سَفَر اللغة ووترها الشعري

أحمد العجمي

سَفَر اللغة ووترها الشعري

أحمد العجمي

اللغة كأداة تفكير، وكوعاء حامل وناقل للأفكار قد مرّت صيرورتها بأربعة عصور زمنية مرتبطة بتطوّر العقل البشري وبمنجزاته المتنوّعة.

ولولا اللغة وتطوّرها لما نشأ وجود للإنسان ولما تطوّر وتحضر، وأصبح مبدعاً في مسارات حياته.

فالوجود أو الكينونة الإنسانية مرتبطة

بالتفكير المتعالق مع اللغة التي تنظم هذا التفكير وتُخرجه للتواصل وللحياة ولبناء الوعي التراكمي.

وبدون اللغة ما كان للإنسان أن يرسم أهدافه ويهندس طرق وأساليب تفكيره وتعلّمه المستمر.

اللغة أتاحت للأجيال اللاحقة التعرّف على نوع ونسق ومستوى الوعي السابق والتعامل معه بالإثراء وبالنقد والبناء.

الأنساق الثقافية المختلفة والمتنوعة تظهرها وتفرّق بينها وتحدّد معاييرها اللغةُ

بتعابيرها ومعاجمها وصيرورتها.

باللغة يتحوّل الوعي إلى سلوك جماعي ينظم روابط وعلاقات الأفراد المستخدمين لها، وتختلف هذه السلوكيات والأنماط المعيشية والثقافية باختلاف وتنوع اللغات.

كما أن اللغة مسؤولة عن تشبيك الوعي والتفكير بين الجماعات المتعايشة بها، وبغير اللغة لا ينتقل الوعي من الأنا الفردية إلى الأنا الجماعية، ولا تنشأ ثقافة مجتمعية تحدد نوع وتمايزات أي مجتمع عن آخر، وأية حضارة عن أخرى.

في غياب اللغة ينتفي التاريخ البشري، ويمتنع تكوّن الحضارات ولا يتحقّق التطور الإنساني الذي ما يزال متواصلاً بفضلها وبفضل تطورها وفاعليتها.

لا معارف ولا أديان ولا علوم ولا فنون ولا فلسفة خارج اللغة، واللغة تتبادل قوتها وضعفها، بل وهويتها مع كل منتج عقلي وفكري إنساني؛ إنّها مؤشر قوي من مؤشرات التطور.

عاش المجتع الإنساني آلاف القرون وهو ينتج ويطوّر لغته ومحمولاتها ومعانيها

ومعاجمها، فيوسع ويعمق ويوضح في دوائر المعاني والمفاهيم والأسماء والأوصاف مستخدماً وعيه وخياله وتجاربه وإبداعاته.

العصر الأول- ما قبل التاريخ:

بدأ الإنسان كجماعات في إنتاج وتقويم وتطوير اللغة كضرورة وجودية، ليصبح كائناً عاقلاً مدركاً للزمن وللحياة، وقد حفزّه وساعده على إنتاج اللغة تطوّره الفسيلوجي وتطوّر وعيه وتفكيره وتمارينه الصوتيه وتجاربه اليومية، ومن ثم طبيعة علاقاته الاجتماعية وحاجته للتواصل والمعرفة.

اتسمت لغة عصر ما قبل التاريخ بالشفوية، وبالتواصلية، وبالتداخلات والاختلاطات اللفظية الذي جعل إطلاق أسماء ودلالات متعددة على الشيء الواحد أو إطلاق معنى واحد على أشياء متعدّدة، كما افتقرت للمعاجم والقواعد والفقه اللغوي؛ حيث إن الشفاهة وحدها لا تستطيع إنشاء وتطوير ذلك.

ونتيجة لنقص الوعي وغياب العلوم وظِفت اللغة في تنشيط وتفعيل طاقة القوى الأرواحية السحرية والخرافية والأسطورية

والطوطمية الدينية؛ حيث تقوم اللغة وطاقتها الصوتية وترنيماتها بحماية وصون الإنسان والمجتمع من الشرور عبر استخدام ألفاظ وتمتمات وتعاويد وسجع خاص للتقرب للطوطم أو لمنع أذاه وأذى القوى السحرية والعفاريت، ولنشر الطمأنينة في القلوب.

واستخدمت لبعث طاقة الحركة والتكاتف الجماعي أثناء التحفيز على التقاط الثمار أو الصيد أو الغارات، وعلى الرقص، كما استخدمت في مراحل لاحقة مع دخول الثورة الزراعية في أنشطة الحرث وجني الثمار وفي الحروب.

لم يكن الدور الفني للغة منفصلاً عن الوظيفة الدينية والطوطمية؛ فالدين والفن كانا مندغمين في وظيفتهما، ومفهوم الفن كما نتصورّه اليوم لا وجود له خارج القوى السحرية والأرواحية.

وربما هذا الفيض في تحول الدلالات والمعاني وتنوعها للفظة الواحدة، وهذا الغموض السحري الأرواحي الذي غمر اللغة، وهذه التمتمات والترنيمات الطقوسية، وقوة الشفوية التي فرضت ملكة الحفظ والتكرار؛ ربما كل هذا هو ما أسبغ على الشعر بعد ذلك

كفن لغوي هذه الخصائص التي أصبح بعضها من جوهره وبعضها مضافاً له.

لم تتمكن اللغة الشفاهية حفظ ونقل ما أنتجه إنسان ما قبل التاريخ عن ثقافته سوى الآثار المطبوعة والمنحوته على الصخور وعلى جدران الكهوف من أشكال وخطوط ورسوم لحيوانات تلك الفترة ولطبيعة علاقاته وتعاملاته معها ومع الطبيعة، أمّا الثقافة والفكر والفنون لو وجدت فإنّنا حُرمنا منها بضياعها للأبد.

للأسف خارج الكتابة تبقى اللغة مجرد

موجات عابرة للزمن تمحو آثارها ذاتياً بحركاتها المتلاشية. ولإحداث نقلة حضارية ووجودية للإنسان لابد من تحقيق نقلة للغة من مستوى الشفاهة إلى حضور الكتابة والتدوين.

العصر الثاني إبداع الكتابة:

لا يستطيع التاريخ أن يبدأ بدون تحوّل اللغة والكلام إلى صورة من خلالها يمكن تدوينه وإعادة قراءته ومن ثم انتقاله في المكان والزمان.

مع التطور انتقل الإنسان من أنشطة التقاط

الثمار والصيد والرعي إلى أنشطة إنتاج غذائه وتخزينه وإلى الاستقرار وبناء التجمعات ونشوء القرى والمدن ومن ثم تأسيس الدولة التي تتطلب نظماً إدارية وتشريعية.

هذه النقلة الحضارية صاحبتها نقلات في الوعي والتفكير وهيأت الاستقرار الذي وفّر الوقت للإنتاج الفكري والثقافي وللابتكار، كما غيّرت من طبيعة العلاقات والتواصل من تحكّم الأعراف وحدها إلى صياغة القوانين، ومن العشوائية إلى التنظيم.

تأتي الكتابة والتي هي صورة بصرية للغة

كخطوة عظيمة قادرة على منحها التمدّد في الزمن وفي المكان، وقادرة على التنظيم والتنسيق في التفكير والتعمق فيه وإنتاجه لمن هم غائبون عن لحظة النطق به ومن لم يسمعوه.

شيئاً فشيئاً عبر التجارب والمحاولات تتطور أشكال الكتابة حتى تصل إلى اختراع وإنتاج الأحرف الهجائية كخوارزميات يتم من خلالها تحويل الكلام إلى أشكال وصور تعكس محمولاته بدقة وتخزّنها ومن ثم تسيّلها مرة أخرى للكلام عبر القراءة. فالكتابة والقراءة عبارة عن تجميد وتسييل للكلام واللغة.

من خلال الكتابة تمكّن الإنسان من صياغة تاريخه ونقله للأجيال اللاحقة لتقرأه وتتعرف على هوياته وثقافاته وأنشطته وسلوكياته وأوضاعه الحضارية وعلى طرق تفكيره.

انتقلت اللغة بانزياحاتها وأنساقها من الأروحاية والسحرية والطوطمية، دون أن تفقد الكثير منها، إلى الروحيّة الدينية والفنية، كما انتقلت من الأعراف الشفاهية والسلوكية إلى القوانين والشرائع المكتوبة والمنظمة للحياة وللدولة.

تم إنتاج ثقافة الثورة الزراعية وأفكارها

وفنونها من خلال الكتب الدينية وكتب الحِكم والفلسفات والشرائع والأساطير والشعر والنقد والحكايا والأنشطة الفكرية والمعرفية الأخرى.

مورست الكتابة طيلة آلاف السنين من قِبل نخبة قليلة متخصصة لإغراض وأهداف الدولة والمعابد والدين والاقتصاد والآداب والفنون والشعر والطب…؛ فكان هناك الكتبة الحرفيون والنساخون والوراقون والخطاطون.

وحفظت الكتابةُ اللغةَ على جدران المعابد والقصور وألواح الطين وعلى قطع النقود

والصخور وشواهد القبور وعلى الألواح الخشبية والجلود والعظام والورق والقماش والزجاج وعلى الجسد الإنساني.

وكانت طرق وأدوات الكتابة تتمثل في النحت بالإزميل والحفر بالحجر وبالمعادن والخط بالأصباغ والأحبار والفحم والكي بالنار وباستخدام أقلام القصب والريش.

في هذا العصر أُثريت وتقوّت اللغة وطاقتها بشكل أكثر وانتظمت هياكلها ومعانيها من خلال تأسيس ووضع علوم وقواعد اللغة وفقهها ومعاجمها وشروحاتها، نتيجة ظهور

نُخب متخصصة فيها، وعبر توسع دوائر المعارف الدينية والاجتماعية والتاريخية..إلخ.

ولأن الوعي وإنتاجه بقي معرفياً وليس علمياً؛ فإن اللغة استغنت في المجالات الأدبية والدينية وفي الشعر، وبقيت فقيرة في معاجمها وألفاظها واستخداماتها العلمية.

وحيث إنَّ الأميّة والشفاهة هما السائدتان والفاعلتان في الحراك اللغوي فإن إنتاج المعارف والأداب والفنون اللغوية لم يصل إلى النسبة الكبيرة من الناس، وربما اهتم بها وبتداولها نخب صغيرة متباعدة.

وأثّر في قلة الاحتفاظ بما أنتجته اللغة بالكتابة وقلّة ما استطاع أن ينتقل عبر التاريخ والأزمنة ويديم اتصاله وتواصله، هو ارتفاع نسبة الأمية وندرة الكتّاب والكتب، ونوعيّة وسائط الكتابة وعدم مرونتها مثل الصخور والجلود وألواح الطين، والنسخ المحددوة منها.

بقي هذا العصر بطيئاً في تطوير وتكريس اللغة بالكتابة رغم ما أنجز من نقلات للإنسان ولتاريخه، وهذا البطء ترك فجوات خلقت تساؤلات وتأملات مازال تأثيرها فاعلاً

في العقل الذي بقي مرتبطاً ومسكوناً بهذا العصر.

لعل الشعر وجد نفسه أكثر استقلالية عن الأغراض الدينية في اللغة وتعبيراتها ومواضيعها، لكنّه لم يتحرّر منها ومن رواسبها التي استبطنته خلال الفترة الأرواحية والسحرية والتي وظفت طاقة اللغة لطمأنة الجماعة والفرد من الأرواح المستنسخة ومن القوة الطوطمية المتربصة بهم.

الشعر نقل الطاقة الأرواحية بالإضافة إلى طاقته الصوتية الموسيقية وترنيماتها إلى

المعابد والقبائل وإلى القصور وإلى التجمعات الاحتفالية والتجمعات المستعدة للقيام بأنشطة إنتاجية أو حربية وحوّلها إلى طاقة روحيّة.

وما يتم الاعتقاد به من أن للشعر شياطين وعفاريت ملهمة قرينة للشعراء وموحية لهم ومتدخلة في إلهامهم بإنتاج قصائدهم؛ هو امتداد للعقل الطوطمي والأرواحي والسحري الذي مورس مع بدايات نشوء اللغة انفجاراتها المدهشة.

فالأصوات الراقصة وأصداؤها الآتية من

إيقاعات قول وكتابة الشعر هي في حقيقتها كانت خيوطاً منسلّة من نسيج التشابك بين الشعر ولغة الدين الساجعة في عصر ما قبل التاريخ.

فالكثير من طاقة الشعر الشفاهي تكمن في إيقاعاته وقوافيه القادرة على تكوين إذن جماعية واحدة منسحرة ومنقادة.

هذه الطاقاة الصوتية هي ما احتاجتها ثقافة العصر الثاني فهي ثقافة غير متقاربة في الأمكنة فالمسافات الزمنية بين التجمعات والأفراد تقتضي رفع نبرة الأصوات وتمديد

موجاتها الصوتية ورفع مستوياتها وتوحيدها وتنغيمها حتى تصل على موجات موحّدة ومتساوية ويتم استقبالها بوضوح وبدون نقصان.

لأنها ثقافة روحية ودينية وقبليّة حتى في تجمعاتها المدينيّة فإن خصائص الإيقاع والسجع تنسجم مع وظائف التبشير الديني والتعليم به وتكرس حفظه والتشرّب به، وتغرس سحريتها في العقل والنفس باعتباره كلاماً قادماً من قوة غيبية أو ما ورائية وليست بشرية.

احتاج هذا العصر بعد ما قدّمه للغة وللتاريخ إلى تغيير نوعي، وإلى قفزة عملاقة أخرى تعيد للغة وللوجود حياة جديدة أغنى وأعمق وأكثر توسّعاً وانتشاراً للوعي وللتفكير المنظم عبر تطوير اللغة كتابة وقراءة.

العصر الثالث سيلان المطبعة:

التاريخ بدأ في الشرق إنما القفزة الثانية المهمة أتت من الغرب في القرن الخامس عشر بعد الميلاد لتحدث ثورة كبرى في اللغة تقوم بها الطباعة ولتجعل التروس تدور بأكثر سرعة وانتظاماً داخل الوعي والثقافة والعلم،

فيتعمّق الوجود.

بدأ عصر اللغة العلمية، وتزايد انتشار وتعمّق لغة الشعر والأداب والفلسفة بفضل الورق المطبوع بآلاف النسخ وفي زمن قياسي، بفضل الكتب المطبوعة وليس المخطوطات اليدويّة.

العلوم البحتة والعلوم الاجتماعية أنتجت لغاتها وقواميسها المتعددة والمتخصصة، والآداب والفلسفة أنتجت معاجمها ومفاهيمها الأكثر دقة والأكثر تمايزاً.

لقد تفجّرت العلوم ففجّرت لغاتها،

وتشظّت اللغة لتمنح العلوم الوضوح والتركيز؛ العلاقة طردية بين اللغة والعلوم وبين اللغة وأي منتج ثقافي أو أدبي أوفكري.

الطباعة سرّعت وتيرة التعليم ووسّعت مدى انتشاره، وساهمت بإضعاف الأميّة وانحسار الشفاهة؛ أصبحت المطبوعات بكل أنواعها وتخصصاتها تتنقل في الأمكنة العامة والخاصة لتنقل اللغة بصياغتها وأساليبها ومحمولاتها.

تجددّت اللغة وازداد ثراؤها وتفشى سطوعها في الوعي الفردي والجمعي،

وصارت كموجات لا فاصل بينها، ترتفع لترفع الواقع والحياة وتنمي الحضارة الإنسانية الحديثة.

ارتفع منسوب جماليات اللغة نتيجة تنوّع مصادر ثرائها ونتيجة كثرة القادرين على الاستمتاع بالكتابة والقراءة والمساهمين في إنتاج صورها؛ فلم تعد حكراً على نخبٍ نادرة، وإنما توسعت على إشعاعات أوسع وأطول في المجتمعات.

صارت للغة بيوتها ومؤسساتها التعليمية والتدريبية، وأصبح منتجوها ومتلقوها

يزدادون كثرة وتواصلاً وتأثيراً.

لم يعد هناك نسّاخون وورّاقون بل دور طباعة ونشر، واستبدلت المخطوطات والرسائل بالكتب والموسوعات والمعاجم والمجلات والصحف … إلخ.

لا صخور، لا جلود، لا أخشاب، وإنما ورق، ولم يعد وجود للإزميل وللقصب وللريشة في أشكال وأدوات متعدّدة، بل أصبح لقلم الحبر والآلة الكاتبة، وآلة النسخ؛ الورق والقلم والحبر أدوات لتعليم ولإنتاج وتدوير ونشر اللغة حاملة الوعي والجمال وباثتهما.

الطباعة تزيح اللغة الدينية عن مركز الصدارة والتسيّد وتسّلم المشهد للغة العلمية والثقافية والأداب والفنون؛ إنها تقلّل من نسب الأرواحية والسحرية في اللغة وترفع المعادل العقلي والروحي فيها.

تنفجر لغة الآداب والفنون في التنظير النقدي وفي تطبيقاته، وفي الرواية، وفي الشعر، والمسرح، والسينما والتلفاز والراديو،، ليرفع كل ذلك من منسوب المعرفة والذائقة الجمالية ويوسع آفاق وأشكال صياغات اللغة.

موجات رومانسية، وواقعية،ودادائيّة،

وسريالية، وأطياف تربط بينها يتعرض لها الشعر ويغذيها بمرونة حركاته وبمشحون طاقاته وبقدراته على التكيف والتجاوز في ذات اللحظة.

العلوم بأنواعها، والأفكار الجديدة والوعي، وارتفاع منسوب ونسبة التعليم، وتكاثر المعاجم، وسهولة الطباعة والنشر؛ كل ذلك أتاح للشعر بأن يتغير ويتطور ويدخل في أطوار وأشكال متحررة من بعض القيود.

المطبعة سمحت للترجمات بتوسيع آفاق تناقل اللغة العلمية والأدبية في العالم،

وبتمكين الشعر للخروج من عزلته المكانية والزمانية، وربطه بشبكة أصواته الإنسانية وإصدائها.

لقد أضافت للشعر فضاء شاسعاً للتعرف على صيغه وأشكاله المتنوعة في الثقافات المختلفة، وأتاحت له فرص التلاقح معها ليكون صوتاً وتجربة فنيّة وجمالية كونيّة، ويصبح الشعراء نخبة عالمية تتجاوز جغرافياتها.

وبفضل هذه الثورة المطبعية وبفضل الحداثة يتخلى الشعر عن الزخرفات الزائدة في

موسيقاه وفي جمله وفي أوزانه التي ورثها منذ نشوء اللغة ووظائفها السحرية والتعويذية ورسخها في بداية التاريخ.

يتخلص الفن الشعري من وظائفه السابقة الحاصرة لطاقته وقوتّه، والتي ربطته بالمناسبات وبالأغراض الاجتماعية والسياسية والدينية، وجعلته مرتفع النبرة والحماسة.

لتأتي قصيدة النثر معبرة عن لغة المطبعة وعصرها المتسم بخصائص سرعة الآلة وتقارب الأمكنة التي وفرت الهدوء في نبرة

الكلام.

يسير الشعر إلى أن يكون مكتوباً ومقروءاً، وليس إنتاجاً شفوياً موجّها لحساسية الأذن، يتجه إلى أن يلتزم بكينونته ويفك رباطه وتبعيته لما يسلب منه جوهره الجمالي.

لغة الحداثة سالت على نقاط العالم المشعة عبر القرطاس والحبر، ورفعت الإنسان وتفكيره إلى قمم حضارية لغوية أعلى في العلوم وفي الآداب والفنون.

أثّرت المطبوعات الورقية في إغناء اللغة التداولية العامة والمرتبطة بحقول مختصة،

وأضافت لها ألفظاً وعبارات ومصطلحات ومعاجم تتناسب مع فلسفتها واحتياجاتها، كما عمّقت من اللغة العليا القادرة على إرواء عطش الروح والمخيلة وعلى إنتاج الدهشة والجمال ضمن سياقاتها الثقافية والفنية.

التراكم بلغ ذروته ولابد أن ينفي ذاته بالتحوّل إلى صيرورة أعلى وأكثر تكيّفاً وتطوّراً في مسارات اللغة.

لتأتي النقلة الفائضة من جهة الغرب أيضاً، منفلتة من منجز المطبعة وفيضاناتها.

العصر الرابع الفيضان الرقمي:

لا تكف اللغة عن تطوير فلسفتها مع الزمن؛ هذا ما حدث ويحدث الآن بإيقاعات متسارعة تجاوباً مع العقل والمخيّلة الجديدة، ومع العقل الاصطناعي وفضائه السيبراني.

لم تعد اللغة تثق في الورق، وإنما في الضوء المنطلق من الشاشات، ولابد من وضع قلم الحبر والآلة الكاتبة في تاريخ أدوات الكتابة فالأطفال الجدد لا يحتاجونها؛ الكتابة اليوم باللمس أو بموجات الصوت، وهذا ما سيكون.

لا سبورة سوداء وطباشير بيض، ولا سبورة

بيضاء وأقلام سحرية ملوّنة؛ هناك السبورات الذكية التي يتفاعل معها وداخلها العقل والخيال الجديدان.

اللغة تتفايض وتسيل في الأمكنة في زمن واحد، لاتحتاج إلى تقسيمات الماضي وتخصصات التعامل مع اللغة وانتقالاتها، كل شيء موجود في جهاز رقمي يتطوّر ذكاؤه.

اللغة صارت تتعامل مع ذكائين؛ ذكاء الإنسان وذكاء المادة؛ فتضاعفت طاقاتها ومرونتها وتوغلاتها في الوجود الإنساني، ولا خيار قادر على التصدي لمساراتها الإلكترونية.

مثل أسلافنا الذين وقفوا على حافة التحولات نحن نقف الآن، في القرن الحادي والعشرين، بأحاسيس متناقضة أو مرتبكة أمام تصرفات لغة الشاشات التي تشير إلى نهاية عصر علاقتنا بالحبر والورق، علاقتنا بالكتاب الخارج من المطبعة، علاقتنا برفوف المكتبات المنحنية.

لم نعد نحتاج إلى البطء في البحث دخل الموسوعات والقواميس والكتب؛ أصبحت اللغة ودروسها مخزّنة في خوارزميات رقمية، أصبحت أسرع من رفة الطرف وقت أن

نستعديها من المحركات الرقمية.

لم تعد الكتابة تحتاج إلى أوامر أو حجج رؤساء التحرير في الصحف والمجلات، ولم تعد عمليات إنتاج الكتب تمر عبر المطابع ودور النشر.

بإمكان جميع المتعلمين الكتابة على ألواحهم الرقمية ونشرها، بإمكانهم التعبير عن أحاسيسهم ورؤاهم ومواقفهم وهم يمشون وهم جالسون، وهم في المقهى أو الطائرة؛ لم يعد للكتابة مكان ولا مكتب ولا طاولة أو كرسي.

الأطفال أيضاً يكتبون على الشاشات الرقمية؛ يجربون ويدرّبون لغاتهم ويمتحنونها من غير معلّم؛ سقط عمر الكتابة والنشر على الورق، وأصبح المجال مفتوحاً لكل فئة عمريّة.

الترجمة الرقمية تتطوّر بتطوّر ذكائها؛ بلمسة إصبع رقيقة تنتقل اللغة إلى ألسنة أخرى، ألسنة تقرّب الوعي وتشير إلى الفكرة؛ إنها البداية حتى الآن.

أطياف الكتابة الرقمية وظلالها تغلّف الكوكب باعتمادها على سرعة الضوء،

وتقلّص زمن إنتاج اللغة وتداولها وتوسع معاجمها على إشعاعات خطوط الطول والعرض.

تقلصت تكاليف إنتاج اللغة ونشرها وتخزينها، وارتفع عدد المنتجين والمستفيدين من سرعة دورانها في الزمن والجغرافيا ؛ إنها تساهم في صياغة العولمة والإنسان الكوني.

اللغة تغير التفكير وأساليب الرؤية والرؤيا؛ إنها لا تصدر عن الإنسان فقط وإنما صارت تأتي من حنجرة الريبوت، لقد دخلت عقل اللآلة المبرمجة حيث تمكنت من النطق ومن

الكتابة لحظة تصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية ولحظة الترجمة، وستذهب إلى مهارات أخرى.

الشعر يواكب ما يستجد ويتفاعل بإيجابية مع إشاراته المستقبليّة؛ إنّه الفنّ الذي يوظف اللغة في كل حالاتها وأطيافها، وكلما تفتّحت وتجدّدت اللغة تفتّح الشعر وزاد من تسارعه الفني ورفع تحدّياته.

أصبح الشعر أقوى أشكال اللغة تكيّفاً مع العصر الرقمي؛ تعدّدت مواقع نشره وانتشاره عالمياً، خرج من محليته إلى الفضاء

السيبراني، هو خفيف الحمل وسريع الوصول والتنقل على البريد الإكتروني، وعلى المدونات، وعلى الفيسبوك، والتويتر والانستجرام والواتس أب وعلى أي برنامج أو معالج رقمي آخر.

لغة الشعر أصبحت تؤصل مفهوم القراءة وترفعها على الإلقاء، وتزيح السمع لصالح النظر؛ إنها تعزّز الصوت الفردي لقصيد النثر التي لا تفقد الكثير في الترجمة.

الكاميرا الرقمية المتحرّكة في خدمة اللغة والشعر، وقد حلّت مكان التليفزيون، وصار

باستطاعة الأفراد بمن فيهم الشعراء بث كلامهم على قنواتهم الخاصة مثل اليوتيوب، أو التواصل عبر الرابط الرقمي كمنصات تفاعليّة مع الآخرين.

والبرامج السمعية تطوّرت لتكون في متناول المستثمرين لقدراتها على التوصيل والتواصل للمنتج اللغوي والكلامي، وليس هناك أفضل من الشعر لتوظيف هذه الخصائص.

القصيدة متاحة لكل متصفح رقمي بمن فيهم الأطفال؛ أصبح لا حجر على الشعر تحت

شتى الذرائع والمنهجيات التعليمية؛ الشعر يخترق التدجين ويبالغ في هدم الأسوار.

ستخرج تجمعات قراءة وإلقاء الشعر من الحيز الفيزيقي كمنصات، إلى الحيز الرقمي عن بعد؛ يسهّل التقاء وتفاعل شعراء العالم ويحذف قائمة التكاليف الباهظة مالياً وجسدياً.

التجارب الشعرية العالمية تتقارب وتتفاعل وتعرّف بذواتها وهويّاتها وأنشطتها من خلال منصات متعدّدة ومتنوّعة.

مثلما أثرت عصور اللغة السابقة في تطور

الشعر وتعميق طاقته لن يغيب تأثير لغة هذا العصر عليه. كيف سيحدث ذلك وبأي شكل؟ هذا رهن بالمسافة التي يقطعها في الزمن وبين تروسه.

سيتضاءل ظل الشاعر الواحد المرفوع على أسس وأعمدة شعرية وغير شعرية كما حدث في عصري الكتابة والمطبعة حين تدخلت العصبيّة القبليّة، وبعدها الأيدلوجيا والسياسة في ذلك وأوجدت مقولة الالتزام والجماهير.

ستمتلئ الشاشات بالشعراء الذين لا

يهمهم التقرب إلى الظلال الأطول والأقوى، وإنما يسعدون بكلامهم الشعري ماراً أمام هذا الحاجز الذي كان يمارس الفرز وجدولة النشر والاعتراف، ويطرح أمام أرجلهم مقولة التريث لنضج التجربة.

مقولات وينبغيات لغة المطبعة أمام الشعر والشعراء ستفقد الكثير من منطقها وأوامرها، وستنشأ حجج وتصورات أخرى تبرر وتسوّغ لما يحدث رقمياً.

لن تكون هناك مختبرات لصداقات أو لجماعات شعرية تختبر التجربة قبل نشرها وتقترح ما يتوجب تثبيته أو إزاحته منها، ولن

يكون هناك مدير للتحرير أو مسؤول للنشر لفرز ما هو ناضج وما هو يتخمر أو غير صالح.

الآن ستتيح اللغة نفسها للمسؤولية الفردية، في الإنتاج والنشر والتسويق الإبداعي.

لن يتعامل شاعر اللغة الرقمية مثل تعامل شاعر لغة المطبعة الذي يمرر تجربته عبر غرف متعدّدة، تبدأ بالكتابة بالقلم أو بالآلة، ومن ثم إلى الى المطبعة، وإلى دار النشر، وإلى المكتبات ومعارض الكتب.

على اللغة الشعرية الرقمية أن تبدأ وتنتهي

على الشاشات بأصابع الشاعر ذاته.

سيختلف متلقي الشعر، وستتوسع فرص تصفحه واطلاعاته، وسيتقلص الزمن الذي يحصل فيه على المنتج الشعري، وستتوسع النماذج واللغات والتجارب الشعرية أمامه، سيصبح قارئاً أمميّاً للشعر الأممي من خلال الترجمات المتوافرة.

هذه البدايات، والصيرورة تتسارع وتتفجر إلى شظايا خصبة، وإلى منحنيات التغير والتطور المستمر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *