” بؤس الشعر في هذه الأزمنة الموبوءة “
جمال أكاديري
–رغم ما قيل ، و دار في الكواليس إياها ، حول تضارب و تعدد الأسباب ، التي
تدفع أحيانا الناشرين إلى حجب الشعر من اجنداتهم ، فنحن لنا رأي آخر ، له صلة أعمق بالمكانة الرمزية المتدنية التي انحدر لها ، هذا الجنس من الكتابة ، المشهود له دائما بقوة الإيحاء ، و الكثافة ، في التعاطي مع دلالة الأشياء و الرؤى . هذه إنذارات يائسة عن محاولة طمس الشعر في أوقاتنا الموبوءة :
– في خضم أزمنتنا الباهتة أدبيا، صارت اللامبالاة هي أداة الدفع الرمزية المتوفرة الآن، بسخاء، للتعامل مع يوم يتيم كهذا، رُسِّم عالمياً، كل سنة، للاحتفاء بلحظة الشعر.
– «الشعر استنفد إمكاناته القصوى في العطاء فلا حاجة لنا به في عصر التّقانة»، ينفث خبثاء القوم من خلف الكواليس إيّاها، ودون خجل. لأن في عرفهم ما انفكّ ينمحق ويتفسّخ وينحلّ في بدائل فنية تجارية تعويضية صِرْفة، تُتْقن أفضل منه، تدْوير عجلة الربح وتصريف محفزات البيع بوتيرة أسرع.
(فمثلا: عوض الشطحات الحنينية الجانحة نحو ماضي الشعر وأمجاده والتي مازالت تُنَشِّط بقاياه في استماتة وبأثر رجعي؛ صار مكانها الآن، أقراص مدمجة مرفوقة بوصفات عصرية جديدة، لإثارة الدغدغات الشعورية أكثر وتحويل الموضوعات، الأثيرة قديما لدى شعرائنا، إلى إيكليشيهات أغاني حديثة، بوزن أخف، وتحت ضغط إسهال فني جارف، مع (طبعا) الضجيج القوي الذي سيغطيه).
وكذلك لأن – من وجهة نظرهم – دواوين الشعر مازالت تتراكم مزيدا على الرفوف، وهي بمعايير السوق الكمية لا تجد دائما طريقها المَلَكِية إلى البيع. فبالنسبة لهذه الأخيرة، الشعر صار كسادا، كابوسا سوداويا، يُفاقم من غموضه وكثافته ويتبجَّح بنرجسيته المنغلقة المُزْمنة، وتعاليه القاتم أحيانا، ولا يريد بعد أن يتنازل عن نخوته الذاتية الاستعلائية ويَهْوي نسبيا، مثله مثل الأشكال الرمزية والتصاميم الفنية الأخرى، على الأقل، إلى مرتبة التسطيح الكلامي العام أو إلى مستوى مصوغات التعابير الشائعة، الملائمة ذهنيا للعامة، والمستساغة في عرفهم، والتي هي أكثر قبولا واجترارا عند الجميع.
فكأن على «الشعر» في حفله هذا الاختيار بين الانتحار الرمزي أو الركون المُنمّق إلى الظل وفي صمت مطبق. من هنا إذن ينبثق بؤس الشعر حاليا، في مواجهة خصْمين شرسين: الصبيب الإشهاري الرامي إلى حجبه فناً وصورة أو تحت تهديد التشَيُّئ السّلعوي الساعي لإعدامه بالمرة، وكتمه كصوت منعزل لأنه يفتقر للمردودية التسويقية المُبتغاة.. لكن هناك من يُزايِد، محاولا إنعاشنا بالأمل، مُذكرا إيانا أن له، فعلا، حيزه الصغير المخصص له في الجرائد وأن له نصيبه الخاص لدى مُحْسني دور النشر الكرماء، وأنه مازالت تُقام له الجوائز التكريمية.. إلخ.
وللتعقيب والإضافة، أكتفي بأن أسوق هنا، ما صرح به، مرة، أحد الكتاب الأوروبيين المهتمين بالأدب الغربي بشكل عام وفي معرض حديثه عن أزمة الشعر راهنا: «صارت الجملة الشهيرة التي قالها هولديرلين في فجر الأزمنة الحديثة «ما الفائدة من الشعراء في زمن الضيق؟» صارت غير مفهومة بالنسبة لنا ما دام الضيق نفسه (أو الجنون) لم يعد يمسنا أبدا إلا كموضوع اجتماعي من بين أخبار أخرى، مع ذلك فإن هذه الرغبة في إلغاء الشعر والفكر لا تنبع من نية سيئة أو من خبث بشري بالذات، هي رغبة تتماشى مع القوة العالمية للتقنية، مع السوق، مع الفرجة، مع التشويش المستديم لحاضر دائم، ما انفك يتعكر»…
كاتب من المغرب
Image: Fakhry Ratrout