المارثون
للشاعر التونسي: سفيان رجب
المارثون
أبدأ يومي بالعدو الريفي نحو المدينة،
وأكمله بالعدو المدني نحو الرّيف.
في الصباح،
أجدُ ريحا مخبّأة في خزانة الفصول،
ألبسها، دون أن تكويها زوجتي.
أضع غيمة كثيفة حول عنقي،
وأنتعل طريقا مزفّتة لا تسيّجها الأشجارُ
أسيرُ مثل ممثّل بروليتاري يقوم بدور بورجوازيّ.
في مدخل المدينة،
يشعلون لي ضوءا لا أتبيّن لونه،
فأنا مصاب بعمى الألوان
كأغلب الذين عاشوا في الرّماد.
أعبر الطريق، دون أن أهتمّ بالضوء.
تصدمني سيارة واقفة،
أموت.
يسألني الشرطيّ:
– هذه أوّل مرّة تموت فيها؟
– متّ مرّات كثيرة، لا أذكر منها سوى المرّة التي تزوّجت فيها، والمرّة التي قال لي فيها شيخ قريتنا: صدّقني.
– وكيف متّ إذن؟
– متّ من السأم كثيرا، ومتّ من الضحك أحيانا.
– كيف لم تنتبه للضوء الأحمر؟
– أنا مصاب بعمى الألوان.
– منذ متى؟
– منذ قطفت وردة حمراء لجارتي الجميلة، وحين قدمتها لها، قالت لي: شكرا على الوردة البيضاء.
يربّت الشرطيّ على خدي بلكمة،
أحصي أسناني، وأنا أخرج من مركز الشرطة، أجد أنها ناقصة سنا.
يقول لي طبيب الأسنان:
– أنت لا تعرف العدّ أكثر من العشرة.
في الشارع، أتدرّب على العدّ:
أعدّ الناس والأشجار والبنايات والنوافذ والقطط والكراسي وجليز الأرصفة والسيارات…
أشعر بالسأم،
أذهب للعمل في بناء جامع،
يقول لي المقاول المشرف على العمل هناك، حين أطالبه بأجرتي:
– ستقبضها مضاعفة في الآخرة.
أذهب إلى الآخرة، فأجد كلّ البنوك هناك مغلقة.
أذهب للعمل في بناء حانة،
يقول لي المقاول المشرف على العمل هناك، حين أطالبه بأجرتي:
– ألا يكفيك أن تأخذ وعيي، بعد أن أسكر؟.
هو يفقد وعيه،
وأنا أكمل يومي بوعي إضافيّ،
يضاعف إحساسي بفقر الجيب أمام بنوك الدنيا
وبفقر الغيب أمام بنوك الآخرة.
أنتبه أنّ النهار سيذهب بعد خمس دقائق،
وأنا لا أملك ما أقاوم به هجوم الليل،
على حواس كائن نهاريّ أعزل في المدينة،
أعدو نحو محطة الحافلات،
اللعنة، حتى الحافلة الصفراء خائنة، أنا أنتظرها في الصباح أكثر من ساعة، وهي لا تنتظرني في المساء أكثر من دقيقة.
أعدو نحو محطة القطارات،
أعدو نحو التاكسيات الفردية،
أعدو نحو التاكسيات الجماعية…
أعدو نحو كلّ العجلات..
أعدو..
أعدو..
أبلغ خطّ الوصول أخيرا
أجد زوجتي، واقفة خلف الخط،
تقول لي، وهي تنزع عني الريحَ المهترئة:
– لقد وصلت بعد الجميع: فواتير الكهرباء والماء، والديون وساعي البريد العجوز…
هكذا،
أهدر جسدي النحيل،
في مارثون خاسر،
لا أستحقّ عليه حتى ميدالية مطبوعة على عنقي،
تتركها عضّة زوجة شبقية تشتهي عودتي في الليل.