مشتغل السرد..فرادة الاسلوب || ساحة التحرير انموذجاً

جمال كريم

2- الجسر لمين؟؟
لايكتفي السارد الرائي بما يتناقله الناطق المسموع، ولا يقطع بالخطاب المنقول،مثلما هو لم يكن كما رأى افلاطون:”كما تكون طبائع الشخص يكون اسلوبه”.فالطبائع لديه رائية ومنفعلة متفاعلة،لكنها ليست بانية مؤسسة.وأعني طبائع السارد الآنوية.بمختصر المعنى ومفيده أنه لم يخضع لطبائعه بقدر ما يخضع لطبائع المكان ومنفجر الاحداث، وغضبات الجمهور الثائر.السارد الرائي يفاجئ المكان الساحة،والجمهور/الانتفاضة بحضوره في كل مرة،كسارد راءٍ، ومشاركٍ مؤيد فاعل. يجيء اليهما-المكان والجمهور- من مهجره أومنساه او من اية مدينة قصية غيرهما،أو من مضتطافه في بغداد.بمعنى أبلغ، لايريد أن يعول على المبتنى السردي،كما سيبدو وينجلي، لحدث -ليس كغيره من احداث البلاد- على الرؤية من خارج المكان، بل ستجده في صميم بؤرته العامة وبين متفرعاتها من الامكنة المتصلة،وبهذا يكون في قلب الاحداث وجزءاً حتى من جمهورها، والشاهد الرائي عليها، أي أنه لا يعتمد على استيراد خامات سردياته من أي ملتسن قريب او بعيد اليه،بل يأتي اليها-الساحة والجمهور والاحداث- بنفسه.
“في شبابي كنت أمر على هذه الساحة آتيا من بارات (أبي نواس). في هذه النقطة بالتحديد يقفز أمامي دائما مصور الساحة فيشتعل الفلاش بوجهي مثل فضيحة. أختفى ذلك المصور. لا أحد يريد ان يكرر صورته حين يكون المكان هو نفسه وما من حدث يستحق التسجيل. التاريخ الآن يتغير أمام أعيننا. البرج. الذي كان عام ٢٠١١ مركزاً لعمليات السلطة تغير معناه بدون أن يتغير معماره. صار مركزًا لثوار التحرير، مكان احتفال دائم تلوح منه الأعلام وتنفجر منه الألعاب النارية. نأخذ صورة أمامه .النصب لم يعد مكاناً ننظر اليه ونمضي، إنما اكتسب معنى مضاعفًا بعد أن صار مركزًا للتظاهر. ناخذ صورة تحته.الجسر لم يعد قوساً يأخذ معناه من النهر الذي يمر تحته، هناك معانٍ متجددة فوقه حيث نقطة التماس بين رجال السلطة والمتظاهرين ضدها. ندير ظهرنا لفوهات البنادق ونأخذ صورة للحظة الموت الوشيك. تغير الزمن وإيقاعه الآن في الساحة”.
يحفر الكاتب والروائي زهير الجزائري في كل وحدة سردية هنا في ذاكرة المكان وتحولاته والزمن الذي مشى عليه وعلى أحداثه وشخصياته،فالساحة ما عادت مكاناً للفوتغرافيا ،الساحة اليوم تخلت وتنازلت عن رمزيتها الكمالية للصورة كما مشى عليها الجزائري ليلتعامئذ،بمعنى أن معاني ودلالات منحوتات المكان بزمن ماشٍ راهن الآن -ملحمة نصب جواد سليم- لم تعد مجرد قطع صامتة داخل اطارها الرخامي المعلق،بل كأنها نزلت بين الجمهوروصارت جزءاً منه، لتمده بزخم ثوري مدوٍ على مساحة الوطن.
والزمن حتى الزمن الذي مشى على “المطعم التركي”منذ ثمانينيات تأسيسه بوظيفته مطعماً،ومشى عليه في ظل النظام القائم بوظيفته مركزاً أمنياً ترقبياً قامعاً للسطة،هو يمشي عليه اليوم مركزاً للثوار.والجسر،حتى الجسر الممر الواصل بين صوبين تحول في زمنه الماشي الآن الى -صوب للسلطة القامعة،وصوب للشبيبة الثائرة- تحول متنازلاً عن وظيفته العبورية الروتينية التي انبنى من أجلها،فصار”نقطة تماس”ومواجهة بين الصوبين.
أحدس بما يتماهي مع محدوسات سرديات متن مرئيات كتاب الجزائري المرتقب الطباعة والمتلقين أن ثمة بركاناً تسربه وتبشر به لغة سردية جاذبة في المبنى والمحمول والمبتشر –المصرح به ضمنا-بتعبير أجلى، أن الخطاب السردي”القصحفي”يتماهى مع جمهور المكان الانتفاضي/الثوري ومع مواقف السارد نفسه منه…

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *