الفن والجمهور..عن العادات البصرية للتلقي التشكيلي

ابراهيم الحَيْسن

هل كان المصوِّر الروسي فاسيللي كاندانسكي V. Kandinsky على حق حين قال: “على المشاهد أن يتعلم النظر إلى اللوحة كتصوير غرافيكي لمزاج وليس كتصوير أشياء أو مواضيع”، وما الذي يقصده بـ”التعلم”؟ هل كان يريد إثارة سؤال بيداغوجي يتصل بالتلقي والتذوق الفني بمعزل عن الفنان وفي غيابه؟ وما هي العوامل التي أمست تتحكَّم في جمهور الفن وترسم لديه خرائط القراءة والتلقي لديه على ضوء المستجدات المتسارعة التي يشهدها الفن على أكثر من مستوى؟

القارئ المتعاون..

تدعو الإستتيقا الجديدة إلى نوع مختلف من التلقي يركز على الأثر الفني وقد لا يشترط حضور الفنان، وترى أن الاعتراف بالنص التشكيلي كمجال حيوي وكغِواية بصرية ضرورية لابُدَّ من التعايش مع عناصرها ومكوِّناتها..وقبل ذلك أقر الرومانتيكي الفرنسي أوجين دولا كروا E. Delacroix بـ”أن الفنان في فن التصوير- يختفي من أمام المتفرِّج ولا يتعامل معه مباشرة مثل الكاتب أو الخطيب“؟.

صلة بذلك، وفي دراسة بعنوان “عين الجمهور” L’œil du spectateur (2002) يشير غييوم ألاري G. Allary إلى ضرورة توجيه العناية إلى علاقتنا بالأعمال الفنية، من حيث كونها هدفاً للمشاهدة. فهي مركز الرؤية وبؤرة التلقي البصري الذي يكون فيه حضور القارئ ضمنيّاً. فهذا الحضور النموذجي للقارئ هو الذي يمنح العمل الفني قيمة مضافة لم يكن يكتسبها قبل عملية التلقي، ذلك أن مراكمة المشاهدة وتكرارها يتيح للقارئ فرصة خلق “متحف متخيَّل” (العبارة لأندريه مالرو) يمنحه إمكانية طرح الأسئلة البصرية ذات العلاقة بالعمل الفني، بل ولاستحضار معارف ودرايات منسية وإعادة صياغتها وتداولها على ضوء تأثيرات العمل الفني على المتلقي، لاسيما إذا كان مستهلِكا متلذاً، أو مَتْعِيّاً Hédoniste..

يُحيلنا هذا الرأي إلى موقف أمبرتو إيكو U. Eco في حديثه عن القارئ المتعاون Lecteur coopérant، كما في بحثه الموسوم بـ”القارئ داخل النص”، وأيضاً إلى ميشيل بيكار M. Picard في كتابه “القراءة كلعبة”، حيث يفصل القارئ المفترض بين تلافيف النص عن القارئ الفعلي، أي الذي لديه كينونة وجودية في الواقع، كما تقول آني روكسيل Annie Rouxel.

في المجال التشكيلي تتعدَّد القراءات والانفعالات من قارئ لآخر وتظل تخضع لمستوى الاستعدادات والمواقف خارج نطاق تدخل الفنان الذي ينتهي دوره بانتهاء إنجاز العمل الفني وعرضه للجمهور الذي يتحوَّل إلى منتج ثانٍ قادر على قراءة العمل الفني عبر التفكيك والتحليل العلاماتي Sémanalyse تيمّناً بقول المصوِّر الفرنسي راوول دوفي R. Duffy: “من ذا الذي قال إن الرسم لا يمكن شرحه، بل يحسّ به..أرني إيَّاه!!..والأمر لا ينسحب على الرسم فحسب، بل يخصُّ باقي التعبيرات التشكيلية الأخرى، القديم منها والجديد، والتي يصعب فهمها بمعزل عن سياقاتها الإبداعية والظروف التي ساهمت في خلقها وإنتاجها..

“مِبْوَلَة” دوشامب، جمالية اللافن

الرَّاجح أن جمهور الفن، الذي دأب طويلاً على مشاهدة الأعمال الفنية الكلاسيكية وروائع الفن الحديث التي تتكدَّس داخل المتاحف والمجموعات الخاصة، أضحى يصطدم مع التحوُّلات الإبداعية الطارئة التي قلبت موازين الفن الذي صار له فهم جديد من سماته تحطيم العادات البصرية المتوارثة وانمحاء الحدود بين الفن واللافن وظهور جمالية مُغايرة قائمة على البرفورمانس

1

والاستعراض. كما صار الفن أيضاً يُقاس بما يوفره من احتفالية، أي الانتقال من دائرة الذوق البورجوازي إلى دائرة الحشود والجماهير.

مثال على ذلك، الـمِـبْولَة Urinoir، التي عرضها الفنان الدادائي مارسيل دوشامب M. Duchamp في سنة 1917 باسم رمزي هو ريتشارد مت R. Mutt للمشاركة في المعرض الفني الأول الذي نظمته جمعية الفنانين المستقلين بنيويورك خلال نفس السنة، مثلت هَدْماً وانقلاباً على القيم والأذواق البورجوازية السائدة في أوروبا آنذاك..

هذه القطعة الخزفية البيضاء الناصعة، المصنفة ضمن الأشياء الجاهزة Ready Made، ستعود إلى الواجهة الفنية من خلال الفعل الغريب الذي قام به الفنان الفرنسي بيير بينونسيلي P. Pinoncelli سنة 1993 أثناء تدشين متحف “مربع الفن بمدينة نيم، وذلك بلجوئه إلى التبوُّل مباشرة في مِـبْولَة دوشامب، أداء مفاجئ اعتبر تخريباً وجريمةً قادته إلى المحاكمة والسجن.

ما قام به بينونسيلي أحدث ضجة كبرى وسط جمهور الفن وأثار جدلاً واسعاً لدى النقاد في تصنيف هذا الفعل الذي عَدَّهُ صاحبه (هابينينغ) جديداً “يمتد” لعمل دوشامب الذي ظهر ثائراً ضدَّ الفن الحديث وظلَّ مرفوضاً لسنوات من قبل متاحف الفن..

هذا دون الحديث عن تجارب فنية أخرى رامت خلق الدهشة والحيرة بأشكال تعبيرية جعلتها شائعة ومتداولة بين النقاد وجمهور الفن بغض النظر عن قيمتها الإبداعية فقط لأنها خلقت جدلاً واسعاً غير مسبوق، تماماً كالضجة التي أحدثتها “موزة” الفنان الإيطالي موريسيو كاتلان Maurizio Cattelan التي أغراها السنة الماضية بشريط لاصق على جدار في قاعة آرت بازل في ميامي جنوب شرق ولاية فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية جاعلاً منها “عملاً فنيّاً” بِيعَ بمبلغ 120 ألف دولار؟ أية سخرية هذه؟ وأيُّ جنون هذا الذي وقع مباشرة بعد رفع الستار عن الموزة المعلقة وسط فوضى إعلامية كبيرة..

لقد قادت مقاومة الفنانين المعاصرين للأشكال التقليدية للفن المتلقي لـ“ذوق فني جديد” يبدأ بمسايرة ما ينجزونه ودفعِهم نحو استيعاب عناصر المنجز الفني البديل في أحدث مظاهره وتجليَّاته. لبلوغ هذا المسعى، يكون المرور عبر معابر التذوق باستغلال استعدادات القارئ التي لا يمكن سلخها عن جاهزيته وكفايته القرائية وعن قدراته الفردية على حلِّ المشكلات التي قد تعترضه خلال عملية التلقي. هذه الاستعدادات تظل تتصل كذلك بإمكانية إدراكه للعناصر التعبيرية المكوِّنة للعمل الفني إدراكاً حقيقيّاً وتحديد مجال تفاعلها داخل النسق الجمالي الذي يحكمه في حدود تحوُّلاته ومتغيِّراته، وهو أمر صعب يدخل في الغالب ضمن اختصاص نقاد الفن وعشاقه المحترفين..

التلقي وسطوة الميديا

عندما تَنَبَّأَ الفيلسوف الألماني والتر بنيامين W. Benjamin بأثر التكنولوجيا على الفن ودور وسائط الاتصال في تغيير الطابع التفرُّدي للفن كان على حدس كبير لمعرفة درجة تأثير الوسائط التكنولوجية الحديثة على رؤية الفنان وتفكيره تجاه الفن ودفعه إلى إعادة النظر في أشكاله الفنية. وقد سبق لبنيامين -أحد أبرز مفكري مدرسة فرانكفورت- أن أصدر في طبعات عديدة كتاب “العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي” متسائلاً فيه ومن خلاله عن مصير الفن في المجتمعات الغربية ومؤكداً بأن الوسائل التقنية والتجارية المعاصرة قد تؤثر سلباً على العمل الفني بشكل يترتب عنه تدهور وانحطاط العمل الفني ويرمي به إلى تلاشي أصالته وحقيقته، لاسيما عندما يخضع هذا العمل لمنطق السوق والربح والاستهلاك..

وقد امتد تأثير هذا الظهور الجديد للفن و”تكنجته” ليلقي بظلاله على فئة الجمهور والمتلقين الذين وجدوا أنفسهم أمام صور جديدة للفن لامألوفة تبدَّت على إثرها حقيقة الإبداع وفرادته وزوال طابع التقديس عنه بشكل غير مسبوق مهَّد للابتكار في الفن المعاصر..

هكذا فعلت التكنولوجيا فعلتها بحيث خلقت واقعاً جديداً في مجال الفن، وذلك على مستوى استعمال التكنولوجيا بشكل مباشر، كما هو الشأن بالنسبة للبرامج الحاسوبية والمعالجات الرقمية والروبوت (الإنسان الآلي)، ثمَّ على مستوى فنون الميديا الجديدة، كما في إبداعات الفيديو آرت والأفلام التجريبية وغيرها من الوسائط التكنولوجية التي ألغت السمة الفردية للفن وحوَّلته إلى ممارسات وعادات اجتماعية مشتركة متاحة للجميع ضمن نسق معرفي تواصلي واسع وممتد يُعرف بـ”عصر الصناعة الثقافية”، وفق توصيف ث. أدورنو Th. Adorno.

بهذا المعنى، حلَّت الآلة محلَّ اليَدِ، وأضحت تصنع الفن وتبدعه على نحو مباشر وفعَّال، أي أن الفنان لم يعد بمقدوره اليوم إنتاج الفن بمفرده بعد أن فتحت وسائط التعبير الجديدة الباب واسعاً

2

أمام المتلقي للانخراط بدوره في التجريب والابتكار بدعم واستعانة بالعديد من البرامج والتعليمات المدمجة الخاصة بالخَلق والإبداع..وقد طرح هذا الأمر إشكاليات جديدة في تلقي الفن وفهم حوامل إنتاجه التي أصبحت مع وضِدَّ الفنانين في آن..وتلكم معضلة أخرى!!

*للقراءةوالاستزادة:

Théodor W. Adorno: Théorie esthétique– Traduit par Marc Jéminez et Eliane Kofholtz. Ed. Klincksieck; Paris 1974.

Hans Robert Jauss: Pour une esthétique de la réception. De l’allemand par Claude Maillard- Préface de Jean Starobinski; Gallimard- Paris, 1978.

– W. Benjamin: L’ouvre d’art à l’époque de sa productibilité technique. Paru en 1935 et publié en 1955. Ed. Allia. Puis Gallimard, Paris- Ed. Folio (12); Janvier 2008.

ناقد تشكيلي من المغرب 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *