“حجارة الجوع” الناطقة
عيسى مخلوف
عيسى مخلوف*
“حجارة الجوع” التي تحدَّث عنها الإعلام الغربي هذا الأسبوع تشبه غرباناً تحوم فوق أرض قاحلة تقطنها كائنات ماتت جوعاً، أو هي في طريقها إلى الموت. تَظهر هذه الحجارة عندما يحلّ الجفاف وينحسر الماء عن اليابسة كما الحال الآن في أوروبا مع انخفاض منسوب المياه في البحيرات والأنهار. ينحسر الماء وتظهر إلى العلن صخور كانت مطمورة وقد حُفِرَت عليها عبارات تؤرِّخ منذ قرون لسنوات الجفاف ويرقى أقدمها إلى العام 1417، وآخرها سجَّلَ موجة الجفاف التي حصلت في العام 2018. وقد حُفرت على إحدى الصخور في العام 1616 العبارة التالية: “ابكوا إذا ما رأيتموني”. كلمات تعكس المعاناة التي حدثت ويمكن أن تحدث بسبب سوء مواسم الحصاد، وما يستتبع ذلك من تهديد بالمجاعة، كما حدث، ذات يوم، في أوروبا الشرقيّة. إنّها علامات من الماضي، لكنّها استشرفَت المستقبل الذي هو حاضرنا اليوم بكلّ ما ينطوي عليه من مخاطر.
إنّ انحسار ماء بعض الأنهار كشف أيضاً عن عدد من الكنوز الأثريّة، بالإضافة إلى قنابل من الحرب العالميّة الثانية ظلّت مطمورة حتّى اليوم. “قد تكون موجة الجفاف الراهنة هي الأسوأ منذ خمسمئة سنة”، تقول الباحثة الأساسيّة في “مركز الأبحاث المشتركة” التابع للمفوّضيّة الأوروبيّة أندريا توريتي. وستكون هذه الموجة، بحسب العلماء، إنذاراً لموجات أشدّ خطورة. عشيّة الحرارة العالية التي أصابت أوروبا هذا الشهر، نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسيّة مقالاً ذكرت فيه أنّ فرنسا ستشهد نهاية هذا القرن موجات من الحرارة لا تقلّ عن الخمسين درجة، وما حصلَ أنّها بلغَت بالفعل، في الأيّام الماضية، ما يفوق الأربعين درجة.
ما يزيد الأمر خطورة أنّ ما يطالعنا في العالم الآن – على مستوى تغيُُّر المناخ الذي يُعَدّ أحد التحدّيات الكبيرة التي تواجه البشرية في زمننا الراهن، ويتمثّل في الاحتباس الحراري والتلوّث والفيضانات والجفاف وذوبان الجليد القطبي – لا يحدث بفعل عوامل طبيعيّة وحسب، بل أيضاً بفعل عوامل الإنسان في الطبيعة: حرق الوقود الأحفوري كالفحم والنفط والغاز. وما يساهم في إطلاق ثاني أُكسيد الكربون، بالإضافة إلى وسائل النقل والمصانع، حرائق الغابات وتربية المواشي ومدافن القمامة واستهلاك الطاقة واستخدام الأراضي والثروات الطبيعيّة بصورة همجيّة لا سابق لها. قبل القرن التاسع عشر، كانت التغيّرات البيئيّة طبيعيّة كتغيّرات الدورة الشمسيّة، لكن، اختلف الأمر بعد ذلك، وأصبحت الأنشطة البشريّة سبباً أساسيّاً في تغيُّر المناخ.
في هذا السياق، نُشِرَت مؤخّراً خمسون صورة فوتوغرافيّة تكشف إلى أيّ مدى تبدّلت ملامح الأرض خلال الخمسين سنة الماضية. صور رائعة ومرعبة في آن واحد لكوكب يتغيّر مصيره (لم يعد، في أيّ حال من الأحوال، كما كان منذ أمد قريب) ومصير الكائنات التي تعيش على سطحه. والصور مُحصِّلة برنامج القمر الصناعي “لاندسات” الذي أطلقته وكالة “ناسا” في العام ١٩٧٢، وهي جزء من ألوف الصور التي التُقِطَت للأرض من الفضاء وتُظهر بشكل واضح تماماً جمال الأرض الهائل، وكذلك الآثار المدمِّرة للتغيُّر الحاصل.
السؤال المطروح بحدّة اليوم: مَن الذي سيواجه التحديات الكبيرة القائمة وينقذ الأرض ومن عليها من هذا الجنوح الذي يبدو معه العالم الآن على شفير هاوية؟ أم أنّ أصحاب القرار، القابضين على زمام الأمور، لا يعنيهم ذلك، وهم يفكّرون، وفق حسابات الربح والخسارة، في اللحظة الآنيّة فقط، وبما يتناسب مع مصالح هذه الدولة أو تلك؟ وهل يمكن التعويل على هؤلاء وسياساتهم الاقتصاديّة هي التي أوصلت الأرض إلى هذا المصير؟ هل يمكن أن يأتي الحلّ ممّن يأخذون العالم إلى حروب لا تنتهي ويهدّدون باستعمال الأسلحة النوويّة وجودَ البشريّة جمعاء؟
يقول عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران إنّ “تناقضات نظام ما بإمكانها أن تفرز أُسساً تؤدّي إلى تجاوز هذه التناقضات والتغلّب عليها”. وهل لدينا الآن في الأفق سوى تصديق هذا الموقف الذي يحيلنا إلى العبارة الشهيرة التي أطلقها الشاعر والفيلسوف الألماني هولدرلين: “حيث يستفحل الخطر، ينمو أيضاً ما يُنقذ وما يساعد على الخلاص”.
شاعر وكاتب لبناني مقيم في باريس
عن صحيفة نداء الوطن