رواية: “الغرق” لـحمُّور زيادة..تَمَزُّق الفرد وسرديات القهر الاجتماعي
رشيد الخديري
1. إضاءة:
يتردد اسم الروائي حمور زيادة بصورة مستمرةٍ في المحفل السردي السوداني خاصةً، وبالعالم العربي بصفة عامةٍ، غارقاً في مقاربة الواقع الاجتماعي للإنسان، عبر رصد همومه وانشغالاته ومآلاته، وغير خاف على أحد، ما يعيشه الإنسان العربي اليوم، من قهرٍ داخليّ وتمزُّقات وانتكاسٍ وجوديّ. لقد راهن حمُّور زيادة منذ أعماله السردية الأولى على رؤية للعالم قائمة في كلِّياتها على ما هو كائن في أفق بلورته كممكن متحقَّق، ولقد أشار الناقد إبراهيم العسل أن دراسات علم الاجتماع تهتم بالجماعة “لأن الفرد لا يعيش في الواقع في المجتمع الكبير الذي ينتمي إليه، أي الدولة أو المدينة، أو حتى الحي، وإنما يعيش في جماعات، والجماعة هي التي تؤثر في الفرد، والجماعة هي الوسط الاجتماعي التي يؤثر فيها المجتمع”(1)، من هذا المنظور من الاشتباك بين الفرد والجماعة والمجتمع، يخوض الروائي رهانه الصعب من أجل ارتياد آفاق الكتابة. بيد أن عوالم الكتابة لدى حمُّور زيادة تمور بالمدهش والغرائبيّ، لاسيما حين تلتحم مع الواقع الإنساني والنظرة الاجتماعية للفرد في انصهاره داخل المجتمع، ويكفي أن نستحضر في هذا السياق روايته “عشق الدرويش”(2)، التي انبنت على ما هو مرآوي، عبر مساءلة الذات وتمزُّق الفرد في بحثه عن الهوية المفقودة بين دهاليز التاريخ، ولقد بدا جلياً أن حمُّور زيادة يطرق باب السرد من منطلق التغيير. نعم، نشدان التغيير عبر التَّموقع تحت الأضواء الكاشفة، والالتزام بقضايا الفرد والمجتمع.
2. السوسيولوجيا بوصفها آليةً للقراءة
نستهدي بالناقد تزفيطان تودوروف لفهم طبيعة الأدب وهو يشتبك مع روافده المتعددة، حين قال إن:”الأدب لا ينشأ في الفراغ، بل في حضن مجموع من الخطابات الحية التي يشاركها في خصائص عديدة، فليس من المصادفة أن تكون حدوده قد تغيرت على مجرى التاريخ“
1
(3)، من هاهنا، يَتَبَدَّى الأدب بوصفه تجربةً مُعَقَّدَة ومتشابكة، مما يجعل مقاربته عصيّاً على القبض، ومن ثمة، فإن النَّص هو الذي يفرض آليات المقاربة، وليس العكس. إن المفهوم التَّعددي للقراءة، هو قمين بمنح النَّصيات أفقاً للمقاربة، ويجعله ينأب بنفسه بعيداً عن القراءات التَّعسفية أو ما يُمكن تسميته بـ”القراءة التلفيقية“، وهي قراءة تُحاول مزج مجموعة من التِّيارات والمناهج النقدية في بوتقة واحدة، وهو ما يعني خليطاً عجيباً من المناهج، علماً أن لكل منهج خلفياته الابستمولوجية وأسسه النقدية، بيد أن جمع ما لا يُجمع نظرياً وإجرائياً يُشَكِّلُ ليّاً لعنق النص، وتجنياً واضحاً من طرف النقاد والدارسين.
وفي هذا الصّدد، فإن المنهج الذي سنخوض به مقاربة المتن الروائي المطروح، هو النقد السوسيولوجي اعتباراً لمجموعةٍ من الشواغل، وهي كالآتي:
أ- متن “الغرق، حكايات القهر والونس“، لحمور زيادة انبنت عوالمه الروائية من تمزقات الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، عبر محكيات متناسلة من عمق الجرح الإنسانيّ، كالعبودية والتَّسلُّط والصراع حول المناصب والولاءات القبلية (آل ناير وآل البدري نموذجاً)، والتمايز الطبقي، وهي كلها إشارات نصيَّة لا تنفك في اشتباكها مع تقنيات الحكي والحوارية وتعدد الأصوات ورؤي العالم والكائن والمتحقق وجوداً وقوَّةً وفعلاً، وفي هذا الصدد، “يدعو زيمل السوسيولوجيين إلى تركيز نظرهم على المجتمع وهو يتشكل، وعلى مختلف الكيفيات التي يتكون بها على يد أبسط التفاعلات العارضة والمؤقتة التي تجري بين الأفراد (تبادل النظرات بين شخصين، شرب قهوة مع صديق، إجراء مكالمة هاتفية مع قريب للاطمئنان عليه، الجلوس مع آخرين في مقصورة القطار، ارتداء هذا اللباس أو ذاك من أجل ترك انطباع معيت لدى الآخر…)(4). وبذلك، فإن المجتمع ليس كياناً مستقلاً عن نبض الفرد، كلاهما يُمَثِّلانِ واقعاً بشرياً اجتماعياً قادراً على التفاعل مع كل الأنماط والأشكال.
ب- لا يمكن النظر إلى المتن، بمعزل عن التحولات العميقة التي عرفها ويعرفها المجتمع السوداني في مختلف محطاته وتمظهراته. لقد خاض حمور زيادة في التاريخ السوداني الحديث بجرأةٍ نادرة، وفي قالب روائي يُعَدُّ امتداداً جينياً لمشروعه الروائي الباحث عن موطئ قدمٍ في الثقافة الإنسانية،
2
ومن ثمة، فإن الرهان على هذا العمل لوحده لا يكفي، وإنما يتم ربطه بسياقات السرود بشكل عام. هكذا تبدو الخلفية السوسيولوجية حاضرة بقوة داخل هذا العمل، وهي حفريات متسقة ومتجذرة في كيانات الفرد والمجتمع، “إنها عالمنا، عالم أوهامنا“(5)، بتعبير المفكر عبد السلام بنعبد العالي، وهو عالم مُطَوَّب بالأماني والهموم والتمزقات.
3. تَمزُّق الفرد وسرديات القهر الاجتماعي
1.3. التَّقابل/ ثنائية النفي والإثبات
أشرنا آنفاً أن السرد الهائل هو تَتَجَذَّرُ فيه المعطيات الاجتماعية، بوصفها انعكاساً أو تمثيلاً للحياة، سواء فيما يتعلَّقُ بالفرد والمجتمع. إن رواية “الغرق، حكايات القهر والونس“، هي سرديات طافحة بالتمزق والقهر الاجتماعيين، كرؤية للعالم تتشكل وفق منظور إنساني طافح، بدءاً من حياة الفرد وصولاً حياة الجماعة، وفي تصوري، فإن الرواية راهنت منذ البداية على ثنائية النفي والإثبات، القهر في مقابل الونس والرقص، الإماء في مقابل الأعيان والسلطة، الإرتواء في مقابل العطش، وهي كلها تقابلات تحمل هموماً ونوازع
بشرية مترسخة في الوجدان. “تبدو البلاد كما لو صُنعت في صدفة ما“
3
(6)، يصرخ حمور زيادة عند البدء في شهوة الحكي وجذوة القصّ، لكنها صرخة _على ما يبدو_ ترن في آذانٍ صمَّاء، ويبقى رنينها يتردَّدُ كالصدى، “ولكن، بطبيعة الحال، فذلك ليس معناه، أن مشتملات اللاوعي الثقافي لا تتغير، بل في بعض الأحيان، تتغير جذريا عنها في أحيان أخرى”(7). نشدان التغيير هنا، يبدأ بتقريب الرؤى ووجهات النظر بين عالمين: عالم يرزح تحت القهر، ولا سبيل لمداوة ذلك إلا عبر حكايا الونس، وعالم السلطة، حيث الصراع حول العمودية بين عائلتي آل ناير وآل البدري، وها هنا، يتشكَّلُ الصراع الطبقي والوعي به نحو تحقيق مآلات الفرد في انصهاره مع الجماعة. إن حضور الوعي بحتمية التغيير تنطلق شراراته من التاريخ الحديث للسودان، وإعادة بنائه من منظور تعددي، لا يؤمن بالثبوت والسكونية، وإنما، يتحرَّك بتوالي الأحداث والضغوط الاجتماعية وقوة السياسات ونشدان الديمقراطية، فالكل ينتظر الأنباء الآتية من العاصمة (الخرطوم) من أجل التَّحرك، صحيح، أن هذه المجتمعات المتشكلة تتميز بالعفوية والتلقائية أو ما يطلق عليه بـ”الدهماء Populace“، “وهي تجمعات غير منظمة، قد تكون تلقائية أو مقصودة، وأهم خصائص الدهماء: الغوغاء، العنف، التيارات الجامحة، الأهواء الشخصية، الانفعالات، العواطف، والحماس”(8). في مقابل ذلك، هناك جماعات تخضع لنظام مؤسساتي، ترتهن في نشاطاتها إلى القانون وعلى علاقات اجتماعية قائمة على الالتزام بين كافة أعضائها. إننا نلمس في سرديات حمَّور زيادة رغبةً تأسيس خطاب روائي مؤسس على روج الجماعة، بدل الانغماس في أهواء الذات ونوازعها، رغم أن هناك نقد مبطَّن لحركة هذه الجماعات، لما تكشفه من انعدام المسؤولية وتغليب الغوغاء والمصالح الشخصية والقبيلية على مصلحة البلاد والعباد، بيد أن التقسيم الذي قسَّمه الباحث الألماني توينس، يتصادى مع مكونات المجتمع الذي تدور فيه عوالم الرواية، وهو مجتمع محلي، حيث طغيان التقاليد والعادات والممارسات البائدة التي تحد من إنسانية الإنسان، وتجعله عرضة للتطاحن والسخرية والرضوخ لمشيئة القبيلة.
2.3. سرد التشظَّي وعَيِّنات التَّمزق الاجتماعي
1.2.3. شخصيات القهر الاجتماعي:
قد تكون عبير أحد أهم الشخصيات إثارة للجدل في هذه الرواية، رغم أنها ليست شخصية ذات قيمة داخل المتن، والمقصود بالقيمة هنا، ليس الإسقاط القيمي لشخصيات الرواية، وإنما، المقصود بالأفق الدلالي الذي
4
تخلقه هذه الشخصية، فهي فتاة نحيلة، بلا أب شرعي، وتهب جسدها الصغير لكل عابر، حتى أنه لم ذاع خبر حملها داخل المجتمع المحلي المسيج بالعادات والتقاليد، حصل هناك ارتباك واضح في معرفة أب هذا الجنين الذي يتكوَّن في الأحشاء، وكأن دورة السرد تُعيد الحكاية نفسها: حكاية فايت ندو، أم عبير التي ارتبكت الخطأ نفسه، بل حاولت أن تُسمي عبير باسم شاهيناز تَيَمُّناً بحفيدة عائلة كبيرة بقرية حجر نارتي. إن عبير ونايت فدو ووزين الدهب، هي عيِّنات تمثل القهر والونس، في مقابل تسلط شخصيات أخرى، لها حظوة كبيرة في الوسط الاجتماعي، خاصة “الرضية”، مثال للشخصية المتجبرة، القوية، المحافظة على العادات والتقاليد. إن حمور زيادة كان ذكياً في عملية توظيف هذه الشخصيات، لما تنطوي عليه من سرديات مكتوية بلهيب الرغبة والأنس والغناء والتشظي.
2.2.3. التمثيل والرَّد بواسطة الكتابة:
إن ما يُميَّز الرواية هو قدرتها على التمثيل والرد بواسطة الكتابة، حتى أضحت ” ظاهرة تعبيرية لافتة للنظر، تستقطب اهتمام القراء، والنقاد على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الفكرية، بسبب العوالم التي تبنيها بإحالاتها المتعددة على الذاتي والجماعي، الواقعي والأسطوري والحلمي، وكذلك الموضوعات التي تطرحها وتشعب القضايا التي تنهض بتمثيلها والاقتراحات الجمالية التي لا تكف عن بلورتها من خلال الانفتاح على ما تتيحه التعبيرات والنصوص والخطابات المختلفة“(9)، بيد أن هذا التَّشوف الذي تجترحه الرواية في وقتنا الراهن على كافة المستويات التعبيرية ( الخطاب، الشكل، العوالم، الآفاق..)، قمين بارتياد آفاق تتحرَّر من سلطة الجاهز والناجر، نحو آفاق تخييلية تروم خلخلة الفرد وانتشاله من السلبية والسكونية، ودعوته للانخراط –بكل مسؤولية- في توجهات المجتمع الإنسانية، ذلك أن ربط مصير المجتمع بتوجهات الأفراد مسألة معقدة ومتشابكة، لا سيما، أن هناك اختلافات ثقافية وإيديولوجية واجتماعية ونفسية، لكن، من المنظور السوسيولوجي القائم على التوزاي والتطابق بين الحياة الأدبية والحياة الاجتماعية، هناك إمكانية هائلة للتحقق، شريطة التمثيل لهذه العينات الفردية والاجتماعية بنوعٍ من الاندغام والتطابق.
4. محصلة عامة
لقد ظهر من قراءة رواية “الغرق، حكايات القهر والونس” للروائي حمور
5
زيادة، أن ثمة رهان على البعد الاجتماعي في عملية الكتابة والتمثيل لها بواسطة عينات من المجتمع المسحوق، المأخوذ بالهموم والمآاسي، في أفق بلورة خطاب روائي ضاج بالأسئلة الكثيرة. إن جانب هذه التحققات، لا يني حمور زيادة على التخييل التاريخي من منطلق الكتابة ضد الكتابة والخوض في مجاهيلها بغيةَ التعبير عن تمزقات الفرد وانخراطه لخدمة الجماعة، مهما كانت هذه الجماعة الواقعة تحت سياط التاريخ والعادات وحب التملك والسلطة والقوة السياسية، وهذا هو حال المجتمعات العربية التي ما تزال في بحثٍ مضنٍ عن شيءٍ مفقود اسمه: الديمقراطية، وكأنه مُقَدَّر على الأمة العربية وسردياتها أن تُتكب بحبر الوجع والقهر والونس.
المراجع:
1- ابراهيم العسل: الأسس النظرية والأساليب التطبيقية في علم الاجتماع، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 2011، ص: 32.
2– حمّور زيادة، شوق الدرويش، دار العين للنشر، مصر ، ط 1،
3- تزفيطان تودوروف: الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 2007، ص: 9.
4– يوسف أحجيج، من مقدمة كتاب: الفرد والمجتمع، المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا، تأليف: جورج زيمل، دار رؤيا للنشر، ط 1، 2017، ص: 26.
5- عبد السلام بنعبد العالي، ميتولوجيا الواقع، دار توبقال للنشر، ط 1، 1999، ص: 10.
6– حمور زيادة، الغرق، حكايات القهر والونس، دار العين للنشر، القاهرة، ط 1، 2018، ص: 9.
7– النظرية الاجتماعية والواقع الإنساني، تأليف: برتي السوتاري، ترجمة: علي فرغلي، المركز القومي للترجمة، العدد 2060، ط 1، 2015، ص: 17.
8- ابراهيم العسل: الأسس النظرية والأساليب التطبيقية في علم الاجتماع، مر مذ، ص: 33.
9- إدريس الخضراوي: سرديات الأمة، تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، افريقيا الشرق للنشر، ط 1، 2017، ص: 69.
رشيد الخديري: شاعر وناقد من المغرب