ،
أماكنَ كثيرةٍ رأيتُ،
سرق العصفور عِنَبَ البيتِ فتبعتهُ،
أنا الطائرُ،
وجهي جوازُ سفرٍ بين الحضارات،
وجهي حائط أملس تسلَّقَه القدر،
أرضع الأرض لتقول من أنا.
من أنا إذاً؟
أقول : ” أنا المصادفة، أنا المسافر،
أنا الباب، الشبح، المعبر،
أنا الضائعُ،
أنا الطائرُ، العابرُ، المسافرُ”
أحاول قول الحقيقة فأتخطّاها سهواً،
جلس أجنبيٌ في القطار فأزعجه صوتي،
الآخر دوماً نشازٌ مضجرٌ،
و الغناء مقاومةٌ عفيفة.
تحمل الريح كلماتي،
فيسرقها نبيٌ ما،
تصور الريح كلماتي،
فيرسمها رسامٌ ما،
و ماذا يرسمُ الرّسام؟
يرسم فماً مُلتهماً،
يرسم فخّاً،
يرسمُ ساعةً ممحوّة الأرقام،
ربّا يشربُ الخمر،
يرسمُ قفلاً، مفتاحاً،
آه، كم المفاتيح كثيرةٌ و كم الأبواب أكثر،
كل بابٍ يدفعني لباب.
ركلني القدر فمددتُ لي يدي،
أنحني أحياناً على كتاب كي أقف،
أغفو أحياناً أخرى،
فأشكل العالم من جديد ..
تفتح آن الباب
فتجدني،
يفتح آخرون الباب
فيجدون شيئاً آخر،
وهذا الشيء ربّما هو أنا،
تصنعُ آن المربّى بيقين الرَّاهب،
بيقينِ نحلةٍ،
تقول لي آن سرَّ الوجود المُحَيِّرِ،
فأؤمن بها،
تذوقي يا آن المربى بلطفٍ
هو ليس خيبةً،
ليس إشراقةً تأتي دفعةً واحدة.
أُلَهِّي نفسي و أكتب الشّعر،
أكتب كأنما أغني،
لقد جاء المساء،
مساءاً أسوداً هذا الليل،
أيتها النجمة التي تشِعُّ من بعيدٍ قد غفى النهارُ
سأدع كلماتي تجري و أغلق الباب،
لدى آن حديقةٌ يا كلماتي الصغيرة،
من أجل ألاّ تعادَ ذكراي،
أخرجي أرجوك و اركضي، اركضي.
سأنزل للقبو مع إخوتي لأنام،
ممسكين أيدي بعض، اليد باليد،
آه لقد دستُ وردةً على الدرج،
كأنني دست جثةً في المقبرة،
كم يتشابه الدرج وهذا مع تلك المقابر الأنيقة،
درجاً درجاً نزلتُ .. حتى الأبد .. نزلت ..