مكابدات الرحال (الجزء الثاني)

للكاتب العراقي: سعد محمد موسى

مكابدات الرحال
محاكمة حلم

الجزء الثاني •

بقيّ السالمي في مديرية الأمن العامة في بغداد ما بين التحقيق والتعذيب الجسدي والنفسي اليومي المتواصل لمدة أربعة اشهر وكانت التهمة الموجهة ضد السالمي – هي بسبب فكرة طرأت على مخيلته ذات يوم نحس كانت مجرد فكرة لا غير ولا يعرف كيف وصلت تلك الفكرة إلى السلطة حين فكر بالهروب خارج حدود أسوار الوطن وكانت عقوبة التخيل بمثل هذا الحلم الخطير والمتمرد تهمة يحال بها المتهم الحالم إلى محكمة الثورة ويبقى البت بقرار المحكمة ضد تهمة “حلم الهروب” هي جريمة يكون الحكم ضدها ما بين الإعدام أحياناً أو السجن حسب قناعة الحاكم العسكري في محكمة الثورة وبمدى شعور المتهم بذنبه والتوسل والبكاء بطلب المغفرة من الأفكار الملوثة وعدم تكرار الحلم مرة أخرى فيكون هنالك ترحم وتخفيف العقوبة.
فلا يحق للمواطن العراقي أن يفكر خارج وصايا السلطة.
في الساعات الأولى من وصول السالمي إلى شعبة التحقيق انهالت عليه الركلات والصفعات والشتائم والقهقهات الصاخبة التي كان يطلقها الجلادين وضابط التحقيق لاسيما لدى صراخه الهستيري أثناء كيّ عضوه التناسلي بصعقات كهربائية في حفلة ترحيب لقدومه كما أطلق عليها ضابط التحقيق.
ثم أقتاد أحد رجال الأمن المتهم في ممر ضيق يؤدي الى غرفة الاحتجاز ورموا به فوق بلاط بارد بدون أغطية فتكور مثل جنين داخل رحم منسي ومظلم.
بقيّ المحتجز في غرفة إنفرادية بينما الحارس يرمي له الطعام السيء الذي يفتقر إلى الملح مع قليل من الماء للشرب مرة واحدة في اليوم من تحت البوابة الحديدية الصدئة لغرفة الاحتجاز المظلمة.
قبع السالمي في جوف المعتقل الانفرادي الصغير دون أن يعرف إلى متى سيبقى داخل هذا الكابوس الرهيب المغيّب من الزمن ومن الضوء ومن أي بادرة أمل لكن وسط هذا العذاب والنسيان حاول المعتقل التصالح مع اليأس والعزلة.
على حين غرة وفي هذا الزمن المنسيّ سمع المعتقل الذي كان يجلس القرفصاء في زاوية السجن صرير الباب وهو يفتح مع صياح الحارس الذي أمره بالنهوض والمجيء معه فوراً تسللت صدمة اليقظة والسعادة إلى أوصال المعتقل حين رأى الباب الموصد يفتح لم يعرف بالضبط كم من الدهر بقي في حبسه الانفرادي.
أشار الحارس للسجين أن يتبعه إلى قاعة السجن الجماعي والتي ستكون أفضل بكثير مقارنة بالحبس الانفرادي لا سيما بعد أن سلمه بطانيتين ووسادة مع منشفة وقطعة صابونة وشارك بقية السجناء بطعام أفضل وكان السجن الواسع يضم أيضاً حمام ومرحاض.
لدى دخول السالمي استقبله السجناء وساعدوه على إيجاد مساحة لفرش بطانيته فوق أرضية السجن المكتظة بأفرشة السجناء ثم أفرغوا له الحمام كي يغتسل جسده الذي لم يمسه الماء منذ أربعة أسابيع قضاها في حبسه الانفرادي.
كان السالمي يستمع إلى حكايات المعتقلين وحواراتهم أثناء مشاركتهم الطعام أو تجمعهم للاستمتاع بلعبتهم المفضلة “الدومينو”
كانت لكل سجين حكاية مختلفة وفترة محكومية متفاوتة أيضا.

ذات مساء وأثناء تناول العشاء سمع السجناء باب السجن يفتح وكان الحارس يصرخ بصوت عالي وينادي باسم – كريم السالمي وأمره بالنهوض فأقتيد السالمي إلى غرفة ضابط التحقيق ومر بنفس الممر المظلم الذي يؤدي إلى غرفة التحقيق ثم دفع الحارس
بالمعتقل داخل غرفة التحقيق بينما ضابط التحقيق كان يرتشف قدح الشاي مع ضابطّين كانا يجلسان على أريكة مريحة، حدق الضابط بوجه المتهم ثم أشار له أن ينظر إلى طاولة صغيرة كانت تقع في منتصف الغرفة وقد
نصبت فوقها ثلاثة قناني زجاجية فارغة لمشروبات غازية – بيبسي كولا وكوكا كولا وقنينة بلون بنيّ كانت أصغر من بقية القناني من “عصير شراب تراوبي” والذي كان مشهوراً في الأسواق العراقية.
بعدها أمر الضابط وأشار للسجين أن يختار أي قنينة يفضل فهنالك حرية كاملة في ديمقراطية الخوزقة.
انهار المعتقل باكياً ومرعوبا حين سمع بالخوزقة ثم توسل: أرجوك يا سيدي اعفني من هذا الاختيار فتلك أقسى إهانة وأسوء إنتهاك لكرامة الإنسان في وطنه !!؟؟
-لا تضيع الوقت هذا قرار وهو من ضمن أخر عقوبة لك بعدها تغادر المعتقل: صرخ الضابط بحزم بينما الضابطين الآخرين كانا يحبسان ضحكة في صدورهم وبعد أن يأس السجين من توسلاته أجاب بصوت ذليل سأختار قنينة التراوبي اذن:
-حسنا لك ماتريد ولكن لماذا قنينة التراوبي بالذات دون سواها من القناني: سأله الضابط؟؟
-لأنها قنينة صغير ياسيدي وألمها سيكون أخف على الأقل: أجاب المتهم بصوت ذليل ومحبط. انفجر الضباط بضحك جنوني عج بثنايا الغرفة فأدرك المتهم فيما بعد أنهم كانوا يسخرون منه ويتقصدون في إذلاله وتعذيبه الوهمي ومعرفة رد فعله باستفزاز كرامته وطعن إنسانيته.

بعدها أمر الضابط وأخبر الحرس أن ياخذ السجين لتنفيذ أخر عقوبة بشرط أن يتوب ويتبرأ من حلمه بعدها يمكن إطلاق سراحه من مديرية الأمن العامة، زجر الحارس بالمعتقل وهو يدفعه نحو قاعة كانت مكتظة بمئات البساطيل العسكرية والمدنية أيضاً مع جواريب تفوح منها رائحة العفن.
صاح الحارس: مبروك يا ابن القحبة سوف تنال حريتك قريبا ولكن ليس بعد أن تنهي تنظيف وتلميع وترتيب جميع البساطيل والأحذية بشكل جيد وبدون أن ترفع رأسك أو تستريح ولو للحظة واحدة.
سوف تخرج اليوم وتنال حريتك وأنت تكتسب خبرة ومهنة تحسد عليها بمسح الأحذية أنصحك بأن تفتح محل اسكافي ترتزق منه خير لك من دراسة الفن.
أخذت تلك المهمة الأخيرة من السجين ما يقارب يومين من العمل المستمر الذي أنهكه حد الإعياء.
جاء الحارس بالسالمي إلى غرفة الضابط مذنباً ثم مسك بالقلم الذي كان ينتظره فوق الطاولة الخشبية العريضة ووقع أسفل الورقة على حزمة شروط واعتذار وتوبة تحذر من عدم التفكير مرة أخرى أو الحلم بالهروب من الوطن.

“يتبع”

• • •

سعد محمد موسى: فنان تشكيلي وكاتب عراقي يقيم في ملبورن/ أستراليا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *