مصحّة الدمى – فوتوغرام حكائي

أنيس الرافعي

تتضمن مجموعة “مصحّة الدمى” سبع حكايات لدُمى يبثّ فيها القاص أنيس الرافعي الحياة، ويخترع لها تاريخًا، ويبني لها عالمًا من الأحلام والآلام، ويدوّن سِيَرها وتقاطعها مع سير أصحابها.
ويؤالف الرافعي بين الكلمة والصورة في كتابه الذي أدرجه تحت تصنيف “فوتوغرام-حكائي”، موثّقًا لتاريخ الدمى منذ اختراع الدمية وحتى تطورها وتحولها إلى سلعة عالمية مؤثرة، رغم ما قد تبدو عليه من هامشية.
ويستعين الكاتب بمفردات وتعابير من قاموسَي التصوير والطب وهو يعاين العلاقة الجدلية بين الإنسان والدمية. وفي الأثناء، يختار صورًا لفنانين ومصورين من الشرق والغرب، ليؤكد أن النظرة الإنسانية متشابهة، وأن بث الروح في الدمية والصورة يعيد تجديد التاريخ، وكأن ترميم الدمى
المعطوبة والمشوهة هو ترميم للزمن وتخفيف من آثاره.
كتب القاص والروائي المصري محمد عبد النبي على الغلاف الأخير للمجموعة التي صدرت طبعتها الثانية عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع: “يتخذ الرافعي الدُّمى منطلقًا لرحلة عجيبة؛ تاريخ الدّمى ونوادرها وصورها الفوتوغرافيّة، ثم تجلياتها السرديّة كتمثيلٍ للإنسان في هيئته الجسديّة المادية الخرساء، وفي كشفها لرغبة الخلق والتدمير، والتأرجح ما بين خيوط الوصل وانقطاع العزلة والخرس والصراخ الحبيس في الخزائن والكوابيس”.
وأضاف أن الرافعي في مجموعته هذه، يؤكد أنه “ما يزال مُعْرِضًا في كبرياء عن سهولة الاستهلاك والشيوع والمقاصد القريبة للقص الطيب، وما يزال يستطيع أن يطبع بصمته في كلّ جولة قصصية، ويحصد الاحتفاء النقديّ الذي صيّره (شيخ طريقة) بتعبير محمود الريماوي”.

 

 

من الكتاب : الدمية العازفة 

أشرفت على عملية إصعاد البيانو ، بما تتطلّبه من كياسة وانتباه ، إلى شقّتي بالطابق السابع للعمارة ، متعمّدا بنية مبيّتة أن أخلّف الدّمية المأفونة في سيارة الشحن بغرض التخلّص منها ، غير أن أحد الحمّالين – جازاه الله – تفضّل بجلبها إليّ . وقبل أن أنال قسطا مستحقا من الراحة ، عمدت إلى إعادة تنضيد طنافس الصالون كي تخلو لي مساحة مناسبة لوضع البيانو في الركن الأيمن المقابل للشرفة ، كما جعلت الدمية تغرب عن ناظري بإخفائها داخل حقيبة سفر كبيرة الحجم ، ثم طمرتهما سويّا في جوف خزانة الثياب . أيضا ، أخرجت كراسا للنوتات احتفظت به من أيام المعهد الموسيقي ، ووددت أن أداعب المفاتيح بواحدة من مقطوعات « رحمانينوف » ، التي أحدس أنها مازالت عالقة بذاكرة أناملي ، لكن الحالة التقنيّة السيئة التي كان عليها البيانو ، أملت إرجاء هذه الأمنية إلى حين إصلاح الأعطاب وتسوية الأوتار . في تلك الليلة ، وبخلاف ما درجت عليه ، لم أدوّن من فرط الإرهاق أي اسم في السّجل ، وتمددت كمضروب بالعصي على فراشي ، مستعدا بكل تعبي للشروع في الانزلاق رويدا فرويدا إلى بلاد النعاس السعيدة . ومن عمق منطقة التذبذب بين الإغفاءة والاستفاقة ، انسكب فجأة في مسمعي قطرﹸ نغم مستقطع كان يعلو ويخبو . فساورتني لحظتئذ شكوك بكوني أحلم فحسب ، بيد أن استقواء نبر النغم واختراقاته المتواصلة لدفاعات سكينتي ، عجلّ بنهوضي لكسر لغز هذا الصوت وإيقاف تصبّبه بأيّ ثمن . هل نهضت فعلا ؟ أم لم أبارح بعد سريري ؟ ربّما ، مازلت أتقلّب بين الأغطية ، وذاك على الأرجح جسدي الثاني من أيقظه قطرﹸ نغم ، فسبقني إلى النهوض لكسر لغز الصوت وإيقاف تصبّبه بأي ثمن . كنت ( أنا أو ذاك ) الذي دأب على تقليد هيئتي ، من سار مجيلا الظنون على امتداد الرواق . ( أنا أو ذاك ) من تيّقن بأنني لم أغفل إغلاق الراديو أو التلفاز . ( أنا أو ذاك ) من كتم أنفاسه و أسقط في يده من الرعب ، حينما تخطّى الصالون وحفر المسافة والسّواد الوافر بنظره إلى الركن الأيمن المقابل للشرفة . ( أنا أو ذاك ) من بقيّ بلا حراك يرنو إلى الدمية مائلة على البيانو وهي تعزف موسيقى بارعة وبديعة كأنها رعشات في الرخام ( للأسف ، فلا يمكن وصف الموسيقى الرائعة بكلمات..بمجرد كلمات ! ). أيعقل هذا ! فالدمية كليلة ، والمفاتيح مرتخية . لكن متى احتاج العازف إلى عينين أو أداة ؟! العازف يكفيه أن يسافر داخل روحه ، ولما يصل إلى مكان قصّي ، ينبري وقتئذ إلى العزف بالأصابع المضفورة على قلبه !. كنت ( أنا أو ذاك ) من قال هذا في خاطره .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *