كوستا غافراس ….وعي الازمة الإنسانية سينمائيا

علي عبدالامير عجام

قد لا تتمكن المصائر الفردية بكل ما تحتويه من ابعاد اجتماعية شمولية، ان تظهر عمق أزمة جماعية او تعبر عن معطياتها بشكل جلي، هذا على مستوى الواقعة المجردة، لكن ذلك قد لا يصبح دقيقا في تفاصيل العملية الفنية الخلاقة حين تجد في ذلك المدخل قوة للكشف عن واقع ما، وفي السينما بالذات نجد إمكانية هائلة للتعبير عن المجموع بقراءة واقعة فردية او رؤية فترة تاريخية معاصرة عبر استقراء خفايا حادثة فردية، لما للسينما من قدرة للتكثيف والتجسيد واختزال الامتداد الزمني واعطاء الرموز قدرة ونفوذا في التعبير عن حالات تتطلب الاسهاب حين تعرضها الانواع والانشطة الذهنية والفكرية الاخرى

ان مقدمة كهذه تحيلنا لاعمال المخرج  كوستا غافراس اليوناني المولد ( اثينا – 1933 ) من أب روسي وأم يونانية، الفرنسي الجنسية، ونختار هنا اربعة افلام تتوافق مع استنتاج المقدمة، والافلام هيزد – 1968 “, ” حالة حصار – 1972 “, “المفقود – 1982″ وهانا   ك – 1984 ” الذي عرض في بغداد خلال شهر تموز 1986. فالاعمال الاربعة اعتمدت حوادث فردية للكشف عن ازمة اجتماعية شاملة، ففي فلمزد “.

نجد ان حادثة اغتيال النائب البرلماني اليوناني ( لامبراكيس ) في عام 1963 والتي امعن الفلم في اظهار تفاصيلها، قد اظهرت جوهر وضع سلطة حاكمة بكامل مؤسساتها وطبيعة الظرف الاجتماعي للبلاد، كما ان المخرج غافراس في فلمه التاليحالة حصارينقلها الى اجواء الصراع والديكتاتوريات الحاكمة في بلدان امريكا اللاتينية عبر حادثة تقع لوزير خارجية احد تلك البلدان.

اما قوة الحادثة الفردية وقدرتها في التعبير عن صدق واقع بأكمله، فذلك يتجسد عبر فلم  غافراس المهمالمفقودالذي حاز به على جائزة مهرجان كان – 83 مناصفة مع فلم المخرج التركي يلماز غوني الذي حمل عنوانيولالطريق، وتعتمد قصة الفلم ومحور احداثه على قضية الصحفي الاميركي ( شارل هورمان ) الذي قتل اثناء تغطيته لوقائع الإنقلاب العسكري الذي اطاح بالرئيس الشيلي سلفادور الليندي في العام 1973، حيث قام والد هذا الصحفي وهو ادمون هورمان ( جاك ليمون ) ويعمل رساما، برفع قضية اختفاء ولده الى القضاء، وقام بجمع الحقائق في ملف كامل، المحامي توماس هوسر. وسيناريو الفلم اعتمد ذلك الملف مادة له، وفيه الكثير من المعلومات ليس عن ظرف اختفاء الصحفي حسب، بل وقائع تكشف وتدين الانقلاب، لكن ( غافراس ) بدأ هنا في استبدال لغته السينمائية تماما فهو لم يشر مباشرة ولم يسم احدا، بل اكتفى باللمحة القوية المؤثرة، فلم نجد هنا تلك الحركة والغموض البوليسي، وتلك خصائص افلامه الاولى، وتصاعدت بدلا عنها ايماءات زاخرة بالحيوية ورموز مبهرة ( الفرس البيضاء المنطلقة في شوارع سانتياغو المقفرة ) لكنه في الوقت ذاته، يكشف للمشاهد اثناء بحث زوجة الصحفي،  بت ( سيسي سباسيك ) عن زوجها ( المفقود )، عن هول المجزرة وما تعرضت له من قيود وصلت للاعتقال لمجرد انها كانت تسأل عن زوجها، على الرغم من كونها اميركية وذلك يوفر لها ميزة خاصة

المخرج غافراس كان هو الآخر ممتازا في صنع مشاهد القدس، على الرغم من بعض الاطالة والجو السياحي الذي اتسمت به بعض المشاهد غير ان جمالية التعبير العالية في موسيقى الفيلم التي وضعها ( غبريال ياريد ) صاحب الموسيقى التصويرية لفيلم يوسف شاهينوداعا بونابرتوالتي اعتمد في تنفيذها على الايقاعات العربية والتراتيل واصوات الآذان، منحت تلك المشاهد حيويتها وجمالها الرفيع ومشاعر الحنين الناعمة، ويظل ذلك الفيض من الضوء الساطع الذي التقطته الكاميرا في اسواق القدس القديمة وظلال الناس والاشياء وضباب الفجر في المشهد الاول، ولمعان الذهب في قبة المسجد الاقصى، ترانيم تتلاعب بمشاعرنا وتمتلكها دون تردد

المفقودنجح في كل صالات العرض، حقق غرضه في الكشف عن مأساة شاملة، لكنه اظهر لاحقا وعبر ذلك النجاح ازدواجية كبيرة ولا حيادية في موقف الاعلام والمؤسسات الثقافية في الغرب عموما، حيث قوبل فلم غافراس التاليهاناكبصمت مطبق ان لم نقل بالمحاربة، على الرغم من كون فلمالمفقودكان اكثر جرأة في قول الحقائق وبلغة اكثر فصاحة وبرؤية دقيقة لم تتوفر بذات الوقائع فيهاناكوحين نتيقن السبب، يبطل عجبنا فالفلم يتحدث عن القضية الفلسطينية وتلك لوحدها تحدث في اوساط الغرب السياسية والثقافية الكثير من الفزع؟ وذات الحقائق التي قبلت من غافراس فيالمفقودلم تقبل منه هذه المرة بل انه وصف باشد اللعنات، كيف لا ؟! وهو يشير ويسلط الضوء علىجوانبمن الحقيقة، حقيقة البناء العنصري الاسرائيلي ، وكانت خير وسيلة للنيل منه هي في ضرب هذا الحصار من الصمت المطبق حول الفلم ومحاربته باشنع الوسائل، واتهم المخرج بالتهمة الجاهزةاللاسامية، وحينها وجد المخرج ومنتجة الفلم،ميشيل راي غافراس وهي زوجة المخرج، نفسيهما في وسط ملغوم بالافتراء !

هاناكهو اسم المحامية ( هانا كونمان )، اليهودية النازحة لارضالميعادالمتزوجة من الفرنسي فيكتور ( جين يان ) والتي تتركه على اثر خلاف وتجد مع رفيقها هنا قاضي التحقيق جوشوا ( جبريال بيرني ) عبر صداقة وطفل غير شرعي منه، ما يحقق امنياتهاالوهمبعسل عودتها لارض الميعاد التاريخي، غير ان وقائع كهذه ما تلبث ان تتفكك شيئا فشيئا مع ظهور الفلسطيني ( محمد بكري ) الذي يعثر عليه متخفيا في بئر احد البيوت الفلسطينية وهو يبدأ رحلة العودة لارضه بطريقة يعتبرها الاسرائيليونلا شرعية“. المخرج مع بداية كهذه لا ينسى ان يظهر حقيقة جنود الاحتلال، اذ يفجرون البيت مع اول خيوط الفجر المنسجمة مع آصوات الآذان!.

تكلف المحكمة العسكرية، المحامية ( كوفمان ) بالدفاع عن المتهم الفلسطيني التي تستغرب من هيئة المحكمة في تأكيدها على كون موكلهامخرباوهو الاعزل من كل سلاح، ومن هنا يبدأ الشرخ في وعي كوفمان، وذلك ما يلبث ان يتعمق ويصبح شكوكا في حقيقة وجود اسرائيل حين يعود الفلسطيني ثانية لارضه ويطلب منها ( بكري ) الدفاع عنه هذه المرة. و غافراس المخرج وكاتب السيناريو ( فرانكو ساليناس ) اظهرا الفلسطيني بوعي يجد فيه المشاهد الغربي سمة متحضرة وطريقة عقلانية في مناقشة الامور، إذ اظهرا الهدوء في شخصيته، تعامله برصانة مع وقائع حياته عبر استخدامه الوثائق التي تؤكد عائدية بيته في ( كفر رمانة ) ولكناين كفر رمانة هذه ؟الجندي الاسرائيلي وبحدة ينصح المحامية حين تسأله عن القرية باستعمال خارطة جديدةوقائع مزيفة جديدة، فالقرية اصبح اسمها ( كفر ريمون ) هكذا اذن اصبحت القرية الفلسطينية مستعمرة لا أثر فيها غير بيت عائلة الفلسطيني المتهم بالتخريب، والذي اصبحمتحفالوجاهة تظهر عليه، وذلك الراعي الذي يقود قطيع اوهامه في اطراف القرية وهو يصيح : هنا، هنا كفر رمانة. ان هذا المشهد وبجمالية تنفيذه العالية يحيلنا الى نص الشاعر الفلسطيني محمود درويش المنشور في مجلةاليوم السابعفي متن الرسالة الموجهة منه الى صديقه الشاعر سميح القاسم، وذلك النص قريب في تفاصيله لذلك المشهد، يقول الشاعر : حين مارست طقس الحج الاول الى قريتي ( البروة ) لم اجد منها غير شجرة الخروب والكنيسة المهجورة، وراعي أبقار لا يتكلم العربية الواضحة ولا العبرية الجارحة : من انت يا سيد ؟ فأجاب : انا من كيبوتس ( يسعور ) قلت اين كيبوتس ( يسعور ) ؟ قال: هنا، قلت هنا : البروة .

قال : ولكنني لا ارى شيئا ولا حتى حجارة، قلت : وهذه الكنيسةألا تراها ؟ قال : هذه ليست كنيسة، هذا اصطبل للابقار، هذه بعض آثار رومانية ويستدرك الشاعر موجها الحديث لصديقه، لاحظ المعاني العكسية، الانقلابية، الاستبدادية للكلمات، نحن في احسن الاحوال حراس آثار رومانية !!                                                                    

في دلالة النص اعلاه نجد مقاربة في حوار الفيلم حين تسأل المحامية واحدة من نساء المستعمرة عن الذي بناها، فتخبرها نحن سكنة المنطقة، لكن بيت الفلسطيني ووثائق عائديته ونسخة الصورة الموجودة مع تلك الوثائق والاصل المعلق على جدار البيت وصوت ذلك الراعي العربي والاشجار الوفيرة قديمة الانبات، توفر عند المحامية قناعة كاملة مناقضة لكل ما تقوله ألسنة الكذب في المستعمرة !                                      

ان قناعات كهذه تتصاعد بهدوء وبانتقالات كاميرا مدير التصوير الايطالي ( ريكاردو ارونوفيش ) التي تصاعدت هنا ازمتها بين البحث عن الجمالي المجرد في مكونات المشهد وتسجيلها للوقائع، لكنها ناقشت المكان بهدوء بالغ مما وفر فرصة اعتبرها البعض شيئا من التخلي عن الجرأة التي عرف بها غافراس حين يتصدى لقضية تحمل في طياتها ازمة اجتماعية، لكن ما فعله الفيلم يبقى مهما على الرغم من اختلاطات وعي كاتب السيناريو والمخرج، حيث حصد الفيلم هجوما اعلاميا معاديا في الغرب بتأثير من لوبيات اسرائيلية

وذلك يعكس عمق محاولته في تغيير صورة الفلسطيني، كما ان تطور الاحداث في الجزء الاخير من الفيلم اعطى التفاصيل للمشهد الحقيقي لواقع الاحتلال: غلاة الاسرائيليين لا يترددون عن تهديد المحامية لانها تعرض حقيقة الشاب الفلسطيني العائد، الذعر من عملية فدائية وهو يقطع ايقاع الحياة في كل شيء، الضغط المتواصل من هيئة المحكمة على المحامية لترك الموضوع نهائيا لان نجاحها يعني ان الملايين الفلسطينية ستمتلك الحق منطقيا في العودة لبلادها المحكومة وفق منطق الاحتلال الاستعماري لا بأوهام العودة التاريخية كما تراها المحامية في ايام وجودها الاولى هناك.

جيل كلايبورغ، الممثلة الامريكية وبطلةهاناكوبعطرهاالخفي الذي يتحسسه الفلسطيني ( محمد بكري ) وهي تراقبه عن بعد توقعا منها، قيامه بعملياتتخريبية،  تبدع في تجسيد شخصية المحامية، وفي مشهد طردها للعشيق والزوج وحتى الطفل الصغير حين يتم اتهام الفلسطيني بمسؤوليته عن ( عملية تفجير )،و حمل لنا ذلك المشهد براءة تحاول الوصول اليها عبر التخلص من كل تلك القذارات والاوهام التي خاضت فيها !

المخرج غافراس كان هو الآخر ممتازا في صنع مشاهد القدس، على الرغم من بعض الاطالة والجو السياحي الذي اتسمت به بعض المشاهد غير ان جمالية التعبير العالية في موسيقى الفيلم التي وضعها ( غبريال ياريد ) صاحب الموسيقى التصويرية لفيلم يوسف شاهينوداعا بونابرتوالتي اعتمد في تنفيذها على الايقاعات العربية والتراتيل واصوات الآذان، منحت تلك المشاهد حيويتها وجمالها الرفيع ومشاعر الحنين الناعمة، ويظل ذلك الفيض من الضوء الساطع الذي التقطته الكاميرا في اسواق القدس القديمة وظلال الناس والاشياء وضباب الفجر في المشهد الاول، ولمعان الذهب في قبة المسجد الاقصى، ترانيم تتلاعب بمشاعرنا وتمتلكها دون تردد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *