شارع الأقحوان

شاكر الأنباري

منذ زمن طويل لم يعد يتذكره، غابت شمس المدينة وخلفت وراءها شفقا أحمر مرعبا، كسا دجلة بالدم، جثم على موجه كالغمامة وهال مرآه الناس أجمع. ومن زمن طويل، شاهد المدينة تنسحب خلف الجدران طلبا للأمن واللذة، وليس حوله سوى الكلاب وخلاء الأرصفة والوحشة. رأى الكلاب تلوذ في الظلام، إلى المنعطفات والخرائب والأزقة هاربة من وقع خطاه الرانّة على أسفلت شارع الأقحوان. كان يمشي بتراخ، عيناه تتقدان من الأرق، مؤمنا أن حياته لا تحتمل، لكن، ما الذي يمكن عمله وسط جنون المدينة وتمزقاتها؟ فبعد أن غاب الشفق وادلهمت السماء وحاصرته الرؤى، ظل في بحثه المتواصل عن منعزل ينام فيه ولا يجلب له الريبة. أمسك لحيته النافرة بيد ملطخة بالقلق والفحم، وانعطف من شارع الأقحوان المؤدي إلى الجسر المعلق، داخلا شارعا فرعيا تسامقت على جانبيه أشجار اليوكالبتوس وواجهات أبنية قديمة، يشم رائحة شناشيلها ومزاغلها وبراويزها، بألفة ابن المدن، وتزيد من العتمة المترسبة على فضاء ذلك الشارع المهجور. كان المكان يطفو على بحر من الهدوء، لكن ومن قاع ذلك الهدوء، ورغما عن سكينة النهر القريب، عادت وللمرة الألف، تلك الأصوات المرعبة تقض تماسكه وتهدم أمانيه. ظهرت من الليل وهدأته دوريات لاغطة ونداءات لاسلكية وقرقعة بنادق جزم أنها وبمثل هذا الوقت، لا بد أن تكون منبعثة عن مجمع قصر الرئاسة بحرسه وضيوفه ومفتشيه وضباطه ولجان الحرب ولجان السلم، فقرر الرجوع والابتعاد كي يهيم نحو الأحياء النائية، لولا الظهور المفاجئ لبناية خربة عتيقة كأنما انبجست من عالم الأوهام وأوقفته ليتأملها بدقة. لا أضواء ثمة ولا بشر. ولما لم يلمح أحدا يراقبه، تقدم إلى الباب المتآكل ودخله متوجسا، فجابهته رطوبة القدم ورائحة أسماك ميتة وعفونة لا يعرف مصدرها. ألفى نفسه وسط حوش مليء بالعلب الفارغة والزجاج المتشظي والأوراق. حوصر بأعداد هائلة من الغرف تحيط بالحوش مبنية من طابقين. ثمة على بعد أمتار منه، لمح عمودا هائلا من الطابوق يرفع ثقل جدران لا ترى وفكر أنه سيكون متكأ مريحا لرأسه المتعب.
استلقى إلى جانب العمود وانغمرت عيناه بشكل قسري في ظلام غرفة على يمينه، يواجهه بابها المفتوح مثل عين حية، بعث مرآها الخوف بقلبه وتساءل عن السر الكامن وراء كثرة تلك الغرف وما تحويه. ملّ الظلمة فأدار رأسه إلى الجهة الثانية، فطالعته ظلمة أشد، عميقة متحركة. إنها غول، إنها سعلاة خارجة من أمواه دجلة، مارد من مردة بغداد تغريه الخرائب وتجذبه الكهوف. كلا، إنها شجرة توت هرمة هرم البناية، متشابكة الأغصان ذات تاج أسود وريح سلسة، فما كان منه إلا أن قام من مكانه ومشى نحوها. وضع يده على ساقها، تحسسه، يده التي من فحم ورعشة مست القشرة وارتطمت بالخربشات والندوب التي خلفها الزمن. وجهه ساق وتجاعيده خربشات كتبتها المدينة بمداد من الرعب والمطاردات وانعدام الأمان. لكن رغم ذلك، هو حي على الأقل، الشيء الذي لا يستطيع أحد انكاره. ولتوكيد نفسه وسط ليل المدينة المريب وسطوة هدوء البناية دخل أول غرفة وجدها أمامه. كان شباكها مفتوحا، الشباك ضوء متجمد لا ينبئ عن شيء ولا يكشف شيئا. سمع حركة خافتة واستراب من أمر خاف، فتراجع إلى الباب بإحساس فطري بالخطر، نما وكبر على مر أيام الخوف والتشرد. إنه مطارد من الزمن والشرطة والأطفال والحجارة ونوارس دجلة والكلاب أيضا، يسبح في عالم غير عالمه. وبفضول مرضي راح يلج الغرف واحدة إثر أخرى دون أن يعرف ماذا يبغي بالضبط، غير أنه راكن لإحساس لذيذ، إحساس المتسلل إلى ماض مليء بالألغاز والروائح البشرية والقدم، ماض عالق بالجدران والمسامات الآجرية وثنايا الشقوق، الماضي الخدر، المتوهج المفقود. الماضي الذي غفا في إحدى زوايا رأسه وها هو يستيقظ من جديد.
من السطح دوى وقع أقدام راكضة، وأبصر قطة تطالعه بعينين مضيئتين، إنهما نجمتان سطعتا في الأفق، كلا، شبح نهري، عيون دجلة التي لا تنام. رفع حجرا من الأرض وقذف القطة بها فهرولت هاربة صوب ضفاف النهر المدغلة، وعاد إلى عموده بغية النوم. رأسه فائر بالماضي والذكريات والأحداث فما غمض جفناه. استعرض وجوه أصدقائه القدامى، بيوت المدينة وأزقتها وحاراتها، أموات الحرب، النور، الظلمة، الغرف السرية المائلة على رأسه، شارات القصف وشارات السلام. ما للأشياء تتغير وتسرع في الغياب، ما للحياة تجن كل هذا الجنون؟
الحرب، الحرب، الحرب. الحرب جثث وأشلاء، اختفاء وفقدان، قتل واحتراق، إنها شوارع فارغة كشارع الأقحوان وجنون مطبق كجنونه.
في داخله ترسبت قرقعة عالية ايقظت حواسه، فظنها القطة مرة ثانية. حدق نحو السطح، لا قطة ولا كلب، لا شبح ولا مارد، متاهات الغرف المتراصة والأعمدة الحجرية التي تكاد تهوي لتسحقه، ها هي ترقص أمامه رقصة التداخل والميلان والانحناء. الأعمدة الحجرية والغرف المظلمة، وليل بغداد الخشن. في الطابق الثاني شاهد غرفة ذات موقع غريب تنتحي يسار البناية، تنزلق إلى الخلف، لم يعد بينها وبين السقوط في النهر سوى أمتار قليلة. أكانت منتجعا لأمير من أمراء عصر المماليك، استراحة لجميلة من جميلات بغداد، نفقا للهروب، نفقا لتصريف جثث غير مرغوب فيها، منفذا لدخول نساء غير محتشمات؟ أسئلة تبزغ في ذهنه وتلقيه إلى بحر من الهواجس، لو تكلمت شجرة التوت لباحت بالسر، لكنها مثلك يا عبدالله، دون فم، دون لسان، آذان فقط، وما أصعب أن يتحول المرء إلى آذان فقط.
كان ثمة سلم يقود إلى السطح، راح يرتقيه علّه يقوده إلى استجلاء السر. تقدم بضع خطوات إلى غرفة الملوك والأميرات الجميلات ففاجأه انقذاف جسد أبيض طويل من إحدى الزوايا، مر بسرعة خاطفة بالقرب منه. كان كلبا رآه يقفز ثم تابع عدوه السريع إلى الشارع حتى غاب، وفكر أن دخول الغرفة يحتاج إلى جرأة استثنائية، لكن مع ذلك دخل عبدالله الكرخي متحسسا طريقه بصعوبة. دخل الغرفة ثم بحث عن النافذة. إنها هناك، نعم، تحجب دجلة كقطعة صلبة من الضباب. تقدم، تعثر، أمسك الدرفة العتيقة المغلقة كمحارة نهرية، عالج الخشب فصر والمغاليق فتكسرت، وأسفر له النهر عن مائه، ها هي الضفاف تقابله ويكاد يلمسها بيديه. الضفاف المنورة الوادعة الأشجار، النائمة الملتفة بجلال اليوكالبتوس وشموخ الأثل ورهافة الدفلى. لم حرم من كل ذلك الجمال؟ أحس برائحة إنسانية تتطامن في رأسه، رائحة لرجال ونساء وأطفال، لها حضور غريب لفه بأسار لذيذ. عبقت الرائحة من جدران البناية والزوايا المظلمة، من الشقوق والبصمات والأطر، من السنوات التي شعر بها تلف وتدور في فضاء الغرفة والسطح والبناية. خيل إليه أنه يسمع صراخا حادا يتلوى في المنعطفات ومنحنيات النهر، تحت الجسر وفوق الموج، يرى حركات سريعة لا تسفر عن نفسها، وبسمع إشارات ليلية تتناقلها القصور المطلة على النهر والسيارات المندسة في الأركان والرجال المريبون. ولينصرف من تداعيات ذهنه، ويتخلص من مجسّات الزمن المعلب داخل المبنى، ركز جل تفكيره بأضواء المدينة. أضواء الجوامع والعمارات والقصور والمداخن، أضواء السماء والأرض، أضواء الماء وأضواء الحباحب البريّة. الكون أمامه نجوم متدلية تخفت وتتألق، تنطفئ وتضيء. ارتجت السماء وانفرطت مصابيحها كثمار النارنج، وقد صعدت الثمار الذهبية إلى الظلمة الفوقية. كل شيء يصعد إلى الأعلى، الأموات والأحياء، الذنوب والحسنات، النجوم والعتمة. ثمة، في الأفق الشرقي، مواجهة قصور الحكم، شبحت أربع نجوم. وعلى هيئة حزمة شمسية الإشعاع، تجمعت أنوار الضفة المقابلة لعينيه الواهمتين ووجهه الملون بالفحم والتجاعيد والحروق القديمة.
أغمض عينيه وحاصرته أجواء البناية بوشوشاتها ولغطها السري واستغاثاتها، اللغط شارات حروب ونفير، الوشوشات همسات أطفال مذعورين، وصوت قبل والتصاقات جسدية، الاستغاثات حشرجة وألم غير بشري واندفاعات أرواح تقسر على الخروج من أجسادها. يتطامن ذلك من القاع، قاع البناية والنهر والمدينة. أما كلمة “هنا” فقد نطق بها أحد ما كأنه يجيب على سؤال وجه بنبرة خفيضة لا يراد لها الوصول بعيدا. هل انطلقت من ضفة النهر أم من شارع الأقحوان أم من أرض البناية؟ وفي اللحظة نفسها، شعر بخطوات رجل يرتقي السلم، هادئة كانت وثقيلة، وواثقة من طريقها، إلا أنه لم يصل السطح. ها هو يلتفت إلى الباب علّه يرى طلعته المتوقعة، تلك الطلعة المرعبة المدججة الغامضة لا بد أن تكون بيضاء كالملح لون الموت. ولكي لا يمسك، لا يباغت في تلصصه على قاع المدينة وتلافيفها الخشنة، ولا يتحول إلى قطة نارية العينين أو كلب أبيض أو شبح إنسان، اندفع بكل قواه خارج الغرفة ثم نزل إلى الحوش بخطى واسعة باتجاه الباب.
وعند انبثاق أول نور خفيف في الأفق، وغياب النجوم وتلاشي الشموس الليلية، كان عبدالله الكرخي يهيم وحيدا في شارع الأقحوان.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *