صوفية جورج براك
رؤيا سعد
هناك شي واحد في الفن ذو قيمة ،،، هو ذاك الذي نعجز عن شرحه او تبريره
-جورج براك
ابدع براك، في اتخاذه ركن هام من مدارس الفن التشكيلي ذات الصبغة الصوفية الفلسفية السوريالية، في أوج عنفوانها، فالتحليق هنا بين درجات الألوان ماهو الا تعبير صاف عن حالات الصوفية القصوى، لكن في سورياليتها النفسية التي تجعلنا نغوص في الزمن معه متذكرين ما مر بنا وأحياناً نتنبأ بما سيمر
من الشفرات التي رسخت في ذاكرة التشكيل العالمي هي تلك الطيور التي شكلها ( جورج براك ) فلم تعد مجرد خيالات فهي تترجم روح الفنان تحلق في الاماكن المغلقة إلى عوالم لا تحدها حدود او يقيدها سُوَر فوطأة الغياب المتمثّلة في تدرجاته اللونية ذات الإيقاع المضمخ بالقتامة المنحدرة الى الظلال والتي نجد فيها حضور طاغ بالاشياء كون الشفافية التي يعمد اليها براك تجعلنا نهرب إلى عالمه السري المجرد و المتمثل بجسد الطائر المحلق الذي يصاحب معظم أعماله ، والذي يحاول اقناعنا بانه يخترق فضاء الغرفة في هروب أحلامه منه وهو الذي اقترب من الشيخوخة ولَم تتحقق تلك الأحلام .
في أعمال براك رموز شاعرية دقيقة فائقة الروعة تقترب من الشعر فلوحاته قصائد مرسومة كونها تعزز الاعتقاد بأن تعامل الفنان مع الأشياء الساكنة يبقى في النهاية وسيلة لتأكيد الوجود الانساني الموارب، فتلك الرموز تتكرر وتغزو معظم أعماله لتغدو إيحاءات و اشارات إلى لمسات الحياة الحاضرة والكامنة في الأشياء ويمضي براك في اختباراته على الطائر كرمز يرافق حياته الى النهاية والمتمثلة بمرحلة (الشيخوخة ) ، ليقترب من التجرد المكثف وبالتدريج لينزوي تحت صفة الرمزية الشعرية على قدرته في الاستجابة إلى مكونات اللاوعي. إن الحديث عن الرمز في فن براك محفوف بالمخاطر لصعوبة تفكيكه اكثر من الدهشة والتساؤل ففي كل لوحة نجد ان هذه الرمزية تتحول فتتداخل بعصها ببعض على شكل اطر واغلفة . ذلك أن تصوره يرتهن بقيمة الوجود و بعاطفة كامنة في ذاته ، أو باستعادة ثقافة الذاكرة. وأعمال براك لا تتجاهل عاطفة الرسام ولا المتلقي ، ولكنها معنية بتجريد الأشياء أولا من عناصر التعابير الدارجة . فقد اكد على أن استخدامه لرمزية الطير ماهو الا ترجمة لذاته وخصوصا فيما يتعلق بالمشاعر التي لايحب الافصاح عنها بشكل جلي ، وهناك من رأى في أعماله تلك النزعة الصوفية المنغمسة بالتعابير الروحانية من الناحية التركيبية وان تلك الرموز وجدت فقط لتكثيف المعنى وفي كل الأحوال تبقى اعمال براك المجردة و التي تحمل رمزية “الطائر” في حالاته المختلفة لاتخلو من الهارموني كما في لوحة “تحليقة كاملة” سنجد بانه اعتنى بإظهارها بتناغم تام بمزاوجته الدقيقة بين الكتلة السوداء والفضاء الأزرق الذي يحتضن المكون ، الطائر الأسود يخترق الكتلة بكل صلابة مفرود الأجنحة بعيدا على احداث أي تضاد بين اللونين في اللوحة، لأن شفافية الفضاء الممتد تخترق بمرونة الكتل السوداء لتجعلها في تناغم مع هذا الفضاء الشاسع الممتد بالزرقة . ويكتمل مناخ اللوحة بطائر آخر أبيض رقيق شفاف ، يبدو كأنه الصورة الحلم لذاك الطائر الأسود وهكذا يتم التكثيف ليتم المعنى ..