مكابدات الرحال (الجزء الأول)

للكاتب العراقي: سعد محمد موسى

مكابدات الرحال

محاكمة حلم

• الجزء الأول

بعد إكمال بدر الرحال دراسته الجامعية وتخرجه من كلية الآداب في جامعة بغداد سُيق للخدمة العسكرية وكان يأمل بإكمال الخدمة الإلزامية ثم يحصل على وظيفة في مجال تخصصه كمدرس ويعيش حياة طبيعية في وطنه لكن لسوء الحظ بعد تسعة أشهر من خدمته العسكرية بدأت الحرب العراقية الإيرانية ومن ثم زج الى جبهات القتال في القاطع الشمالي فعاش ويلات الحرب وكاد أن يقتل أكثر من مرة بقصف الهاونات والمدفعية الإيرانية لو لا القدر أو المصادفة التي أنقذت حياته مرتين من موت أو إعاقة جسدية فوق جبل “كردخوك” في حاج عمران والذي دارت فوقه معارك شرسة وامتصت ثلوجه الكثير من دماء الجنود العراقيين والإيرانيين !!
كان بدر الرحال يردد مع نفسه ومع أصدقائه الجنود المقربين بانه يرفض حرب الطاغية التي يريد بها أن يشيد مجده فوق جثث الجنود المغفلين.
أنا حر وحياتي هبة الرب لي!!!
وحدي من يقرر وجودي وليس الاخرين الذين يعيشون في رفاهية ويظنون أن الوطن من ممتلكاتهم الشخصية يفعلوا به ما يشاؤون أن حياتي لي ولا أسمح لأي سلطة أن تصادر حياتي أو تجعلني وقود في أفرانها.
لكن أحد المخبرين من الجنود الذين كانوا يتشاطرون مع الرحال الموت المؤجل وسواتر القتال وحجابات الجبهة وحتى قصعة الطعام أرسل تقرير سري الى إستخبارات الوحدة العسكرية يفشي بها تذمر الجندي الرحال وانتقاداته ضد حرب القادسية وتحريضه للجنود: بان تلك الحرب ستطول وستحرق الاخضر واليابس وتدمر البلدين!!
وبعد أن وقع التقرير بيد “كريم السالمي” أحد الجنود الذين كانوا يعملون في قلم الوحدة أطلع على التقرير ثم ذهب على وجه السرعة وأخبر الرحال بخطورة الامر وحذره بان التقرير سيصل خلال ثمانية وأربعين ساعة الى وحدة إستخبارات اللواء.
شكر الرحال صديقه الذي حاول انقاذ حياته وأخبره بنيته في تسلل الحدود والهروب الى تركيا ثم الى أوربا لطلب اللجوء وطلب من صديقه السالمي أن يساعده بجلب نماذج نزول كي تساعده في تجاوز السيطرات.
أشعل كريم السالمي سيجارته بأطراف أصابعه المرتجفة وكانت تلك اللحظات في تلك الليلة الشتائية مصيرية.
كانت فكرة الهروب من الحرب اللعينة تراود السالمي منذ فترة ليست بالقصيرة وتشحذ به جذوة الامل والحلم بالعيش في وطن آخر يحتمي فيه من الاستبداد ويحافظ على وجوده من الموت.
بعد صمت تطلع الى وجه صديقه الرحال وأخبره بنيّته أن يرافقه مغامرة الهروب.
لم يمانع الرحال لكنه أخبر صاحبه من خطورة الرحلة: أذا تم القاء القبض عليهم ستكون عقوبة الإعدام لا محالة ثم قطع حديثهم أصوات أنفجارات وقذائف مدفعية العدو وهي تدك مواقع الجنود في الوحدة القريبة وبعد برهة أجابه السالمي: أعرف العقوبة لكنني
قررت المغامرة وأن أهرب من المعركة معك ليس كجبان يترك جبهة الحرب بل كمتمرد يرفض دمار بلده ويأبى الموت من أجل طاغية مصاب بجنون العظمة همه البقاء على رأس السلطة ويسعى أن يكون قائد تاريخي عظيم ومقدس على حساب موتنا المجاني.
تسللت الى مخيلة السالمي حكاية اعتقاله ومحاكمة حلمه للهروب خارج أسوار الوطن حين كان يدرس في أكاديمية الفنون الجميلة خلال العام الثاني من الحرب العراقية الإيرانية حين استبد طغيان السلطة بشكل رهيب وأنعكس ذلك أيضا على مراقبة جميع الكليات ومراقبة تصرفات الطلبة حتى في أدق التفاصيل اليومية البسيطة فكان ثمة خوف وارباك إضافي يؤرق راحة الكثيرين من الطلبة المحاصرين من قبل جواسيس النظام ووشايتهم ومن كتاب التقارير وحامليّ أدوات التسجيل السرية التي كانت تخفى في جيوب الطلبة الذين يعملون أيضاً وكلاء أمن ومخبرين وهم يتعقبون الطلبة والأساتذة.
وحتى الحوارات اليومية العابرة كانت تصل أغلبها الى اللجان الأمنية وتسجل حواراتهم وانتقاداتهم وكذلك تصل النذالة والغدر بالطلبة المخبرين الى اسلوب إستدراج زملائهم لحوارات سياسية ضد النظام في الجامعة أو في القسم الداخلي أو جلسة داخل مقهى أو نادي للايقاع بهم في تهمة معارضة الحزب والقائد أو التورط بالخيانة الوطنية.

وكان الكثير من الطلبة يتم أعتقالهم على أثر مزحة ساخرة ضد النظام أو نقاش فيعتقلون لعدة أشهر إذا كانت التهمة بسيطة ضد الحزب أو ضد سيادة “القائد الضرورة” ثم يعودون بعدها مرعوبين وصامتين الى مقاعد الدراسة مرة أخرى ولكن البعض الاخر من الطلبة يلقى القبض عليهم دون عودة فيغيّبون في أقبية وسجون النظام دون أن يعثر على أثر لهم.
تذكر السالمي أيضاً لحظة القبض عليه ومحنة إعتقاله حين جاء
رجل مخابرات الى قاعة المحاضرة وكان يرتدي ملابس مدنية أما ملامح وجهه البليد بعيون جاحظة وشوارب سلطوية سوداء كثة.. ثم حدق في وجوه الطلبة من وراء الباب وهو يتفحص المكان وبعدها أستأذن من الاستاذ المحاضر باخذ الطالب كريم السالمي من القاعة الدراسية على أمل أن يرجع في أقرب فرصة ممكنة: انه مجرد استفسار بسيط أبلغ رجل الأمن الأستاذ الذي تسمر داخل قاعة المحاضرة مصدوماً!!
ثم سار الطالب كريم بجانب رجل المخابرات وهو يحاول الاستفسار عن سبب استدعائه لكن ضابط المخابرات حملق في وجه السالمي وأمره أن يسير صامتاً.
أما على الرصيف المقابل من بوابة الاكاديمية ..كانت هنالك سيارة “لاندكروز” بيضاء بزجاج مظلل ينتظر داخلها سائق من الصعب رؤيته من الخارج.
فتح ضابط المخابرات الباب الخلفي للسيارة وأمره أن يصعد وأن لاينبس بكلمة.
إنطلقت السيارة وسط زحام شوارع باب المعظم والميدان باتجاه مديرية الامن العامة استبد بالسالمي شعور بالرعب وكذلك انتابه قلق على أهله أيضاً لاسيما عن أمه المريضة ماذا سيحدث لها بعد غيابه أو إذا أعدم بطريق الخطأ أفكار كثيرة إنهالت علية جعلته محبطاً لاسيما بعد أن شعر أن حياته مهددة بالموت ولا يعرف أحد قريبا من رجال السلطة أو ضباط الامن كي يتوسط لإنقاذه من تلك المحنة الرهيبة!!
قبل وصول السيارة الى موقف بناية مديرية الأمن شعر أيضاً بثمة أمل وبرغبة في التشبث بالحياة وعليه أن يتحدى ويدافع عن نفسه بقوة أمام الاتهامات التي ستوجه اليه لاسيما أنه لم يرتكب أي جريمة ولم ينتمي الى أي حركة عصيان مسلح أو حزب معارض للنظام أيضاً.
“يتبع”

• • • 

سعد محمد موسى: فنان تشكيلي وكاتب عراقي يقيم في ملبورن/ أستراليا 

(*) اللوحة للفنان: سعد محمد موسى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *