مصحّة الدمى – فوتوغرام حكائي
أنيس الرافعي
من الكتاب : الدمية العازفة
أشرفت على عملية إصعاد البيانو ، بما تتطلّبه من كياسة وانتباه ، إلى شقّتي بالطابق السابع للعمارة ، متعمّدا بنية مبيّتة أن أخلّف الدّمية المأفونة في سيارة الشحن بغرض التخلّص منها ، غير أن أحد الحمّالين – جازاه الله – تفضّل بجلبها إليّ . وقبل أن أنال قسطا مستحقا من الراحة ، عمدت إلى إعادة تنضيد طنافس الصالون كي تخلو لي مساحة مناسبة لوضع البيانو في الركن الأيمن المقابل للشرفة ، كما جعلت الدمية تغرب عن ناظري بإخفائها داخل حقيبة سفر كبيرة الحجم ، ثم طمرتهما سويّا في جوف خزانة الثياب . أيضا ، أخرجت كراسا للنوتات احتفظت به من أيام المعهد الموسيقي ، ووددت أن أداعب المفاتيح بواحدة من مقطوعات « رحمانينوف » ، التي أحدس أنها مازالت عالقة بذاكرة أناملي ، لكن الحالة التقنيّة السيئة التي كان عليها البيانو ، أملت إرجاء هذه الأمنية إلى حين إصلاح الأعطاب وتسوية الأوتار . في تلك الليلة ، وبخلاف ما درجت عليه ، لم أدوّن من فرط الإرهاق أي اسم في السّجل ، وتمددت كمضروب بالعصي على فراشي ، مستعدا بكل تعبي للشروع في الانزلاق رويدا فرويدا إلى بلاد النعاس السعيدة . ومن عمق منطقة التذبذب بين الإغفاءة والاستفاقة ، انسكب فجأة في مسمعي قطرﹸ نغم مستقطع كان يعلو ويخبو . فساورتني لحظتئذ شكوك بكوني أحلم فحسب ، بيد أن استقواء نبر النغم واختراقاته المتواصلة لدفاعات سكينتي ، عجلّ بنهوضي لكسر لغز هذا الصوت وإيقاف تصبّبه بأيّ ثمن . هل نهضت فعلا ؟ أم لم أبارح بعد سريري ؟ ربّما ، مازلت أتقلّب بين الأغطية ، وذاك على الأرجح جسدي الثاني من أيقظه قطرﹸ نغم ، فسبقني إلى النهوض لكسر لغز الصوت وإيقاف تصبّبه بأي ثمن . كنت ( أنا أو ذاك ) الذي دأب على تقليد هيئتي ، من سار مجيلا الظنون على امتداد الرواق . ( أنا أو ذاك ) من تيّقن بأنني لم أغفل إغلاق الراديو أو التلفاز . ( أنا أو ذاك ) من كتم أنفاسه و أسقط في يده من الرعب ، حينما تخطّى الصالون وحفر المسافة والسّواد الوافر بنظره إلى الركن الأيمن المقابل للشرفة . ( أنا أو ذاك ) من بقيّ بلا حراك يرنو إلى الدمية مائلة على البيانو وهي تعزف موسيقى بارعة وبديعة كأنها رعشات في الرخام ( للأسف ، فلا يمكن وصف الموسيقى الرائعة بكلمات..بمجرد كلمات ! ). أيعقل هذا ! فالدمية كليلة ، والمفاتيح مرتخية . لكن متى احتاج العازف إلى عينين أو أداة ؟! العازف يكفيه أن يسافر داخل روحه ، ولما يصل إلى مكان قصّي ، ينبري وقتئذ إلى العزف بالأصابع المضفورة على قلبه !. كنت ( أنا أو ذاك ) من قال هذا في خاطره .