طباشير وجبن
صلاح نيازي
..طباشير وجبن Chalk and cheese
العنوان أعلاه مقتبس من مصطلح إنجليزي دارج، ويُقصد به، الاختلاف الشديد بين شيئيْن، وإن تشابها في الظاهر. يقول المتنبي:
“وقد يتقارب الوصفان جدّاً
وموصوفاهما متباعدان“
إذن أدناه مقارنة في القول الشعري، بين شعرية عراقية في دور الحصرم، وشعرية غربية “دانية القطاف”. التجربة واحدة. كلتاهما تتحدث عن رحلة. الأولى رحلة ظاهرها واقعي ، والثانية معرفية، إذا صح التعبير.
عنوان العيّنة الأولى، “الطريق إلى بيروت” لبلند الحيدري. يقول فيها:
مشينا إليك مسافة أجيال
ويوم وصلناك ِ كنت بعيده
وكان بأعيننا لا يزال اشتياق إليك
وكنّا
هرمنا
فأرجلنا المتعبات تساقطنَ جزءاً فجزءا
وأن غبار الطريق أضلّ سرانا سنينا
وجال بنا الف درب ودرب…”
(الأعمال الكاملة ص 599)
أوّلاً تعبير : “مسافة أجيال”، أعطبت موسيقى بحر المتقارب، المتهادي الإيقاع. كسرته، ولا يفيد معه أيّ جبر. وجملة :”لا أزال “في السطر الثالث، يمكن الاستغناء عنها، وزناً أوّلاً، ثمّ إنها توحي بانقطاع الاشتياق .
بالإضافة، ثمّة :”كنتُ” في السطر الثاني، و”كان” في السطر الثالث، و” كنّا” في السطر الرابع، يجعل الحدث ذا زمن روانيّ تقريريّ عفا. ( يُقال باللغة العربية: كنتيٌّ نسبة إلى كنت لكل مَنْ يكثر من استعمال: كنتُ).
استقراءً من الأبيات أعلاه نفهم أنّ الرحلة التي قام بها راوية القصيدة، ليست على الطائر الميمون، وليست بواسطة سيّارة، ولا بساط ريح فريد الأطرش، ولا حتى ناقة الشمّاخ .
أراد راوية القصيدة أن يوحي بقوله:”مسافة أجيال” المعطوبة، ببعد المسافة، بين بغداد وبيروت، ولكنّها ليست بعيدة، إلاّ إذا قُطِعت مشياً على الأقدام. وحين ذكر راوية القصيدة، في السطر الذي يليه:”ويوم وصلناك كنتِ بعيدهْ”، إنّما عامل بيروت، بكلّ جبالها، وعماراتها، وبلاجاتها، وملاهيها، معاملة سراب، ذلك أنه ما أن تقترب منه حتى يبتعد. أمّا قوله:”الأرجل المتعبات”، فتوحي فعلاً، بأن راوية القصيدة، قطع المسافة مشياً على الأقدام. بالإضافة إلى ذلك، تدلّ عبارة :”غبار الطريق”، على أن الرحلة كانت صحراويّة. ثمّ ألا تدلّ :” وإنا دُمينا”، على أنهم كانوا حفاة؟، وإن قوله :”يجول بنا ألف درب ودرب”، يشبه ضياع بني إسرائيل في التيه.
من النافلة، إن إحياء المشاهد التأريخية، تحتاج إلى تعمّق في الثقافة، هضماً واستنتاجاً. خلت الأبيات أعلاه من كلّ ثقافة من أيّ نوع، فجاءت ، كقميص بلا أزرار. مقحوطة ومنعثلة. مهدّلة.
لنقارنْ ، تعميماً للفائدة، النصّ أعلاه، بقصيدة رحلة المجوس The Journey of the Magi
لـ: تي. أسْ. إليوت.
حتى بمرور عابر، على قصيدة إليوت، يتكشّف لنا كيف أن العيّنة العراقية أعلاه مصابة بفقر دم معرفي، وتعاني من ربوٍ موسيقيّ وبهاق.
قصيدة إليوت، مزدانة بتقنية دقيقة في صناعة الشعر، لدرجة انها تزداد عمقاً، وجدّةً، مع كلّ قراءة . ثراؤها في غموضها. أمّا موسيقاها فتتنوّع تنوّع الحالات النفسية في جغرافية القصيدة. لا عجب أنْ تفرّغ لدراسة هذه القصيدة ، لوحدها،عشرات المعنيين بإليوت.
قبل كلّ شئ، حشد إليوت لقصيدته، فصول السنة، وظللّها بفصول روحيّة، مما زاد في كثافتها. بهذه الوسيلة، إنما كان إليوت يكتب على مستويين: ماديّ وروحانيّ. لا ريب : أعمق الشعر ما كتب على مستوويْن ، وهو نادر في الشعر العربي عموماً.
تبدأ قصيدة إليوت، بفصل الشتاء. وحتى يعمّق الشاعر، الشتاء المكاني ويعطيه بعداً روحيّاً، أضاف
إليه مضموناً فلسفيّاً. حتى لتكاد تشعر بعد قراءة المقطع الأوّل، أن الشتاء يعني كذلك برودة الموت التي
شرعت تدبّ في الزرادشتية، وفي أوصال الإمبراطورية الرومانية، من جرّاء مولد ذلك الطفل الموعود (المسيح فيما بعد)، الذي سيقضي عليها، وبالتالي سيقضي على الإمبراطور نفسه. من هنا هلعه وتطيّرُهُ من هذا المولد المشؤوم.
كان شغل الإمبراطور الشاغل هو قتل ذلك الطفل. ولأن الطفل لم تُعرفْ هويته بعد، فقد أجاز الإمبراطور قتل كل الأطفال، دون الثانية من عمرهم.
هكذا بات الشتاء، وهو مرتفق بالموت هنا، ينخر في كينونة العالم القديم، من الداخل أيضاً.
لكنْ، لا ننسَ، أنّ الأبصال تسبت في الشتاء، لتولد من جديد في فصل الربيع. بهذا المنظور، فإن الشتاء
يحمل بذرة الموت والحياة في آنٍ واحد.
هذه الرحلة الروحية المغلّفة بالدين والفلسفة ، باتت أكثر مرارة ومضاضة، لأن الراوية جعلها في أسوأ
فصول السنة:
“أسوأ وقت في السنة
للقيام برحلة، ورحلة طويلة كهذه“.
يحشد بعد ذلك أليوت، الجمال المتقرحة الأخفاف، والباركة في الثلج الذائب:
“والجمال مغيضة، متقرحات الأخفاف، عنودة
باركات في الثلج الذائب”
يسترجع راوية القصيدة، بتوقيت دقيق، الفتيات الحريريات الناعمات اللواتي كنّ يجلبْنَ الشربت Sherbet في القصور المترفة. ويأتي بعد ذلك على، مشاق السفر المناخية، والوعثاء:
“والمدن عدوانية، والبلدات غير ودّية
والقرى قذرة ويطلبون أجوراُ باهضة “
لذا كان على الرحلة أن تواصل السير ليلاً، حيث النوم متقطّع(سيوظّف الشاعر تقطّع النوم لأغراض فنيّة بعد قليل). في هذا التوقيت شرع الراوية يشكّك في جدوى الرحلة:
“وأصوات تنشد في آذاننا قائلة
كلّ هذا حماقة”
التقنية التي وظّفها الشاعر في هذا المقطع عالية الدقّة. أوّلاً عتّم حاسة البصر، بانتشار الليل، فنابت حاسة السمع عنها. ولأن النوم متقطّع، فإن الخدر عادة ما يضخّم الأصوات.
قصيدة رحلة المجوس تُقرأ على عدة وجوه. مرة كشريط سينمائي، ذي لقطات محكمة الإخراج، ومرّة كلوحات تشكيلية، متشبعة ألوانها بحالات نفسية متباينة، ومرّة تسمعها إيقاعات موسيقية.
إلى ذلك تنظر إلى الصور الشعرية في قصيدة رحلة المجوس فتراها، مرّة، مقبرة حيّة، أو تراها حديقة، أبصالها مدفونة. إنها باختصار، حديقة في مقبرة.، أو مقبرة في حديقة . أليست الحياة كذلك؟
مهما دار الأمر، إن مولد ذلك الطفل ،هو في نهاية المطاف، رمز لمولد كلّ عهدٍ جديد.
هل سيقضي ذلك الطفل على ما نشأ عليه الحكماء الثلاثة، المجوس، من دين كالزرادشتية مثلاً؟
تزامنت كتابة قصيدة : “رحلة المجوس”(عام 1927) مع اهتداء أليوت، إلى الكاثوليكية الأنكليكانية في العام نفسه. وهذا عين ما سيمرّ به الحكماء، أو المنجمون الثلاثة. حيث سيهتدون إلى دين غير دينهم الأصلي. بهذا تظهر على السطح أغرب معادلة: الموت = الحياة. الحياة = الموت. يقول راوية القصيدة، وهو أحد المجوس الثلاثة:
“رأيت المولد ورأيت الموت
وظننتُ أنّهما مختلفان، كان هذا“ المولد“
صعباً علينا وفي عذابه مرارة، مثل “الموت،“ موتنا“.
في الجزء الثاني من قصيدة رحلة المجوس، تصل الرحلة إلى وادٍ معتدل، وفيه رائحة الخضرة.
ثمّة جدول جارٍ، وطاحونة مائية، تدقّ في الظلام، وثلاث شجيرات في السماء الخفيضة (الشجيرات
الثلاث تشير إلى جراح المسيح الثلاثة)…
تصل الرحلة بعد ذلك إلى حانة، وفوق بابها كرمة:
“وستّ أيادٍ تلعب النرد على قطع فضية
وأقدام تركل أزقاقاً جلدية فارغة،
ولكن ما من أخبار، وواصلنا الرحلة…”
(الكرمة هي رمز المسيح، والقطع الفضية إشارة إلى القطع الفضيّة الثلاثين التي رُشي بها يهوذا الاسخريوطي مكافأة له على خيانته).
كذا تجري في الأبيات أعلاه، مفردات الحياة مجرى عاديّاً غفلاً عما يحدث من معجزات، حتى وإن كانت مخاضاً عسيراً ومؤلماً ومصيريّاً. ما من أحد مكترث بآلام الآخرين.
تذكّر هذه الفكرة المقلقة بلوحة “سقوط إيكاروس” الشهيرة للرسام ، بروغل، (القرن السادس عشر).
اللوحة مستوحاة من أسطورة إغريقية، عن إيكاروس وأبيه. صنعا لنفسيهما أجنحة من ريشٍ، وشمع ٍ، للهروب من ملك كريت. لم يأخذْ إيكاروس بنصيحة أبيه بعدم الآقتراب من الشمس. فذاب الشمع وتهاوى جناحاه، فسقط في البحر وغرق. ولكن رغم هذه المحاولة الخارقة، لم يلتفت أحد إلى سقوطه. المزارع مشغول بيوميّاته، السفينة تواصل سيرها، الراعي يهشّ على أغنامه، والصيّاد الذي يجلس في الضفة، منحنٍ على خيط صنّارته عسى أن تؤاتيه سمكة.
لا يظهر في هذه اللوحة من إيكاروس إلا ساقاه وهو يغوص إلى القعر.
لكنْ كيف تسرّبت هذه الفكرة، أي العمل الخارق أو المعجزة، مقابل العمل الروتينيّ السادر، إلى قصيدة
W. H. Auden الرائجة: متحف الفنون الجميلة: Musee de Beaux arts ، وهي مؤرخة عام 1939، أي بعد نشر قصيدة رحلة المجوس بآثني عشر عاماً تقريباً.
الدراسات الموثقة، تؤكد أن أودن، إنّما استوحى قصيدته، من لوحة سقوط إيكاروس، للرسام الفلمنكي
الهولندي بروغل Bruegel ألأكبر. يقول أودن في مطلع قصيدته:
“عن العذاب لم يخطئْ قطّ
أساطين الرسم القدامى، فهموا وضعه البشريّ، وكيف وقع
بينما شخص آخر يأكل أو يفتح نافذة
او أنه يمشي بكسلٍ تماماً
كيف أنّه حينما ينتظر الشيوخ بتبجيل وحماسة
الميلاد المعجزة
ثمّة لا بدّ من أطفال صغار لايريدون حدوثها على وجه الخصوص
يتزلجون ببركة في طرف الغابة“.
يبدو لي، أن أودن، إنما تأثّر بقصيدة إليوت رحلة المجوس، بقدر ما تأثر بلوحة سقوط إيكاروس.من أين جاء أودن بـ ” الميلاد المعجزة”؟ ليس في اللوحة معجزة دينية من أيّ نوع.
أكثر من ذلك ليس من باب الصدف أن يكتب أودن قصيدته هذه بأسلوب بسيط للغاية شبيه بأسلوب
إليوت. والمعروف عن أودن، انه يستعمل الكلمات المبهمة، من ناحية ، والمهجورة من ناحية أخرى.
مهما يكنْ من أمر، ما ضرّ لو انتقلنا بلا آستئذان، إلى موضوع مغرٍ، وإن كان لا يخلو من مخاطر.
الموضوع ببساطة، إدراج قصيدة المتنبّي ذات المطلع الباذخ،:”ألا كلّ ماشية الخيزلى/ فدى كلّ ماشية الهيدبى” ، مع قصيدة رحلة المجوس”. ما الوشائج المشتركة بينهما؟ ما مبررات المقارنة؟
قد يتعذّر على الباحث، أيّ باحث، العثور على قصيدة أخرى، من بحر المتقارب، بهذه التفاعيل الجليلة التهادي. فيها تعالٍ، وسموّ.(فعولنْ أربع مرّات).
الكلمتان الأساسيتان هما: الخيزلى والهيدبى(وتكتب بالذال، أيضاً). كلمتان قاموسيتان، غامضتان حتى إذا عُرِف معناهما. ( الخيزلى مشية فيها آسترخاء، خاصة هنا بالنساء، والهيدبى مشية نشطة فيها سرعة الإبل)
الغموض الذي أشرنا إليه أعلاه مفيد فنيّاً، لأنه ينقل السامع ، وبالتالي القارئ، من حالة عاديّة، إلى حالة ترّقب آستثنائية. إثارة فضوله في أقل تقدير، وهذا بالضبط ما فعله إليوت حيث اختار كلمة “المجوس”
كما يعتقد بعض النقاد، لغموضها.
الإيقاع الموسيقي في البيت:”ألا كلّ ماشية الخيزلى / فدى كل ماشية الهيدبى“، ليس له رِدْف، أو ربّما قلّت أشكاله. حرف الألف في كلّ من: الخيزلى، و ماشية، وفدى، وماشية ثانية، والهيدبى جعلت الصورة الشعرية عالية، وكأن الراوية يصف شخصاً ما ،على راحلة جمل أو على صهوة فرس، وهو ما يتلاءم ورحلة صحراوية غير آمنة مهما كانت آمنة.
لو قرأنا مطلع المتنبي بصوت عالٍ، وقرأنا بعده ما سرده الحيدري:
“مشينا إليك مسافة أجيال
ويوم وصلناك كنتِ بعيدهْ…”
لأدركنا على الفور، كيف ذبلت الموسيقى العروضية، على يدي الحيدري، ويبست وكأنّها حشفة في المظهر، وحجلة غراب في الحركة. ذلك أن التفاعيل التي استعملها الحيدري، من الضرب “المقصور“
بكاملها تقريباً أيْ “فعولُ” بدلاً من الضرب الصحيح :”فعولن” . بالإضافة إلى زيادة مقطع موسيقي متمثل باللام في :”لأجيال” فكُسر الوزن.
مطلع قصيدة المتنبي عكس ذلك، معزوف على تفاعيل الضرب الصحيح:”فعولن” ، إلا تفعيلة واحدة على وزن فعول.
على هذه المثابة يمكن القول إنّ المتنبي وقبله أبو نواس، هما فرسا رهان، في التآليف الموسيقية العروضية، غير أن أبا نواس العميق الثقافة، تميّز ببحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعول) فكتب فيه قصيدته المتفردة:”نضت عنها القميص “. يبدو أنه ما من قصيدة عربية وربما أجنبية، اجتمع فيها العري والحياء والبضاضة والبراءة، كما اجتمع في هذه القصيدة المصنوعة من ماء وهواء ونور، وتوّرد. أي
أنّها خالية من أية جاذبية دنيوية، أو جنسية، وكأنها أثيرية، بلا لحم. لله درك يا أبا نواس كيف نحتّ تمثالاً مائياً شفافاً ، جسداً رقيقاً يدغدغه حتى الماء.
على أية حال ، راوية المتنبي، هارب من الماضي، بينما راوية “رحلة المجوس” هارب من المستقبل. رحلتان في اتجاهيْن مختلفيْن، التقيا للحظة، وافترقا.
يقوم الجمل، في كلتا الرحلتيْن بدورحاسم، وربّما مصيري.
إبل رحلة المجوس، متقرحات الأخفاف، في شتاء ثلجيّ. إبل تحرن ولا تريد مواصلة الرحلة. الإبل باركات بعناد في الثلج، والجمّالون راحوا يفتشون عن الشراب والنساء. هذا مفترق طرق، جعل راوية القصيدة يمتحن جدوى الرحلة، كما قلنا أعلاه، فإذا هي حماقة:
“مررنا بوقت عصيب
فقررنا في الأخير، السفر طوال الليل
ننام بتقطّع،
والأصوات تنشد في آذاننا
أن هذا كلّه حماقة”
رحلة المتنبي عكس ذلك. لا تلتفت إلى الوراء. ما من خطّ رجعة. لا تلتفت، رغم العطش حتى إلى الماء المعروف بآسم نحل:
“فمرّتْ بنحلٍ وفي ركبها
عن العالمين وعنه غنى”
يبدو انّ اليأس بلغ بالمتنبي، مبلغاً ، حدّ الإطباق، بحيث جعله يستغني عن العالمين.
تتزيّن عبثية رحلة المجوس ثانية، في عين الراوية، عندما يتحدّث عن حانة:
” ستّ أيادٍ عند باب مفتوح تلعب النرد
على نقود فضّية
وأقدام تركل أزقاق خمر جلدية فارغة
لكن ما من أخبار”.
أيْ عن مولد “الطفل.”
ثمة مشهد كهذا في قصيدة المتنبي، ولكنْ بالضدّ،. لعبة قمار. في لعبة القمار هذه يجازف المتنبي بالرهان بكلّ ما يملك: “إمّا لهذا وإما لذا”:
“ضربتُ بها التيه ضرب القمار
إما لهذا وإما لذا”
أيّْ إما الهلاك وإما النجاة.
ربما يدلّ قصر كلمتيْ “لهذا” و”لذا ” على زهادة الرهان، وإن كان الحياة بكاملها.
يصل راوية قصيدة المتنبي، إلى مفرق طريقين في الصحراء فيسقط في يده. أيّ الطريقيْن يسلك؟ هكذا يترك التخيير، للهوادي، من الإبل والخيل. عند هذا الحدّ تظهر إحدى ، عبقريات المتنبي الأخرى، ذلك أنه أنسن الهوادي، ووجد له معها لغة مشتركة.
وها هما يتحاوران.
ما بين يقظة ونوم، ونون ويقظة، راح الراوية يسأل الهوادي:
“وقلنا لها أين أرض العراق
فقالت ونحن بتربان :ها
(تربان آسم مكان).
هذه الـ:”ها”أصغر حتى من مفتاح “اليسْ” الذي فتح لها بلاد العجائب باباً باباً.
” ها” لا ريب، أقصر صوت بشري، يحمل كل تباشير نهاية الرحلة. إنه سمة الدخول إلى الحياة من جديد. تبيّن فيما بعد، أن تلك الـ”ها” كانت بمثابة “شمرة عصا“، كما يقول البدويّ.
ظهرتْ مثل هذه المقامرة بالحياة، في مسرحية مكبث. ففي الفصل الثالث- المشهد الأوّل، راح الدكتاتور مكبث يخطّط للفتك ببانكو، فجنّد لهذه الفعلة بعض القتلة. ، ،أوغر صدورهم ، بسمّ منقوع. كذا تعهّد القاتل (1) بالقيام بالفتك قائلاً:
“أنا معتلٌ تماماً بالنكبات
ومتعتع بالقدر
سأقامر بحياتي في أية لعبة
فإمّا أشفيها أو أخسرها”
لكنْ هل من باب الصدف أن راح راوية قصيدة المتنبي، يشبّه ناقته بالريح. ولكنْ لماذا خصّها بريح الصَّبا؟:
“وهبّت بحِسمى هبوب الدبور
مستقبلات مهبّ الصبا”
كانت رحلة المتنبي قد بدأت من الغرب، أي من هبوب الدبور، وريح الصبا تقابلها من مطلع الشمس، أيْ إلى الشرق. هل كانت الرحلة ليلية، ونومه كحسو طائر، وها هي الناقة تبشّر الراوية بصباحين: صباح الطبيعة وصباح الوصول.
هل كان المتنبي يعاني من اختناق، أو ضيق نفس من ريح الدبور بمصر الاخشيدي، و هاهو الآن
ممتلئة قصباته الهوائية بريح الصبا الهابة من العراق؟ هل حملت له الريح رائحة الطَّلع والخيري (الجوري) والراسقي والأهل؟
من تقنيات المتنبي المدهشة ، أنه ما بين :”ها” وحتى الوصول إلى الكوفة، وظّف فنيّا أماكن جغرافية عديدة، مثل: وادي الغضى، والبويرة، و بسيطة، وعقدة الجوف وماء الجراوي…هذه المواضع وإن بدت جغرافية، شأنها شأن الطلليات الجاهلية، إلا أنها هنا
تمثّل حالات نفسية مهمّة. هي من ناحية، تباشير تؤذن بوشوك نهاية الرحلة، ومن ناحية أخرى تلويحات مرحبة بسلامة الوصول، كتلويحات أبناء الرعيان، للقطارات العابرة.
الأهم من ذلك، إن هذه المواضع الجغرافية موظفة أدقّ توظيف. إنها ملاذات نفسية لروح قلقة كروح المتنبي، وهي خائفة من الإخشيدي ورصده. لا ريب إن سعادة راوية قصيدة المتنبي، تقاس بقدر آبتعادها عن الماضي وريحه الدبور وكافور.
قد تجدر المقارنة هنا، بين المتنبي، وإليوت في كيفية توظيف الليل والنهار، وأية تقنية أهم؟
تعرّفنا في رحلة المجوس، على أن الحكماء الثلاثة، اضطروا، بعد أن حرنت الجمال وبركت، للسفر طيلة الليل، وعند الصباح وصلوا إلى وادٍ معتدل أخضر الشميم.
رحلة المتنبي، في فراسخها الأخيرة، تقطّع النياط. إنها كما يبدو أعمق تقنية، وأدقّ تفصيلاً. فموضع “صَور” لاح للقافلة في الصباح، وموضع “شغور” (موضع بالعراق) في الضحى، و”الأضارع” وقت الغداة، وموضع “أعكش” ليلاً:
“فيا لك ليلاً على أعكش
أحمّ البلاد خفيّ الصوى”
(المعنى يريد أنه متعجب من ليل شديد الظلمة، على هذا المكان حتى اسودّت البلاد وخفيت الأعلام من سواد الليل)( ديوان المتنبي شرح أبي البقاء العكبري)
لسواد الليل في هذا البيت توقيت فني دقيق، لأن راوية القصيدة كان في أشد اشتياق للتعرف على ملامح مدينته وملاعب صباه. الليل حجبها. بهذه التقنية النفيسة زاد الشاعر من مأساوية الصورة.
أيّها المتنبي العظيم، ها هي كوفتك. أنت بين ظهرانيك الآن. ها “ماشية الخيزلى”، تنشّق مدينتك، بيتاً بيتاً. شجراً فاغماً، وظلاًّ ناعماً. طيراً سابحاً، ونهرا سائحاً. ها طائر الشقراق العراقي يحتفل بك بكلّ ألوانه.
ما أسعد العينيْن حين تكتملان بالوطن.