تأبيد أدونيس أو الشاعر الذي تحوّل الى علامة تجارية بين المؤسسات الثقافية
صالح لبريني*
أعتقد أن الشاعر السوري أدونيس أو علي أحمد سعيد إسبر تحوّل إلى علامة تجارية تتهافت عليه المؤسسات الثقافية العربية، للتكفير عن خطايا المنع والحظر والتكفير والردّة، التي مارستها ضد كل مثقف عربي متمرّد على النسق العام السائد في المجتمع العربي والإسلامي، بإعادة الاعتبار لهذه القامة الشعرية والثقافية والفكرية، التي لعبت دورا هاما في فتح أفق إبداعي مخالف عما يجري في منظومة الإبداع العربي، أفق ينتصر للحداثة، ومن تمّ تغدو العقلانية المنهاج الأقوم لترسيخ تفكير متحرر من القيود قاطبة ومن المحرمات المتداولة، وتجعل الحرية مسلكا للشعور بالذات والكينونة، بعبارة أخرى لتكريس ثقافة الاختلاف والتعددية. بل إن أدونيس إلى جانب مثقفين عرب ومسلمين كانت له الجرأة في اقتحام الطابوهات وتهديمها بالإيمان العميق بقيمة وجدارة ثقافة عربية تمتلك الوعي بأهمية التراث في تشكيل الهوية، وتؤمن بثقافة التحوّل والمغايرة، وما مَضانُّه وأعماله الشّعرية وتنظيراته النقدية ومقالاته إلا دليل على هذه الحقيقة التي لا مراء فيها.
من هذا التاريخ الذي عُمْرُهُ أكثر من ستة عقود من النضال والمقاومة في بيئة مجتمعية تسود على حياتها المحافظة والتقليد، ها هو اليوم يتحوّل إلى منارة تستضيء بها هذه المجتمعات، التي شرَعت في التحرّر والانعتاق من عقلية الشيخ والمريد إلى عقلية تقبَل بالمختلف والمخالف، وتتعايش مع النقيض والمفارق، لأن طبيعة الوجود مبنية على هذه القاعدة. وتاريخ الأمم، على مرّ التاريخ، يتصف ببنية التنابذ بين نمطين من التفكير، نمط لايملك القدرة على الانقلاب عمّا هو قائم داخل أنساق اجتماعية وسياسية وثقافية متكلسة، سِمَتُهُ الجمود وتأبيد الموتى. ونمط آخر استطاع الانفلات من هذه الأنساق المتحجرة بمعانقة تصورات أخرى مناقضة للنمط الأول، وهذا أمر طبيعي على أساس التدافع القائم في حياة الناس ونظام الكون بين النهار والليل، بين القيود والتحرر ، بين العقل والنقل، وضد المكبوت ومع ثقافة الجسد.
لكن يبدو أن هذا الزخم التاريخي لمسار الشاعر أدونيس، يتم استغلاله، من خلال، هذا الكرم الزائد عن اللزوم في الدعوات والاستضافات والمناظرات والندوات التي تقام هنا وهناك، وبين الماء والماء، يحمل في طياته تبخيسا لهذا التاريخ، حيث ظهر جليّا أن أدونيس لم يعد له ما يقول، أو يضيفه إلى الثقافة العربية الإسلامية، فتكرار الكلام نفسه والآراء المسكوكة لديه التي ألفها المنشغل بالثقافة العربية، بطريقة مبتسرة وأحيانا غير واضحة؛ يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول المخطط الجهنمي الذي يتم طبخه في دواليب المؤسسات الثقافية الرسمية في العالم العربي والإسلامي، هذا المخطط، رغم ما يبدو عليه من مظاهر الحفاوة والاحتفاء بالشاعر والناقد والمفكر،أي بالشعر والنقد والفكر المتنور، وما يستتبعه من بهرجة إعلامية مفرطة يدرك أن وراء الأكمة غابة من الالتباس والغموض حول ما يحاك لأبرز رمز من رموز الثقافة العربية، مما يجعلنا نتساءل : ألا يمكن اعتبار هذا الاحتفاء مجرّد فقاعة مائية ستنتهي بانتهاء الغايات؟ أليس في هذا تَسْفِيهٌ للفكر الحداثي والتنقيص منه؟ وما الذي يجعل أدونيس يقبل هذه الدعوات، وهو الذي كان ينتقد بشدّة وشراسة وقساوة دوما مجتمع الجزيرة العربية خاصة والمجتمعات العربية الإسلامية عامة، بكونه مجتمعا متخلفا مازال يعيش خارج التاريخ والحضارة؟ ألا تشكّل جولاته السياحية في صحراء الربع الخالي تشويها لذاته قبل إبداعه؟
هذه الأسئلة نطرحها لا لنجيب عنها بقدر ما نضعها تحت مبضع القراءة التأويلية، التي ستسعف المهتم على امتلاك الوعي بما يحاك ضد أنصار الفكر العقلاني. إن الأمر موغل في الالتباس والغموض، في ظل شراء ذمم المثقفين العرب الذين أصبحوا متهافتين على مؤسسات ثقافية؛ هي في العمق تشتغل برؤية متحجرة لا متغيرة، وبتصورات تفتقد صلاحيتها أمام جموح فعل ثقافي يقرّ أن وجوده مرتهن بالمغامرة لا المقامرة، رغم ما يبدوعليها ظاهريا بأنها تعمل على ذيوع ثقافة العقل بدل هقلية النقل.
أدونيس اليوم يقتلونه حيّا بهذه الممارسات التي نلمس فيها نوعا من المغالاة والادّعاءات وارتداء الأقنعة، لكن حقيقة الواقع تقول عكس ذلك، فالعالم العربي لم يلج بعد بالمفهوم العميق إلى الحداثة، بل مازالت تفصله قرون ضوئية لبلوغ مجتمع حداثي مؤمن بالجدال والحوار والاختلاف، مادامت ثقافة الفقيه والولاء والعبودية هي المهيمنة وذات فعالية في بنية المجتمع العربي الإسلامي. فالحداثة كيان مفهومي موجود في التراث العربي بعيدا عن الدلالة الغربية، فهي منبثقة من رحم الواقع العربي والإسلامي وليست مستوردة او دخيلة، حيث نجد الحداثة بمجرد مساءلة النص القرآني وَصِلَتِه بالنص الشعري، وإعمال العقل في التناول والنقاش والجدال الذي طال قضايا مستحدثة وطارئة على الواقع العربي الإسلامي، هذه الدينامية خلقت لنا تراثا كُلّه حيوية وفاعلية نقدا وفقها وعلوما وشعرا وكلاما، بينما عرب الألفية الثالثة مازالوا لم يستوعبوا درس التراث فبقوا على الهامش منفعلين لا فاعلين، منبهرين لا مندمجين. إذ نهجوا نهجا استهلاكيا أفضى إلى تهميش الإبداع في الفنون والآداب والعلوم وعدم تشجيع الابتكار والاختراع بقدر ما يعيدون ماتمّ إنجازه سابقا تكرارا واجترارا، فاكتفوا بفضلات الثورة الرقمية في جوانبها السيئة والمدمّرة، فأصبحت ثقافة الضحالة والتفاهة العنوان البارز في الحياة العربية والإسلامية.
أدونيس لم يعد في حاجة إلى هذه الحفاوة، التي تبدو في الكثير من الأحيان مبالغا فيها، وتنمّ عن أن العقلية العربية إذا استفاقت لا تستيقظ إلا بعد فوات الأوان، ليجد المثقف العربي يرسف في أغلال مجتمع مازال يحنّ إلى الماضي ليس كطاقة محفّزة للتفكير والابتكار، وإنما ككابح لكل إرادة تتطلع إلى المستقبل، وهنا مكمن المفارقة، فظاهر الخطاب العربي يبرز أن الأمة العربية ذاهبة في التحديث وتشجيع الكفاءات، والسعي نحو ارتياد عالم الإبداع، لكن باطنه (الخطاب) يقول النقيض، ذلك أن المجتمع العربي لم يدخل بعد إلى الحداثة، فهوبعيد كل البعد عن تحولات الإنسانية وتغيرات الأفكار والعلوم، لأن فهمها لسيرورة التطور وصيرورة التاريخ كان عكسيا، بعبارة واضحة تمّ “الوعي” بالماضي/ التراث بالمقلوب أي العمل على تأبيده بطرق متخلّفة تتنافى مع الحتمية التاريخية المتمثلة في أن الإنسانية تمضي إلى الغد بعد تجسير صِلَتِهاعن طريق الحوار العميق مع الماضي، وإدراكها الإدراك المنطقي لحاضرها، وهذا مالم يخرط فيه المجتمع العربي، فالسلطة الحاكمة عملت وما تزال إلى اليوم على تكريس ثقافة الاتباع والسير على هدي السابقين، والتشبث بعقلية التكفير بدل عقلية التفكير، والحجْر على العقل العربي بدعوى أنه قاصر يحتاج إلى إعادة بناء شخصيته لبلوغ سن الرشد، هذه الأفكار بل هذا النسق القائم نذر أدونيس وغيره من المثقفين والمفكرين العرب عمره لتحطيمه؛ وتجاوزه ببناء نسق فكريّ يؤمن بالاختلاف والتعدد، مما يجعلنا نؤكّد أن مؤسسات الثقافة الرسمية لا تروم هذا المشروع المشرق المنبني على اعتماد العقل ركنا أساسا لخلق ثقافة تنويرية تسعف الذات العربية على اختراق الثابت ، وإنما غايتها تشويه ما تبقى من صورة المثقف المتنور، لتؤكّد أن المثقف العربي، حتى وإن ادّعى الفكر المناقض لسلطتها وتسلطها، فهو في جوهره مثقف رجعي وصولي وانتهازي.
من هذه الزاوية لابد من تحليل وتفكيك شفرات الخطاب الإعلامي، الذي صاحب ويصاحب تواجد أدونيس في كل بقعة من بقاع العالم العربي والإسلامي، لفهم ما يتم ترويجه من ثقافة البرباغوندا والواجهات، وأعتقد -رغم المحاضرات التي ألقاها أدونيس في عدة دول عربية- أن الشاعر والناقد السوري لم يأت بجديد، ولم يتجاوز سقف تفكيره السالف، بل نجده أحيانا شاردا، وخارج سرب هذه المحاضرات، وهذا أمر طبيعي فالرجل بلغ من العمر عتيّا، ولم تعد له القدرة علىاستيعاب ما يجري حوله من اقتراحات، تختلف اختلافا جذريا، عمّا كان عليه واقع الثقافة في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فاليوم المجتمع العربي يعيش حالة تراجع خطير في مجال الممارسة الثقافية، فالسؤال الثقافي تمّ تغييبه والطروحات الجديدة لاوجود لها، إلا في أذهان من يعتقدون أنهم فاعلون ثقافيون، لكن الحقيقة أن المثقف العربي اليوم لا أثر ولا تأثير له داخل بنية تحديثية، لكنها تقليدية على مستوى التفكير والعيش اليومي، وكذلك الارتكاسة المخيفة والمرعبة التي مسّت مجالات اجتماعية وسياسية واقتصادية حيث التخلف والجهل والأمية وتوسّع جغرافيات الفقر المذقع المهدد للاستقرار الأمني في كل البلاد العربية، دليل على أن الأمة العربية رسبت في امتحان الحداثة وما بعدها وفي القادم من العقود.
إن أدونيس قد سقط في الفخ معتقدا، هو نفسه ومشايعوه، أن هذا الاهتمام دليل على انتصار مشروعه الحداثي التنويري، فأصبح يعيش في أوهام النجومية البراقة، أي السقوط بوعي أو بدونه في ثقافة البوز، التي تكرس ثقافة التسطيح والتضبيع والتسليع والضحالة، لأن الشاعر والناقد تجده أحيانا يعبر عن آرائه، التي تآكلت بفعل الارتكاسة المجتمعية والثقافية التي يتخبط فيها المجتمع العربي، دون تقديم مقترحات أكثر جرأة مما سبق طرحه، والغريب في الأمر أن أدونيس لا يخجل من امتطاء صهوة الدين كمعوق من معوقات الحداثة العربية، رغم أن هذا الموضوع من كثرة تداوله بشكل مبتذل من لدنه، تحول إلى ظاهرة انتهت صلاحيتها في ظل مجريات الواقع العالمي المستجدة، وبفعل عدم جدارتها في تحريك المياه الراكضة في مستنقع الفكر العربي الإسلامي، خصوصا بعد افتضاح حقيقة الحركات الإرهابية التي تتخذ من الدين وسيلة من وسائل تخريب الحضارات الإنسانية، وكانت مدعّمة من أطراف غربية غايتها هو الحفاظ على واقع الحال في دول العالم العربي الإسلامي.
والغريب العجيب أن فئة من مثقفي العالم العربي ترى أن هذه الصحوة التي أشرقت شمسها متأخرة في بعض الدول العربية هي فتحٌ مبين وانتصار لفكر حداثي يتزعمه الشاعر السوري أدونيس، وهذا من الأوهام التي سقطت فيها هذه الفئة المناصرة لما يجري في العالم العربي، لكن الواقع يكشف عن حقيقة الممارسة الثقافية التي تعيش عطالة في تجديد الفكر العربي الإسلامي، وتقتات من ماض قريب اتسم بنهضة ظاهريا على كافة المجالات، يفنذ ما يقوم به أدونيس وما يدافع عنه أشياعه، وفي هذا صفعة لكل مثقف متنور عقلاني يروم إلى بناء مجتمع عربي متطور، مبدِع ومخترع وسبّاق إلى فعل المستحيل من أجل واقع أكثر تقدما وتحضرا
ما تسعى إليه هذه الترسانة الإعلامية ومضايفة أدونيس من لدن مؤسسات ثقافية في الوطن العربي، هو تأبيد شخصية أدونيس وتحويله إلى صنم ثقافي يعبد افتراء وكذبا، ويلوذ به مؤيدوه كلما شعوروا بالغبن التاريخي والحضاري، وفي هذا التأبيد والصنمية تكريس لما حاربه أدونيس في الثقافة العربية الإسلامية، من فكر لايؤمن إلا بالاجترار والتكرير، وأن ما كان أحسن مما يكون، ومن تمّ إقبار للمستقبل، وتصفية لكل أمل من أجل الخروج من هذا الارتكاس الحضاري الذي تتخبط فيه الأمة العربية الإسلامية، فالكائن يبيد الممكن، وعليه إقامة الجنازة على ثقافة الحداثة والتنوير وإلى الأبد.
- كاتب وروائي من المغرب*