قطط بنميلود
للقاص المغربيّ: محمد بنميلود
قطط محظوظة وقطط تعيسة:
–
يظل مصير القطط غامضا باستمرار. تولد في ليلة مرعدة داخل كرتونة في مرآب، تحت أدراج عمارة مهجورة، تحت عربة مات البغل الهزيل الذي يجرها، أو فقط في الريح. بعد ذلك مباشرة الصدفة وحدها هي من يحدد مستقبلها.
القطط التعيسة فقط هي التي تظل إلى الأبد في الشارع معتمدة على مخالبها وحواسها اليقظة وخفتها المأثورة منتظرة مرور الفئران النادر. أما السواد الأعظم من القطط فيبدأ منذ اليوم الأول المواء بطريقة واعية وملحة وغريبة بعيون مغمضة مناديا على الحظ.
يأتي أخيرا سكير خسر كل شيء بسبب السكر، لا يملك زوجة ولا أولادا ولا عائلة ولا بيتا، لقد شرب كل شيء باكرا واستراح، شرب النهر ثم شرب البحر ثم شرب المحيط. ينام تحت سقف محل تجاري مغلق منذ سنوات ملتحفا ببعض البطانيات المهترئة والدرابيل، يسكر بثمن التسول دون قروض ودون ضرائب ودون مشاكل كبرى، لا يبدل ثيابه ولا يحلق لحيته وشعره ولا يقلم أظافره ولا يستحم إلا بالمطر ولا يهتم لأخبار العالم، ومن يراه اليوم من رفاق الماضي لن يعرفه حتى، فقد أصبح من سكان المستقبل.
يأتي بكامل الفخر متبخترا ويربي قطة. يا له من حظ جلبه المواء المتواصل. يشتري لها علبة سردين كاملة، يتسول لأجلها من مطعم الأسماك الكبير بقايا السمك الباهظ كالجمبري الملكي الذي لا يأكله حتى هو، يطبطب عليها، يمسد فروها، يحميها من القطط الأخرى ومن ركلات الأطفال والسكارى الآخرين. نهارا لا تظهر أبدا، تصعد إلى سقف مشمس وتنام بغنج كعروس صبيحة دخلتها، بينما يتسول هو ثمن الشراب وثمن السردين لهما معا، ثم بمجرد ما يعود إلى وطنه تحت سقف المحل حتى تظهر من العدم ملوحة بذيلها مطالبة بالطعام.
إنها قطة محظوظة لن تحتاج أبدا إلى مخالبها كي تعيش..
قطط أخرى حظها أوفر. تأتي سيدة خمسينية فاتنة، تحملها من ظهرها وهي تموء وتخمش الهواء، تأخذها إلى البيت، تقذفها في مغطس الحمام، تفركها، تصير نظيفة وجميلة. إنها السيدة كذا وكذا زوجة الجنرال فلان الفلاني. أطفالها كبروا وسافروا والجنرال مشغول دائما فظلت وحيدة ورغم عدد الخدم والحشم الهائل احتاجت قطة. لا يمكن لأحد الخدم أن يصير صديقا لزوجة جنرال، أما قطة فنعم وأكثر، يمكنها النوم فوق بطنها حتى. لم تكلف أحدا بإحضارها بل بحثت عنها بنفسها وحممتها بنفسها. إنها سعادة كبيرة للسيدة وشرف أكبر للقطة.
أصبحت تحت عربة أزبال وأمست داخل فيلا الجنرال.
لا تمر مدة وجيزة حتى تترقى القطة لتشارك الجنرال وزوجته فراشهما، تغتنم أيضا دفء المدفئة، تضطجع قرب الأباجورة الثمينة غير محاذرة كثيرا أن تكسرها، تختبئ داخل رفوف الكتب بين موسوعات الأسلحة، وفي ساعة المرح القصوى تخمش بذلة الجنرال المعلقة خلف الباب محاولة الانقضاض على النياشين البراقة.
تمر شهور وقد أصبحت القطة فردا حقيقيا من العائلة، تقلق الزوجة لغيابها القصير، تزينها بقلادة تتوسطها مجوهرة حقيقية، تطلب لها شامبو خاصا من قارة أخرى، تتلفن لعيادة بيطري الجيش حين تمرض، يسعفونها في مروحية، تأكل ما يعادل ميزانية مرتبات كتيبة من الجنود الذين بلا رتبة، والجنرال يكف عن طردها من المكتب حتى حين يكون عمله في ساعة متأخرة من الليل غير قابل لأي مزاح وحتى حين تهرق قنينة الشمبانيا.
تأتي قناة تلفزيونية لتصور مع الجنرال حلقة عن الحرب العالمية الثانية، يتكلم الجنرال بمهابة، تأتي القطة وتتمسح بقدمه، ثم سرعان ما تنط إلى فوق المكتب لتدخل في كادر الكاميرا. كي يبدو الجنرال لطيفا لا ينهرها، بل يبتسم مادا يده للتربيت على فروها وتمسيده. إنها أول ابتسامة رسمية للجنرال منذ سنوات. جنرال لطيف، هذا هو ما سيقوله الناس الذين يشاهدون الحلقة مرتعبين.
لقد قامت القطة بعمل جيد، كما يليق بجندية جميلة مدربة على العلاقات العامة أو بجاسوسة. لم تعد الآن مجرد قطة عادية، بل قطة برتبة جنرال تظهر في التلفزيون. قطة مهمة ورسمية للغاية..
قطط المشاهير أيضا، القطة التي تربيها مغنية شهيرة، تصير في رمشة عين قطة شهيرة دون غناء، تضعها أحيانا بين نهديها دون كلفة، نهدان من السيليكون حلم باحتضانهما آلاف المراهقين وآلاف العزاب وآلاف الأزواج ذوي العيون الزائغة وحتى الذين عيونهم غير زائغة، تأتي قطة وتغنم ذلك دون عناء أمام دهشتهم..
قطة الجزار البدينة جدا لا تقل حظا فالبنسبة لقطةٍ اللحم المفروم وعظام العجل الكثيرة المجانية أهم بكثير من النياشين ومن الشهرة ومن صدور الحسناوات..
قطط الفقراء أيضا تبدو سمينة ورشيقة وتعمر طويلا رغم هزال جميع أهل البيت. فالمهم هنا هو أن لا تكلف القطة نفسها عناء البحث والمخاطرة بل أن يصلها الطعام حتى فمها..
الحظ وحده يصنع حياة القطط وأمجادها، دون اعتماد على أي مهارات سوى مهارة المناداة على حظ جيد..
أما القطط التي تعتمد على مهاراتها فقط فمصيرها واحد وواضح هو: الشارع. كمصير أغلب البشر الذين لن تربيهم زوجة الجنرال، ولن تضعهم المغنية الشهيرة بين نهديها..
في غياب الحظ الجيد لا يكون هناك إلا الحظ العاثر؛ تَلَقِّي الركل من مراهقين ومن جهات مجهولة والشتم من عجزة والدهس تحت عجلات السيارات والشاحنات والباصات المهترئة في غياب كامل ومفاجئ ونهائي لأية فئران من العالم ولأية دراهم ملقاة على الأرض قد يجدها بشر بائسون ومفلسون.