من هذه السلالة يتحدر غارسيا ماركيز
جمال أكاديري
– بوفاة الكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي كان منتظرا بحكم مرض عضال أصيب به، ربما سيُسْمح لنا باقفال حلقة أبرز كُتّاب أمريكا اللاتينية المفقودين ، الذين كانوا وراء ما دُعِي ب”البوم” أو “الانفجار” Boom الروائي في النصف الأول من القرن العشرين و مابعده بقليل، و الذي كان يحيل إلى شعار آخر أصطلح عليه لتطويق هذه الظاهرة الأدبية الغريبة المتشظية و الغنية كذلك بكثافتها ،( و المارقة من جُبّ أقانيم تلك اللغة الاسبانية القشتالية النقية الخالصة التي بسطت سيطرتها على المستعمرات القديمة) فشعار “الواقعية السحرية“ هي التسمية التوليفية ، التي استحوذ عليها بعض النقّاد من مجال فني آخر، و بالضبط من الرسم التعبيري غير الواقعي، و طبَّقوها على مُمَيّزات عوالم ذلك الحكي الجديد ، للاحتفاء به .
فانطلاقة كُتّاب “البوم” الأدبي كانت بتفجير مناخات تعبيرية بنكهة محلّية قوية ، حاولت فيها أن تستلهم و تختبر ،أهم خصائص الاسهامات الأدبية الأوروبية الفارقة ، التي اقترنت بها أسماء روائية استثنائية، عُرف عنها شغفها و تغلغلها القصيّ في اقتناص جماليات مختلفة ، وكذالك انتفاضها الحداثي المبكر في أوائل القرن الماضي لبلورة لغة أدبية جريئة متمردة عن القواعد المسكوكة و برؤية أخرى ، محاولة منها اجتراح تقنيات شكلية غير مطروقة و نادرة ، تقطع نسبيا مع التصورات الكلاسيكية المستهلكة في القرن 19.
فمن كوكبة هذه الأسماء نستثني خاصة ، الثلاثي الذهبي الذي خرق تخوم الكتابة الروائية و فتح أبعادا و امكانات لم تكن في الحسبان ، وهم على التوالي : جويس و فرنز كافكا و مارسيل بروست ؛ إضافة إلى الامريكي الشمالي المذهل ، بالتنويعات الأسلوبية التي طرحها ، وليام فولكنر ، و الذي ترك تأثيرا بيّنا على بُنْيان المعمار الروائي لدى غارسيا ماركيز.
كُتاّب أمريكا الجنوبية من الرعيل الأول والجيل الذي سيليه بعقود ، و على اختلاف أساليبهم ، دفعتهم حماسة بدايات التجربة الأدبية – لكن بفارق كبير – إلى العودة و الانعطاف فنيا نحو ثقافتهم المحلية الغرائبية ، و بمنظور ثاقب و يقظ ، يجلي سحر الأشياء و يقتنص وقائعها و يعيد تأثيث عناصرها الأسطورية الغامضة.
فتم التقاط هذا مبكرا ، من طرف الجهة النقدية المصاحبة للثورات الفنية ، و تحديدا من تلك الضفة القارِّية الأخرى ؛ و تسجيله و معاينته بدقة ، مع ما يكتنزه وما تحمله كذلك هذه المغامرة الأمريكية الجنوبية – النَّائية جغرافياً عن الوسط الأوروبي المعهود- من تمثل و تشرّب للتأثيرات الفنية الصادمة الآتية من ثقافة هذا المركز ، لكن بُغْية تقويضها ، و تحويلها في اتجاه ايجاد مادة و شكل متميز، ينحاز فعلا، بأناقة“ باروكية “baroque،إلى التفرد.
هذا ما حصل في فترة بروز الأدب الإسباني الأمريكي؛ فتدفقت الأسطورة بايحائاتها التخييلية و شلال تفاصيلها الثرية و مطاوعتها السلسة للأشكال الحديثة ، وتبطيناً لمناخ ذلك الواقع الأمريكي الجنوبي العنيف سياسيا و الفض حتى النخاع ؛ أو لنقل بالأحرى ثم الانقضاض على تعقيد هذا الأخير ، بسحر المخيلة و الاشراف على إعادة اختلاقه لغويا ، لكونه مرجع طري رمزيا و مبهم تاريخيا ، و الغوص فيه ، كما كان هو بذاته ، متحرك و متموج ، و مُتْرَع بما هو بدائي و هجين …
إذا اتفق مثلا و استحضرتُ الآن ، الأسماء الأكثر رسوخا في حفريات الذاكرة و في القراءة المتنوعة الموشومة بالافتتان و الانبهار ، ففعلا ، ، لن يكن بإمكاني القفز عن اسم له رنينه الخاص و حضوره القوي رؤية و أسلوباً : العجوز-الشاب خورخي لويس بورخيس.gorge luis borges أولا ، الذي يُعتبر له تأثير قوي باعتراف أغلب الكتاب الذين سينخرطون بعده كرونولجيا في تجربة التأسيس لِهوية الأدب اللاتيني الأمريكي بكل خرائطه المتعددة . ثم هناك معاصره الأرجنتيني المولع بالرياضيات و المعادلات الصعبة ارنستو سباطو ernsto sabattoصاحب الرواية –المتاهة “النفق” .
و سأسارع بإضافة أسماء موحية و من لفيف بداية الخمسينات من القرن 20 :
خوليو كورتثار julio cortazarوأحداث عوالمه الفنتاستيكية المذهلة ، كارلوس فوينتس carlos fuentes و أمشاج حكايات تاريخ المكسيك بكل ثوراته و مفاراقاته و جنونه، فارغاس يوسا و الفساد السياسي الدموي في واقع ال”بيرو” المدقع ، دون نسيان خوسي ليثاما ليما الكوبي lezama lima وروايته الفريدة “فردوس” المنمّقة و التي تمثّل بامتياز الانفجار الخلاّق للغة و كما يُعايش يوميا و تلقائيا في منطقة جزر الكاراييب الشعبية ، مرورا طبعا بخوان رولفو المكسيكي بأسلوبه البسيط البالغ الوضوح ، الحارق في عمقه الميتافيزيقي ، و عتمة أغوار أقاليم ناسه المقهورين المهمشين ، المنحدرين رأساً من تركيبة مزيج العرق الهندي ، و الذي برهن، على كل هذا تقريبا ،و بقوة في مؤلفه ” بيدرو برامو” . وصولا أخيرا إلى صاحب جائزة نوبل الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز (الذي توفي عن سن 87 سنة) و رائعته التحفة الفنية الأدبية بامتياز “مئة عام من العزلة“ المتخمة بالموضوعات العجائبية و بلوحات متنوعة من أساطير محلية بحتة ، التي من الصعب تأويل ثرائها الروحي نسقيا ، أو محاولة اختزال تعقيدها إلى أحجية بسيطة.
سأدرج مثلا خاطفا يبين لنا بشكل موحِ ، كيف يكون الاختزال في ميدان الأدب صعبا ،
بل على العكس ، من المفترض منه أن يذوب في بحر هذا الميدان الرمزي الشاسع و يفتحنا على ساحة المقارنات و الاقترانات و الإحالات المتعددة ، التي لن تفعل بالضرورة إلا أن تثري من فهوماتنا مزيدا ، وهاكم مثال خاطف ، يمد الجسور بين اسمين ، رغم عدم التشابه الظاهر بينهما
فمن المعروف عن الكاتب الاسباني الكلاسيكي الكبير ثرفانتس cerventes أن من الأعمال التي كان له فضل ان يحقق فيها انقطاعا سحريا عن الأجناس الأدبية السائدة في عصره المرتبطة بشدة بعالم الفروسية هي رائعته “دون كيخوته” التي اتجهت بعكس الواقع أي انه معها بطلت موضوعة تساوق عالم الكتاب و كتاب العالم :
” دون كيخوتة ، تضم هده المسافة بين الكتاب و العالم ،بين القراءة و الكتابة …فإنني لا أرى في هذه المسافة و هذا الفصل بين فِعْلي القراءة و الكتابة نابعَيْن من جنون البطل ، و إنما أرى أن هذا الجنون نفسه نابعا من وضعية كتابة” بهذه العبارات سيطرح الفقيد عبد الكبير الخطيبي جوهر مستويات القراءة لعوالم الكتابة لدى ثرفانتس و ذلك بالملتقى العربي_الاسباني الثاني
و في كتاب يحتفي بالأدب الأمريكي اللاتيني كتجربة أدبية استثنائية ، لصاحبه الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس و في فصل خاص بماركيز يقول:
“” إن هذا التحرير عبر الخيال للأفضية المتواقتة لما هو واقعي ، يعتبر بالنسبة لي، الموضوع الرئيسي في رواية غارسيا ماركيز الكبرى مئة عام من العزلة ” “
هنا يكمن باختصار شديد الرابط أو بمعنى آخر النسب الرمزي القوي الذي يُمَرِّر علاقة دم شبه وهمية ، بين ثرفانتس و غارسيا ماركيز. لأن هذا الأخير بدوره في وقائع روايته الضخمة “مائة عام من العزلة” يُعايش حدود الواقع داخل الكتاب و حدود الكتاب داخل الواقع ، و هو يحكي تاريخ سلالات عائلة ماكوندو الذي كان مكتوبا في أوراق غجري ، يدعى ملكياديس عاش كشخصية منذ مائة عام و كراوٍ بعد ذلك بمائة عام و بالتالي أرّخ بتعاقب لتاريخ أسطوري متزامن. إن السر العميق في كل هذا يعادل المجابهة المستحيلة بين الأدب و الحياة أو بالأحرى المواجهة العميقة بين الفن و الحياة عموما ، و التي كانت و ستصير دوما إشكالية اأزلية في بؤرة كل تجربة إنسانية .
كاتب مغربي