مشتغل السرد..فرادة الاسلوب التحريرانموذجاً: انفجار بركان الجوع الوشيك
جمال كريم
(3)
في كتابه المرتقب يطيل السارد الرائي التركيز على مرئياته : الأمكنة العامة وفرعياتها،الشخصيات الرئيسة والثانوية،الأحداث الكبرى والصغيرة البسيطة.
وسط كل تلك المنظومات المتشابكة والمعقدة المتصلة يقف ويتحرك، يظهر ويختفي الكاتب والروائي زهير الجزائري داخل متنه السردي السيري للانتفاضة، وحينما أقول يختفي، إنما أعني إختفاء أثره، لكن ليس على كل مساحة وحدات الكتاب السردية الوصفية منها أو السردية الحوارية وإنما في وحدات محورية محددة داخل المبنى العام، وبين محمولاته الاكثر مركزية، الحقيقة يختفي أثره بصفته الموعظية،أوالنصائحية الارشادية، وهنا يختفي لصالح المتلقي وحريته في القراءة والفهم والاستقراء، استقراء الاحداث والامكنة والشخصيات، بل قل تأملها ومعايشة تفاصيلها بإعتباره متلقياً واعياً المعيش ومعادله السردي الاستبصاري، بمختزل العبارة والتعبير كان لايريد له منبراً خطابياً وسط الساحة وجمهورها الغاضب الثائر:
“لكل ذلك أعتبر حركة الشباب ضد الفساد ثورة على الذات بمقدار ما هي ثورة على الفساد بلبوسه المختلفة، ثورة على الاستسلام وعلى القدر. وفي مواجهة الفساد وقفت معهم، لست معلماً ولا أباً، إنما في الخلف، لأني مثلهم تعلمت من أخطائي أكثر مما تعلمت من حكمة العارفين” .
لكن خلافاً لذلك تجده ظاهراً بقوة الابانة والأتضاح بصفته السارد”القصحفي” الناقد المبتسل، فهو،مثلاً،يتعرض الى سلوكيات قيم الاخلاق الثورية لدى الشبيبة في الساحة الثائرة وعلى اختلاف مستوياتهم الاخلاقية والاجتماعية الطبقية،وانتماءاتهم القومية والعرقية الاثنية والدينية،مقابل نقيضها الاخلاقي والوطني المتمثل بمنظومة السلطة السياسية الفاسدة القامعة التي بنيت على مبدأ المحاصصة الحزبية الطائفية الدينية،والعنصرية القومية مدعومة ومؤيدة من سلطة دينية كهنوتية- وهو بهذا العرض والتقديم والمناقضة يعتمد في كل مبتنيات الوحدات والمقاطع السردية لمتن الكتاب على العنصر الرئيس بالدرجة الفضلى من بين العناصر البنيوية الاخرى في النص،وأعني الشخصيات،وهي تتنوع على فريقين،وتتوزع على مكانين،فريق الشبيبة الثائرة ومؤيديه،ومكانه، وهو البؤرة السردية لأحداث الشخصيات،متجسداً في ساحة التحريرببغداد وكل السوح والشوارع في المحافظات الجنوبية والفرات أوسطية من عموم البلاد،فيما يمثل عناصر الفريق الآخر السلطة وكل أجهزتها الأمنية ومعها أذرع الاحزاب الدينية المسلحة،أما مكانه البؤروي الذي يحتمي ويتمترس خلف أجهزته وحماياته المدرعة، فهو المنطقة الخضراء,وبقية الامكنة الحكومية وأجهزتها الامنية وايضاَ الاذرع المسلحة المساعدة ذات الامكنة العلنية المكشوفة منها، والمستورة المخفية.
: “قد يقتحم المتظاهرون المنطقة الخضراء وفيها الحكومة بكاملها والسفارة الأميركية.. كل هذه الشائعات تتردد ببالي وأنا أغالب مخاوفي بمزيد من السرعة والعزم الجسدي. ألتقي مجموعات ذاهبة إلى هناك، لكنني أسير وحدي. خمسة حواجز عسكرية قطعت طريقي. في واحد منها قال لي جندي يعرفني بالاسم :
أخوي أخوي.. دير بالك على نفسك!
قالها وهو يفتشني”.
يدرك الجزائري بحكم مهارته الروائية، وحرفيته الصحافية أن عناصر شخصياته-ذوات واعية لكينونتها الاجتماعية المستقلة الارادة- المتناقضة الى حد التضاد والمواجهة في كل الامكنة الميادين،إنما تتصدر الأهمية على بقية المكونات البنيوية الأخرى للنص،فهي التي تنتج الاحداث، وهي أيضا التي تمنح الامكنة رمزيتها الثورية الوطنية والاخلاقية الأنسانية، والعكس صحيح في نقيضها المواجه المقابل،وهذه العناصر نفسها هي التي تضفي على الاحداث والامكنة التي تتفجر عليها بعداً انسانياً متعاطفاً يلقى القبول والتأييد والانحياز الى جانب المنتفضين الثائرين المطالبين بحقوق العيش الطبيعية، أوالاستياء والرفض والنفور وعدم القبول من جانب السلطة الفاسدة السارقة والجاحدة لتك الحقوق:
“رفعت رأسي فرأيت برجاً من شباب يصعد من الساحة حتى الطابق الأخير من المطعم التركي. شبان لم أتعرف عليهم، كنت أتحاشاهم ، وأخطأت بحقهم، يحاذونني في مسيري أو يقطعون طريقي، شبان وقفوا فوقي ينظرون لهذا الكهل المتعثر الخطوات الحائر وسط دنياهم: ماذا يفعل هنا؟ للحظة واحدة رفعت رأسي وفكرت بأن أكون شاباً مثلهم، للحظة فقط، فوجدت ثلاث أيادٍ ممدودة إلي. قدمت يدي فتلاقفوني بينما كانت يدان ترفعاني من تحت. خلال هذه اللحظة حصلت على ثلاثة ألقاب: حجي وعمي وأستاذ”.
لكن الجزائري لايكتفي بالمرئي من الاحداث، او اللساني من الخطابات أو الأهازيج أوالحوارات في المكان ومحيطه، بل يذهب الى المدونات البحثية الاستقصائية التي تعتمد على حقائق الارقام والاحصاءات الدقيقة،ومصادرها الثقات،وهي في غالبها مدونات تفضح الفساد المستشري داخل البنية السياسية والاقتصادية وحتى الاخلاقية لحكومة فاشلة، سارقة بأمتياز، لم يأت على مثلها تأريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها مطلع عشرينيات القرن الآفل، بل لم يأت على مثلها اقليمياً وحتى عالمياً!!! :
“توزيع المناصب هو توزيع للموارد خصوصاً كما يذكر تقرير لمركز الشرق الأوسط أعده الباحث الدكتور فالح عبد الجبار عن حركات الاحتجاج العراقية وإن وزارات الدولة تتولى تنفيذ مشاريع الاستثمار الحكومي برصيد يتراوح بين ٢٥ الى ٣١٪ من ميزانية عقود مقاولات الدولة كلها ضمن نظام المحاصصة إلى الأحزاب الحاكمة عبر وزاراتها”.
وقد تجده –الجزائري- لايكتفي بالاثنين، أعني الساحة بؤرة الجمهور والاحداث،ولا تلك المدونات الاستقصائية،فيذهب هو نفسه بصفته كاتباً صحفياً،ومشاركاً الجمهور قضيته وأهدافه، فيقوم بدورالسائل، والكاشف الناقد ضمناً،يذهب من دون أن يخشى من مكشوفه المتمثل هذه المرة برجل دين يتخفى ويتستر وراء الرمزي المقدس، يكشف عن ذلك بلغة سردية صحفية، واضحة الدلالة والمفهوم:
“كنت في لقاء بين مجموعة من رجال الدين ونشطاء متظاهرين في مدينة النجف. سألت رجال الدين وكلهم تقريبا متعاطفون مع مطالب المتظاهرين ”لماذا لا تشاركون؟“ فكان جوابهم موحدا تقريبا“ نتبهذل!“ وكانوا محقين، فقد اقترنت العمامة في ذهن الجيل المتظاهر بالفساد”.
لن أقول أكثر مما سيقوله الكتاب السيري للاحداث والشخصيات والامكنة والمواقف التي رافقت وصاحبت الاحتجاجات والتظاهرات منذ انطلاقتها الاولى في العام 2011 والى اللحظة الراهنة المعيشة، من دون إغفال توظيف ذاكرة احداث وانتفاضات سياسية قادها العراقيون في مواجهة حكومات تعاقبت باحكام قبضتها على حرية الشعب وحقوقه في العدالة والمساواة والعيش الانساني السوي، توظيف ليس لذاته، وإنما لتأكيد نمو وفاعلية الوعي السياسي الوطني لدى جيل الشبيبة من الثوار المنتفضين، وتأثيره وقدرته على التغيير في تقويض الحكومة وازاحة شبكة منظوماتها الفاسدة،ليكون أول تغيير وطني تشهده البلاد على مر تأريخها الحديث تقوم به قوى مدنية تنشد الحرية والعدل والمساواة في إطار دولة مدنية عصرية، وهذا ،كما يشي وتبشر به سرديات الكتاب السيرية،ما سيفجره بركان جوع الفقراء الوشيك:
” خلال 35 عاماً من حكم الحزب الواحد والفرد الواحد أعيد تشكيل التظاهرة اعتماداً على علاقة القائد بالرعية. صارت مهمة الحزب أن يجمع الجمهور من قراه ومعامله ومدارسة ودوائره و يزجه بالشاحنات و يصفّه ويلقنه الهتاف ( بالروح ، بالدم نفديك …) ليمر أمام منصة التحية “لتجديد البيعة للقائد“ في عيد ميلاده أو ميلاد حزبه الأوحد.
للاحتجاج أو للمبايعة كان شكل التظاهرة التقليدي يشبه الطابور العسكري في نسقه، والطابور كخط مستقيم هو أول تنظيم هندسي للانضباط والطاعة. في الـخامـس والعشـريـن كسر المـتظاهـرون الشكل التقليدي لـلتظاهـرة ، كسروه في العمر الـسائـد و أسلوب الاتصال ، تعدد الأهداف ، وفي مبدأ القيادة والانضباط ، كسروه في هـندسـة التظاهـرة .. كل ذلك لسبب أسـاسـي ، هو أن الـتظاهـرة لم تكن حــــصيلة قــــرارات حــــزب أو أحــــزاب، إنــــما حــــصيلة جــــدل بــــين شــــبان لا يــــعرفــــون بعضهم ، تحاوروا كما كل حركات الربيع العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت التظاهرة نتاجا لهذا الجدل . وسيلة الاتصال الحديثة التي جمعتهم لن تحدث قطيعة كلية مع الماضي، فالكل عرفوا عن طريق الفيس بوك، لكنهم هبوا للمخاطر كأبناء عشيرة أو محلة، ونادرا ما جاءوا كنقابات إذا استثنينا الطلبة الذين يجمعهم مكان واحد هو المدرسة. أغلب المـتظاهـريـن تقل أعـمارهـم عن الـ30 يشكلون أكثر مـــن 70 % مـــن ســـكان الـــعراق ، فـــي حـــين أن حـــصتهم فـــي الـــقرار وتـــشكيل المشهـــد السياسي تــــقل عــــن 2%. بــــينهم وبــــين الســــلطات جــــدران مــــن الــــعزلــــة والــــغربــــة والــحوار المــفقود. لــم يــعرف هــذا الــجيل المــشاركــة الحــزبــية، ولــم يــعرف الــطاعــة، لــم يـوجـههم لـلتظاهـر حزب أو قـائـد كـاريـزمـوي، إنما خـرجـوا بقرارات فـرديـة نـابـعة من إحساس فردي بـالـضيم” .
*كتبت الحلقات الثلاث عن الكتاب الذي سيرى النور قريباً إدامة للتحريرالثورة واستذكارا لكل دمائها الطاهرة…