“هاوية بيضاء في عين طائر” لمريم جنجلو: زيارة شعرية لبيت العائلة
مبين خشاني
تُدخلنا الشاعرة اللبنانية مريم جنجلو من خلال مجموعتها الشعرية الأُولى “هاوية بيضاء في عين طائر”، الصادرة مؤخّراً عن منشورات “لازورد”، إلى عالمها الشعري مثل زيارة بيت العائلة. حيث تبدأ الزيارة بعتبة موحية وهي التعريف بأشخاص هذا البيت، ثمّ بالإهداء إلى أمّها، إذ نجد في القصيدة الأُولى “سُهد” تعريفاً بشخصية الأمّ ومركزيتها في عالم مريم الشعري، ومثل ما تحضرُ الأمّ كنواة في بيت العائلة، فهي تحضر في المجموعة بذات الدور.
كما يتكرّر ظهورها في أكثر من قصيدة ولا يمكن تحديد مسار العلاقة، أو اشتباك شخصيّتين أُنثويتين في فضاء واحد، بقدر ما يمكن تحديد أهمية هذه العلاقة، فهي تارة يشوبها خيال عنيف لا يخلو من شعور بالذنب والندم “وأنتزع بقوّة أخيليوس عيني أُمي”، وتارة أُخرى تكون ملتزمةً بالحدود التي تفرضها الهالة القدسية للأمومة “كُرمى لِحُزن عينَيها المقدّسَتَين/ أفلتَ السَّرابُ هراوتَهُ/ وَتجسّد”.
وهكذا تستمرّ عملية التعريف بأكثر من شخصية على طول المجموعة، ونلاحظ من خلال تكرار عناصر بعينها في كلّ قصيدة، سواء كانت أشخاصاً أو مفردات أو تقنيات، بأن القصائد جميعها منتمية لعالم واحد وهو عالم البيت.
مثل ما نتعرّف إلى شخصيات البيت، فإنّنا نتعرّف إلى أضيق زواياه وأوسع جوانبه بنبرةٍ غير حيادية، حيث تتميّز القصائد بِطاقة عفوية وروح طُفولية بارزة لا تقيّدها ردودُ أفعال الآخرين عن قول ما تشهدُه بصراحة صادمة، ربّما يتّضح ذلك من خلال جُمل طويلة نسبياً وإيقاع يوحي بأنها كُتبت بنفَس واحد، فهي تقدّم مكاشفتها الشعرية استجابة لمشاعر يولّدها استرجاع الذكريات، وتُلقيها كملاحظات على لسان الطفل الداخلي أثناء تقليب ألبوم صور العائلة، دون حساب للعواقب.
تمنح قصائدها الجماد صفةَ الشاهد على التجربة الإنسانية
في قصيدة “رب البيت” تمنحنا صورةً قاسية عن الوحدة، حيث يعيش ربُّ أسرة وحيد يحاصره فراغُ حياته حتى يستحيل قطعة أثاث صماء “أنتَ الآن في صمتِك مريحٌ كَكنبةٍ منتفخة وكلُّ الأرضِ تتسابق لتجلسَ عليك”، ثم تُبرز صورة عن نهايته المحتملة، وهو يستسلم لموته المحتوم من خلال فعل استدعاء يومي هو التدخين: “سيجارةٌ واحدة بعد وتحتقنُ حنجرتكَ بالمرض/ تُطَمئِنُك عبارة ‘التدخين يقتل’/ على الأقل وجدتَ سبباً مقنعاً لتموت/ وأنت تفعلُ شيئاً تحبُّه”.
من خلال القصائد التي تدور في فلكٍ عائلي، نرصد شخصية البيت التي هي بطل هذا الكتاب، حيث تطغى على باقي الأفكار وتتلبّسها، وحتى بقية القصائد التي تنوّعت مواضيعها لا تخلو من مشاهد منزلية وروح بيتوتية، مثل قصيدة “كارما” وهي أطول قصائد المجموعة، تفتتحها مريم بهذا المشهد “عزيزَتي الأرض: يا كَبكوبةَ الدموعِ وَالدّمِ المُزركَشة، أُكلِّمُكِ مِن تحت اللحاف!” وهو مشهد منزلي بحت تتوافر فيه كلّ عناصر السُّكنى.وفي افتتاحيات بعض القصائد مثل “سهد”، و”قصة ما قبل النوم”، و”فراق” وغيرها، نلاحظ أنّها تعتمد “تقنية الرؤية بعين الطائر”، حيث تُقدّم مشهداً بصورة واسعة لشخصيات القصائد من مَسقَطٍ رأسيٍّ يضمن رؤية الأشياء، وظلالها، وبعدها تستغرق أكثر في بيان التفاصيل الدقيقة، وهي تعلن عن ذلك في صورتين متشابهتين، الأُولى من قصيدة “قصة ما قبل النوم” وهي أول صورة فيها “داخِلَ البحرِ أقفُ وَحدي/ مِثلَ منارةٍ بعَينٍ مُطفَأة/ تَسهرُ فوقَ رأسِ رَجُلٍ مَريض”.
والثانية من قصيدة انعتاق “من فوقِ عمود إنارة مُطفأ/ أُحصي مع بائعِ العلكة غلّتَهُ/ وَأساعدُ ماسحَ الأحذية في تلميعِ صُوَرِ المارّة”. وهما صورتان عن مستوى النظر الذي تتّخذه الشاعرة لرصد مشاهد يومية تكتنز قيماً فنية لاستثمارها. وتكون بذلك قد قدّمت قصيدة “بروفايل” متضمّنة تأريخاً نفسياً واجتماعياً لهذه الشخصيات، متجاوزة بذلك الأساليب التقليدية كالمفارقات والمجازات الجاهزة، ومعتمدة على أساليب فيها من الخصوصية ما يميزها عن أصوات شعرية أُخرى “امرأةٌ لا مُبالِيَة تَجلِسُ القُرفُصاء/ تَلِدُ حُزنَها المُضمّخَ بِالمِلح/ مِثلَ فيلَةٍ عِملاقةٍ لا مَخبَأَ تَستَتِرُ فيه”.
في فلكٍ عائلي نرصد شخصية البيت الذي هو بطل الكتاب
اعتمدت مريم أيضاً أسلوب الأنسنة الذي يستنطق الجمادات أو يحاورُها، ونجحت في خلق خطٍّ درامي من خلال منح الجَماد صفةَ الشاهد على التجربة الإنسانية لشخصيات القصائد. ففي قصيدة “اعتراف”، تخلق حواراً فريداً مع حائطٍ في الشارع كان حاضراً في لحظة العتم الإنساني والغضب، كما كان حاضراً في لحظات الحبّ والأُلفة، ودون أن تنسب له أي قول أو تصريح توصِلنا إلى شعور الجماد ورغبته بالإفصاح، لكن من خلال مونولوج داخلي من طرف واحد: “عَينايَ في عَينَي الحائطِ/ يُريدني أن أشِيَ لَهُ،/ بِذُنوبِ كُلِّ من اتّكؤوا علَيهِ/ وَتَبادَلوا القُبَلَ/ وَأطفَؤوا في ظَهرِهِ أعقابَ السجائر”.
ضمّت المجموعة أربعين قصيدة، غلبت على أكثرها المواضيع الذاتية، لكن الشاعرة لم تفوّت استثمار مواضيع أكثر عمومية بطريقة ذاتية أيضاً، فهي استحضرت الأجواء التأريخية في بعض القصائد دون الخروج من العالم الشعري البيتي والحميم الذي رسمته كما ذكرنا سابقاً، بل كان أشبه بحصّة قراءة في زاوية المنزل الدافئ، وعمدت إلى منح إحدى الشخصيات قناعاً تاريخياً، وبهذا أيضاً، يتكرّر فعل الأنسنة من خلال بثّ الروح في جسدٍ من كلمات، لبطلٍ تاريخي مجهول حتى بالنسبة إلى مقولات التأريخ التي تمجّد قادةً كباراً، وتُهمل سِير عشّاق خاضوا حروبهم الكبرى دون ضجيج: “مِن بَينِ طحالِب الذاكرة المَخطوفةِ/ نَسحَبُ أشلاءَهُ بِوُجومِ شاهِدٍ سرّي/ على معركةٍ غفلَ عنها التاريخُ/ لانشغالِ الرُّواةِ بِأخبارِ قادةٍ/ تَبرِقُ رؤوسُهُم بِخوذاتٍ مِنَ ذَهَب”.
تأتي مجموعة مريم متأخّرة في صدورها مقارنةً مع تجربتها المبكّرة في الكتابة، وتقول عن ذلك في حوار سابق لها: “بالنسبة لي متمهّلة في موضوع تجميع نصوصي بين دفّتي كتاب طالما أنّها تجد طريقها ضمن قنوات ثانية، أحبّ أن يكون كتابي إنجازاً شخصياً حين أكون مستعدّة ولدي كامل الوقت للإشراف عليه”. ويتّضح تأثير هذا القرار على شكلِ المجموعة نفسها، فلا نجد تفاوتاً فنياً كبيراً بين قصائد المجموعة، خصوصاً أنّها لا تنقطع كثيراً عن الكتابة كما تصرّح. وهذه قد تكون فضيلة التأنّي، وهي توفير مساحة للحذف والاختيار، يتجلّى ذلك في رشاقة النصوص ونضجها، إضافة إلى تحقيق هدف الخصوصية الشعرية من خلال معجم يومي متفرّد.
* شاعر من العراق
عن العربي الجديد