سينوغرافيا عرش الدم

ترجمة وتقديم رؤيا سعد

سقوط رجل ..

المخرج الخالق لاي عمل فني هو كالجندي المجهول في ساحة المعركة ليحقق النصر خلف السواتر وهو الذي يوظف من أجل ذلك جميع العناصر والمكونات وخصوصا في اعمال (السينوغرافية)، حيث يضع حجر الأساس كدعامة لأفكاره ليساهم فيما بعد في خلق جمالية الصورة والقيمة الفكرية لاي عرض . ليطرح لنا افكار تنويرية معرفية برؤى تقترب من رؤى المتلقي وبلاشك فانه يمتلك روح اختراقية جريئة حيث يفرض آراءه وافكاره علينا دون ادنى معارضة مننا تلك الافكار التي لا تقف عند حد دائبة في البحث بفضاء العرض، واستنباط معانيه المستترة ومكوناته الدلالية، بمعنى الولوج من سطح العمل، كما تعرضه المشاهد والتراكيب إلى العمق، وهو جوهر العرض وعالمه الدلالي. فالدراما بطبيعة الحال تفضح وتكشف عن الكامن المخبوء في أعماق النفس البشرية، وراقص الكوريغراف او المودي هو الفاضح لأعماق النفس وتجلياتها عبر فعله وتجسيده الدرامي. لذا عندما قدم الفنان البلجيكي الكوريغرافي داميان جليت في عرضه السينوغرافي الراقص الأخير والذي يعتبر الأكثر غرابة لحد الان بأزياء مستوحاة من الفيلم الكلاسيكي الشهير عرش الدم لعام ١٩٥٧ للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا وبتعاون سينوغرافي بصري كل الكوريغرافيا والتوجيه داميان جليت بمساعدة ايميليوس أرابوغلو مع رون موريلا و كريكور كوشيان برؤية من يونيو تاكاهاشي احتفاءا بهذا المخرج العظيم وذلك في أسبوع الموضة المقام بباريس للرجال.
حيث اتخذ الراقص ( توم وينبرجر ) شكل ثلاثة أقسام من تصميم الرقصات بدعم فكري من داميان جاليت وأيميليوس أرابوغلو . ومن غفل عن حضور هذا الفيلم العظيم فقد فاته الكثير من الجمال ان فيلم
عرش الدم او مايطلق عليه ( قلعة شِباك العنكبوت) للمخرج أكيرا كوروساوا والذي اتخذ من مسرحية شكسبير (ماكبث) تراجيدية أساسا لمسار الفيلم ليسقطه على تاريخ اليابان خلال عهودها الإقطاعية في القرون الوسطى, والتي تدور رحى أحداثها حول الصراع من أجل العرش, القائد الساموراي واشيزو تاكيتوكي والذي يقابله في الملحمة الماكبثية شخصية ( مكبث) الذي يغتال اللورد العظيم تسوزوكي ليجلس على العرش مكانه بتحريض من زوجته اساجي لتحقيق نبوءة الكهنة سيصبح سيد قلعة بيت العنكبوت.
وقد عمل الكوريغرافي جليت على جعل المعالجة والرؤية السينمائية على شكل سينوغرافيا ترتكز حول ثيمتين أساسيتين هما السلطة والخيانة، حيث عبث الصراع على السلطة، وما يحدث في الجوهر شبيه كل عصر، فالعنف والمؤامرة مرافقة لحركة السياسة في كل العصور وبالأخص فقد كثف تلك الدراما على عصر مقاتلي الساموراي وأسيادهم النبلاء وذلك الإسقاط المحلي مع الالتزام بروح المسرحية الشكسبيرية من رقي بالحركة وخفة في الانتقال بين اتجاهات خشبة المسرح . حيث يبهرنا بعمل تقطيع للمشاهد الدرامية بمزاوجة مبهرة مع بعض المشاهد الحركية المحتدمة الحاسمة والتي تطلب الامر منه دراسة لأجواء فيلم كوروساوا وكيف تمت منتجته ومعالجته تقنيا كي يتمكن من توظيفه سينوغرافيا وكان ذلك بطبيعة الحال ان يقابله بذل جهدا كبيرا من حيث تصميم الرقصات المتوافقة مع ثقل الازياءالتي يرتديها البطل . ومن مميزات كوروساوا المعروفة استخدام عوامل الطقس والطبيعة لتوظيفها دراميا، فالغابة مليئة بالضباب الكثيف الذي يحجب الرؤية وأصوات نعيق الغربان المرعب، وهطول الأمطار حيث كان هو السائد على أجواء القلعة فكان لابد من جليت ان لايغفل تلك الأجواء لتتمازج مع العمل السينوغرافيا بالمجمل وبالطبع فقد قام بتغيير ذروة الاحداث وهي النبوءة التي تقول لماكبيث أن “لن يستطيع رجل أنجبته امرأة على هزيمتك وقتلك” والتي قام تحويرها بشكل إبداعي ملفت إلى نبوءة اكثر تعقيدا وهي “لن تهزم إلا إذا رأيت أشجار الغابة تتحرك لمهاجمتك” ، ذاك الامر المبهر والمكلف أيضا من ناحية الانتاج حينها فقد استطاع كوروساوا بعبقريته الفذة ان يتدبر ذلك ليقوم باستخراج تلك الحكمة . وحتى نصل الى مشهد مقتل البطل لتحتشد السهام والحراب ليمطرونه رجما وهو يرتدي درعا مقاوما للسهام ليصور لنا الحدث ضمن حبكة مرعبه تسود فيها أجواء الهلع التي تبدو جلية على ملامح البطل بسبب كثافة الرمي حتى يجعل المتلقي امام مشهدا انطباعا واقعيا تعيشه معه على خشبة المسرح تعتبر هذه المعالجة لمأساة قلعة شباك العنكبوت معالجة صعبة سينمائيا فكيف بها ان كانت معالجة سينوغرافيا
اننا نجد أنفسنا مأخوذين بقراءته للنفس البشرية وتوظيفها بالحركة الدرامية السينوغرافية الموظفة ليعكس لنا جليت تلك النوازع البشرية والتي لم تتغير عبر عدة قرون مضت ليصبح هذا الخط السلوكي قابلا للخلود والديمومة لا سيما بهذه المأساة المقتبسة من مسرحية شكسبير ( ماكبث ) حيث تطغى على احداثها الطمع و سطوة السلطة والتفرد بالحكم على حساب البطش والظلم بمن يخالف نهجه ليتم التنكيل به او النفي الأبدي ان هذه المعالجة الماكبثية تتصدى لعمق السياسة ولدوافع الملوك والنبلاء بالتشريح والتحليل، وتبين سبل الدهاء والإجرام التي يتخذها بعض الذين لهم مطامع في الحكم كي يصلوا إلى العرش حتى وان كان الثمن هو الدم . كان العرض حداثي بامتياز و بشكل يرتكز على اساسيات مسرحية استخدم فيه جيليت أسلوب البيوميكانيك في الحركة والأداء الكوريغرافي . حيث الدقة والاختزال في حركة الممثل، والتشكيلات الحركية الجماعية مع تكثيف وجود الأشخاص بالأقنعة المزيفة كي يصلوا بالتلقي الى فكرة الدسيسة والمؤامرة ، وكجزء من السينوغرافيا البصرية الرائعة إلى جانب استخدام التقنيات البصرية المتطورة والأزياء التي عكست شكل تلك الحقبة الباذخة كلها تركز على تحقيق صورة مجسمة دون الاستعانة باي عنصر درامي على خشبة المسرح، وقد لعبت المؤثرات الموسيقية الحية الإيقاعية من قبل الفنان رون موريلي وكريكور دوراً كبيراً في توكيد الحالات النفسية المحتدمة التي تمر بها الشخصيات، وقد اهتم داميان جليت بالجانب النفسي وراهن عليه كثيرا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *