رحلات “علي باي” إلى مصر والحجاز وفلسطين ودمشق
إبراهيم عبد المجيد
هذا كتاب مثير ترجمه الشاعر والروائي طلعت شاهين الذي أثرى المكتبة العربية بكثير من الترجمات عن الإسبانية. رحلة طلعت شاهين مع الأدب والصحافة رائعة، وترجماته عن الإسبانية شديدة الأهمية، منها روايات وقصص قصيرة وتاريخ وسيرة مثل رواية ” دفتر سراييفو” لخوان غويتسلو و” أن تعيش لتحكي” لجابرييل ماركيز ، و”عرب البحر ” لجوردي ستيفا، وغيرها كثير، وأخيرا هذا الكتاب العجيب “رحلات علي باي إلي مصر والحجاز وفلسطين ودمشق” للرحالة الإسباني “دومينجو باديا إي ليبليش”، الصادر العام الماضي عن مشروع كلمة بالإمارات العربية. المشروع الذي يقدم لنا نفائس الإبداع والفكر العالمي. الكتاب كتبه رحالة هو في الأصل شخصية غامضة في التاريخ. هو من مواليد برشلونة عام 1767 واهتم بالعالم الاسلامي بسبب ما شاهده من الآثار المورسكية، وعرف اللغة العربية وعلم الفلك والعمران والطب، ولغات أخرى مثل الانجليزية والفرنسية. اعتنق الإسلام يتخفي وراءه للعمل لصالح القوي الأوربية الكبري. بدأ رحلته إلى المغرب عام 1803 ومنها بقية الرحلة.
بعد رحلاته استقر في الشام وتزوج وأنجب تحت الإسم المستعار، ويقال أنه وقع خلاف بينه وبين الاستخبارات البريطانية، فدسوا له السم في القهوة ومات تاركا ذرية خلفه تناسلت في الشام. أصبحت حياته الأسطورية مجالا لكثير من الباحثين. استخدم لقب “باي” المستخدم في المغرب والموازي للقب “بك” في الشام أو “بيه” فى مصر .
تبدأ الرحلة من يوم الأحد 13 من أكتوبر عام 1803 يوما بيوم من المغرب التي خرج منها غير مرضي عنه إلى طرابلس أو طرابولس باللغة البربرية.
وجد سكانها أكثر تحضرا في الزي والزينة، والمجتمع أكثر حرية وصراحة من المغرب، يحصل فيه المنشقون الأوربيون على حقوق لا يحصلون عليها في بلادهم، ويمكن أن يحتلوا مناصب رفيعة كالأدميرال أو رئيس البحرية الإنجليزي الأصل. وصف المدينة وسجونها الثلاثة والمقاهي والحانات والأسواق ومعابد اليهود وكيف يعاملون أحسن معاملة ونشاطهم التجاري. حديث ضافٍ دائما عن مقاييس الوزن مثل الذراع والرطل والأقة والعملات مثل “الشريف” و”نص شريف” و”محبة طرابلسي” وهي من الذهب ثم العملات الفضية ثم العملات من النحاس. في 26 يناير 1806 يبدأ الرحلة إلى الإسكندرية في مركب تركي كبير ذي أشرعة. المركب سيئ وقبطانه أسوا ما رأى. يقوم بملاحظات فلكية ليعرف الطريق. تتكرر الملاحظات الفلكية في كل رحلة. حاول توجيه القبطان وفقا لما أدركه من علامات فلكية، لكن القبطان كان يهمل ذلك ويفعل مايريد وكان سكرانا دائما، فأخذوا يتخبطون بين الجزر والقرى مثل إيداليا ولارناكا، ووصف دقيق لها ومافيها من أثار، ومصاعب الرحلة وموت الكثيرين وجنون بعضهم . يصل الى الإسكندرية. حديث عن تاريخها وكيف حين دخلها العرب كان بها أربعة ألالف قصر، وعدد مماثل من الحمامات العامة وأربعمائة سوق، ولقد تم تدمير كل هذه المباني ولا يعرف مكانها الآن .صارت المدينة ذكرى يقطنها مجرد خمسة ألالف ينتمون لمختلف الأديان والأمم، لكنه رأي شوارعها غير ضيقة، والأسواق مخطط لها كما يجب، والمباني جميلة بأشكالها ونوافذها ومشربياتها، وأغلبيتها من العرب لكنهم غير معادين للمسيحيين. أهلها يتقنون لغات عدة فسكانها متعددون لكن ليسوا كثيرين، فاليونانيون مثلا أربعون عائلة مقيمة، واليهود ثلاثمائة يعملون بالتجارة والبورصة، ويوجد بعض الشوام الكاثوليك والأقباط المصريين الأرثوذوكس. الأوربيون يتمتعون بالأزياء والخروج والموسيقي في الشوارع ولا أحد يمنعهم، وهو أمر مختلف عن المغرب. نساء البلاد سواء كن يهوديات أو مسيحيات، يرتدين الحجاب ويتخفين في البيوت كالمسلمات تماما بينما الأوربيات تتمتعن بالحرية. وجد بها حرفيين للساعات والنقاشة وصانعي قبعات وصانعي حبال وغيرها من الأوربيين. رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة، وكيف في العاشر من نوفمبر 1806 شارك في حفل تنصيب الشيخ متولي شيخ المغاربة، وكيف أخذه الشيخ عمر مكرم إلى الوالي محمد علي. حديث عن محمد علي وشكله وكيف يعمل. حديث عن الصراعات بين السادة وعن شوارع القاهرة القذرة وعن مساجدها. جذبته عمارة الأزهر وعمارة مسجد الحسين والسيدة زينب ومسجد السلطان حسن ومسجد السلطان قلاوون، ورأى المشفي داخله الذي يعاني فيه الفقراء المرض بينما الساداة في نعيم. يتحدث عن الشيوخ المشاهير وكيف يعيشون حياة مرفهة ثم زيارة للأهرامات والروضة ومقياس النيل الذي كان قد أصابه الدمار فاعاده الفرنسيون اثناء الحملة الفرنسية إلي العمل ورحلة إلى الدير اليوناني الذي به محراب ماري جرجس.
في الثامن عشر من ديسمبر1806 بدأت الرحلة إلى مكة. كان في القافلة من مائة إلى ثلاثمائة حصان، وبشر من جميع الأمم لأداء فريضة الحج. الرحلة البرية إلى السويس. ثم الإبحار وكالعادة وصف فلكي لخطوط الطول والعرض وتوقعات الرحلة. كل الأماكن التي رسوا عليها حتى وصلوا الي مكة في 23 يناير 1807. وصف لمداخل البيت الحرام والكعبة. جميع فرائض الحج وطقوسه. في ذلك الوقت كان الوهابيون يسيطرون علي البلاد.
نمشي مع شعائر الحج منذ وقفة عرفات وقوافل القادمين من البربر والشام واليمن والسودان وأثيوبيا وغيرها. يصف مكة وجغرافيتها وأسواقها العمومية والتجارة والبضائع الخبز والفحم و الدجاج والبيض والزيت والعملات المتداولة. نقل المياه من آبار قريبة من “منى” حلوة مثل ماء زمزم . اللحوم من نوعية رديئة والأسماك مجهولة رغم قرب البحر، والخضراوات تأتي من الطائف من منطقة” ستنا فاطمة”
ملابس المكيين كالمصريين، قفطان وخف وصندل وتحتها كلسون، لكن هذا للأثرياء، أما بقية الشعب فالكلسون فقط وفوقه القميص. الرجال يقيمون جروحا فى وجوههم يقولون إنها لحراس بيت الله، لكنها في الحقيقة نوع من التجميل، ويضعون حلقات في أنوفهن، وخناجر في وسطهن تعوق أيّ حركة.
حديث ضافٍ عن الوهابيين والشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي اعتمد على التفسير الحرفي للقرآن، وألغى المذاهب الأربعة وتحريم التقرب إلى الأولياء، فحرموا على اتباعهم زيارة النبي في المدينة فهو بشر مثلنا، ويعتقدون أن كلمة إسلام تعني أتباعهم، بينما الأتراك وغيرهم عندهم كفار. كيف طبقت أفكارهم على القبائل وهدموا كل الأضرحة.
العودة إلي جدة والإبحار يوما بيوم وحساباته الفلكية ومايواجه الرحلة حتي يصل الي سيناء ثم الي القاهرة في الحادي عشر من يوليو 1807 ليبدأ رحلة أخرى إلى القدس مرورا بغزة ويافا وغيرها.
لقد وصل إلى القاهرة في الوقت الذي كان فيه الإنجليز يهاجمون الإسكندرية ثم رشيد ويصفهم بالأوغاد، لكن كانت القلعة تعج بالأسرى منهم. بقي تسعة عشر يوما لاقى فيها أجمل ترحاب من أصدقائه، ثم أخذ طريقه إلى القدس في الثالث من يوليو 1807 . قابله مصطفة أغا حاكم غزة وأهداه ألف هدية وأمر أن يوفروا له كل شيئ حتي يصل إلى القدس. تاريخ المسجد الأقصى وأبوابه وقبة الصخرة ووصف معماري للمسجد، وترتيب الرحلة داخله من الفناء الي المبني المسمي قاعة سليمان والصلوات، إلى آخر الطقوس بدقة رائعة. وتستمرالرحلة إلى الكنيسة القوطية التي في وسطها ما يعتقد المسيحيون أنه قبر المسيح. ألقدس وقتها بها ستة ألالف مسلم وعشرون ألف مسيحي من مختلف المذاهب وعدد قليل من اليهود، وحديث عن أزيائهم وألوان عمائمهم. النساء المسلمات تمشين كاشفات الوجوه كالأوربيات، والاختلاط بين المسيحيين والمسلمين يخلق حرية أكثر من أي مكان آخر تسيطر عليه الديانة الاسلامية ..وتستمرالرحلة إلى عكا وجبل الكرمل والناصرة، وحديث عن رهبان الأراضي المقدسة وأعدادهم في الأديرة وجنسياتهم، ثم يذهب إلى دمشق ووصف لها في كل مظاهر الحياة وتنتهي الرحلة الرائعة. طوال الرحلة لم يذكر أبدا اسمه الحقيقي لا لغيره ولا لنا، وعاش الرحلة كعربي مسلم بعيدا عن نظرة الاسشراق. لقد توحد مع ما ادعاه من اسمه وديانته وصار صعبا التفريق بينهما. عمل توثيقي دقيق ونادر لكل شيئ حتى الحشرات والأمراض، وعمل أدبي رائع بترجمة عظيمة لطلعت شاهين.