التلفيق المرضي (Pathological falsification):

الدكتور العراقيّ: حميد يونس

التلفيق المرضي (Pathological falsification):

الدكتور العراقيّ: حميد يونس

 

عندما جاءت إلى استشارية في مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية، كانت المريضة تعاني من أعراض لا حصر لها: وقالت أنها تعاني من اضطراب النوم والاكتئاب، لكنها شكت أنها تفقد الذاكرة بعض الأحيان لأحداث بعينها: وعندما تخرج في النهار  تهيم ولا تدري من تكون؟ ولا إلى أين تذهب؟

ثم ذكرت أن الأعراض بدأت بعد أن توفى زوجها في انفجار الكرادة، وكانت تشرح أدق أدق التفاصيل… هكذا تدهورت حالتها، ولم تذق طعم النوم. وقالت أن أهلها ميسورين الحال يسكنون في الجادرية، وأنها لا تطلب إلا أن تدخل في المستشفى وترتاح يومين لا أكثر!

قدمت هذه السيدة بصحبة امرأة كبيرة السنّ، وبالصدفة سألنا العجوز عن حالة المريضة، فقالت أنهما من مدينة الصدر، وهذه البنت غير متزوجة أصلاً! وأنها تعاني منذ الطفولة من اعتلال في الشخصية: فتراها متقلبة المزاج، غريبة الأطوار، وكثيراً ما تقوم بتشريح يديها. كذلك ذكرت أنها ترسم قصصاً غريبة عن حالتها، ودائماً ما تخترع سيناريوات تفترض أنها ممثلة أو أجنبية أو عاهرة، وبأسماء مختلفة وخيال جبار. وهكذا اخترعت آخر سيناريو وقالت أنها أرملة أحد ضحايا انفجار الكرادة…!

في الواقع أننا أدخلناها إلى المستشفى لأغراض تعليمية، ووجدنا بعد ثلاثة أيام أنها اخترعت قصة أخرى وقالت أن أحد المنتسبين قد طلب يدها للزواج..!

ينطوي تحت مصطلح «التلفيق المرضي» حالات كثيرة، سنتناولها تباعاً، إلا إن الحالة التي شرحتها تدعى Pseudologia Fantastica أو الكذب المرضي Pathological Lying، وتمتاز بالسمات التالية:

  1. تلفيق مفرط ومبالغ به للقصص الخيالية، بدون سبب أو غرض أو فائدة مستحصلة.
  2. يحاول المريض أن يبتكر هويّة جديدة وملفقة في كلّ مرة يُسأل عن حالته رغم أن السيناريوات لا تمتّ للمريض بأي صلة.
  3. يُشعرك المريض أنه منغمس في السيناريو، بحيث يؤمن أن هذه القصة هي حياته وأن الأحداث قد اختبرها كلها وبالتفاصيل.
  4. يبقى الكذب ميزة محورية وثابتة في حياة المريض، وقد تتجذر هذه الأكاذيب مع العمر وتحلّ محلّ الذكريات الحقيقية.

يتعرض جميع الأطباء لمقابلة مرضى كذّابين مدعّين. نعم، لا شكّ أن الحالات ليست درامية مثل “الآنسة”، لكن لابدّ أن نُبقي مسألة التلفيق المرضي في الحسبان دائماً.

البعض يُلفّق الأمراض لغرض إجازة، أو تعويض، أو التهرّب من مشكلة، ونطلق عليهم بالمتمارضين Malingerers، والبعض يدعّي المرض لغرض عيش دور المريض فقط Factitious، أو أن يلفق مرض في الآخرين مثل الأمهات التي تلفق مرض في أطفالهن (كأن تشرّب طفلها النفط مثلاً) Factitious by proxy. وهناك ما يطلق عليه الاختلاق Confabulation ونجدها في مراحل الخرف المبكرة يقوم بها المريض كي يدرأ الحراجة التي تسببها له فقدان الذاكرة.

عادة نكتشف هذه الحالات عرضاً من تناقض التاريخ المرضي، أو خلال استبيان الكذب

 Lie Detection في اختبار MMPI، أو باستخدام الرنين الدماغي الوظيفي fMRI (وهذا ما لا يتوفر في العراق للأسف)، ويكون فيه الفص الأمامي prefrontal cortex أكثر فعالية من بقية المناطق أثناء الكذب.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *