لا قيمة للشعر إن لم يكن مغايرا ومغامرا

الشاعر المصري: هشام محمود

شهدت القصيدة العربية تطورات كبيرة جماليا وموضوعيا، وأصبح اشتغال الشاعر على اللغة والرمز والصورة والسرد والتشكيل أمرا لا تخطئه عين القارئ المتأمل لما آلت إليه الشعرية الجديدة، ورغم أن تحديات التجديد والعصرنة تحديات لها منطقيتها وضروريتها عموما، وفي الفن والكتابة خصوصا، إلا أن الخطاب الماضوي ما يزال يحاول أن يسيطر على المشهد كالعادة، ويتصور أصحابه أنهم ينافحون عن تقاليد القصيدة العربية، متناسين أن أهمية الفن تكمن في أن يشق طرقا جديدة، لا أن يسير في طرق سبق أن مضى فيها الآخرون، وأتصور أن نهر الإبداع الحقيقي لا يحفل إلا بالتجارب المختلفة التي تحمل من الجدة والحداثة ما يبقيها في ذاكرة الإبداع الإنساني، ويبدو “أبو نواس” مثالا صارخا للشاعر الذي ضاق بتقاليد رآها غير مناسبة لشاعريته، فيما يعد درسا ما أحوج سدنة القديم إلى استيعابه، لقد ضاق ذرعا بأن يكتب حياة لم يعشها، فيبكي ويستبكي، ويقف ويستوقف على الأطلال، في حين أنه يعيش في بيئة بعد عهدها عن عهود الأطلال ومن يبكونها، ويسخر أبو نواس، ويناقش مناقشة عقلية، كما يطرح بديله الجمالي الذي يخصه، هو درس قديم يعيد نفسه اليوم، على يد من يدعون امتلاك ناصية الفن، لمجرد أنهم يكتبون ما يستلب جمهورا متوهما، باتت بينه وبين الشعر مسافة شاسعة، وقد يتصور شعراء الخطاب السلفي الماضوي ممن يركنون إلى الخطابية والمنبرية، ولم يصلوا بكتابتهم إلى مستو فني مقبول، أن هذا الخطاب ما زال قادرا على أن يجتذب جمهورا ما لهذه الكتابة، وفي الحقيقة هو يجتذب فقط جمهورا لم يعد الشعر أصلا في دائرة اهتمامه، وبات الأمر يمثل نوعا من الابتذال والرخص، ولست مع من يلخصون القضية في مسألة الشكل الشعري فحسب، رغم كونه مجالا تتحرك فيه الفكرة، ووعاء لها، وربما نستطيع القول إن الشكل جزء مهم من سؤال التجديد، فقد كان الشكل الخليلي البيتي ملائما لشاعر ما، في عصر ما، وأبدعت الشعرية العربية في استغلال هذا الشكل على مدى قرون طويلة، وبات التحدي على شعراء اليوم ممن يزعمون أن هذا هو الشعر وكفى، أن يقدموا جديدا يخصهم عبر هذا الشكل، لا أن يعيدوا إنتاج ما سبق بتهافت وترخص واضحين، وإلا فالخروج عنه وعليه أمر ضروري ولازم، مع أهمية ألا يحول هذا دون فهم إمكانيات الإيقاع بمختلف أشكاله، في النص الشعري، وأن مفهوم الإيقاع أوسع وأهم من أن يختزل في الوزن.

أما من ناحية المضمون، فلا خلاف على أن القصيدة الراهنة ذهبت مذاهب شتى، فكرا وفلسفة وتاريخا، وامتدت تقاطعاتها فوق هذا إلى سائر الفنون والعلوم، ولم تعد مجالا للتطريب وتشنيف الآذان، ومحاولة اللعب على الفجوة الحاصلة بين الإبداع والتلقي عموما، ومردها إلى مشكلات كثيرة، منها التعليم ومناهجه، ووسائل الإعلام ووضع الشعر فيها، إضافة إلى مشكلات مجتمعية وفكرية وسياسية، وضعت حوائط سميكة بين المتلقي وكل ما هو ثقافي، على نحو لا يمكن أن يتحمله الشعر ولا الشاعر، مهما ردد بعض النقاد الكذبة، من أن زمن الشعر قد انتهى، فالشعر الحقيقي الجميل والمختلف باق ببقاء الحياة، وهو أبقى من تلك الكتابات المتهافتة التي يصفق لها جمهور لا علاقة له بالشعر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *