غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ| القسم الثالث
د.صلاح نيازي
من كتاب السيرة الذاتية للشاعر العراقي صلاح نيازي
ولدتْ مرحلة أدبية جديدة. انتهى أنين النفوس اليائسة البائسة فلنبدأ بالتفاؤل. لا نعرف كيف نتفاءل ولا كيف نفرح؟ لجأت الأمة إلى الخطب أولاً، واقتصر الأدب
على الشعر والمقالة والتعليق. انقطع التأمل وانهار الصمت الذي يرافق المختبرات العلمية عادة. ضوضاء ووشوشة هنا وهناك، تسربت الإشاعات من الشوراع إلى البيوت. يتآكل النظام أيّ نظام بالإشاعات أولاً؛ لأنها تمتزج بالأنفاس، تشربها مع الماء، وتزدردها مع الأكل. من نتائجها زعزعة الثقة بالنفس من ناحية، والتشنج وانتفاخ الأوداج من ناحية ثانية. تشنجت الثورة وانتفخت أوداجها.
قُتِل أخي.
(كتبتُ عنه قصيدة طويلة نشرت بكراس عام 1961 عنوانها «کابوس في فضة الشمس»).
قُتل عبد الكريم، دُفن فعُبِدَ ثم نبشته الحكومة وألقت جثته في النهر.
دخل (القطار الأمريكي) إلى العراق. وتوحش البشر، كأنما لم يكونوا من صنع الله وخلقه. فنون منوعة في التعذيب وقص الألسن، والاغتصاب، وتغطيس الموقوفين إلى حد الفم ببرك البول والخراء. كلما ركد السائل، حرّكه الحارس بعصا طويلة لتصعد الأمواج إلى أعلى الهامة. الويل للبشر القصار القامة، يجبرونك على التغوط والتبول في طاسة أمام رفاقك. ترمي الفضلات، ويمنعون عليك تنظيفها. يجوعونك عمداً. يصبّون أكلك في تلك الطاسة. تأكل وأمرك إلى الله، ويغتصبون أمك، أختك، زوجتك أمامك، ثم يغتصبونك.
الهروب بالجلد، أقصى ما يمكن من طموح، واللعنة على مسقط رأسك.
جاءني المرحوم حسين مردان، وأخبرني أن وزير الإعلام قال له: «لا نمنع شاعراً من السفر، ولا نقتل شاعراً، دم لوركا عبرة لنا».
قطعت التذكرة من بغداد إلى لندن عن طريق القطار. كنت بلا لغة ولا فلوس ولا حتى فضول. الهروب بالجلد، النجاة، الابتعاد عن الكابوس: هذه كلمات جديدة دخلت في قاموسي الشخصي. أصبحت أساسية، أصبحت فلسفتي التي أواجه بها الحياة. أطبق اليأس علي. اختنقت، اختنقت، أمنيتي الوحيدة لا الوصول إلى لندن، لا العيش، ولكن الموت في مكان آخر. الموت بإرادتي أقصى حلم. أردت أن «أحس اللذة السوداء في الوفاة» كما قلت مرة في قصيدة «کابوس»۔ أردت أن أختار نوع موتي كما أختار السهروردي موته. أشقُّ شيءٍ علي أن يشفي قاتلي غليله. أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه مهاناً مذلاً. أمنيتي أن أحرمه من إشباع حقده.
أين أسكن؟ ماذا أعمل؟ هل أعود؟
حتى هذه الأسئلة المصيرية، لم تعد لها أهمية.
شيء لم أقله حتى لزوجتي إن حياتي انتهت حقاً، وإنني ذاهب للتفتيش عن موت کریم
كان مساء المحطة رصاصياً. الأصوات لغط ودويّ. الشرطة في كل مكان بعيون مدققة مرعبة. آخر مشهد لي ببغداد، وقوف زوجتي دامعة وهي تحتضن ابنتنا وإلى جانبها نجيب، مُصفرّاً صامتاً، وفي وجهه صمت إله حائر. لم أدمع، كانت عروقي كلها ممتلئة بالدموع. تشربتها ملمحاً ملمحاً، وتنفستها آهة أهة. كان وداعَ مَنْ سيسلم الروح. تحركت أرجل القطار، وشعرت باللذة السوداء، وأطبقتُ عينيّ بأرقٍ مسنون. من مدينة إلى مدينة، ومن قطار إلى قطار، كنت أحمل جنازتي، وكلما ابتعدت شعرت أن أمنيتي تتحقق في الموت بعيداً. شعرت بسعادة حقاً. كل يوم جديد هو إطالة في دفني خارج تلك الحدود الطاحنة.
بعد ليلة متقطعة ونوم شاق، وصل القطار إلى الموصل. ماتزال نائمة، توقظها الشمس بحنان وتزوقها بالألوان تدريجياً. جبال؟ لأول مرة في حياتي أرى جبالاً.
سلّمنا جوازات السفر، وبعد حوالي نصف ساعة، نودي عليّ وأمرتُ بإنزال حقيبتي. قيل لي أنت ممنوع من السفر. كان جوازي رسمياً. يبدو أن دائرة الأمن بالموصل لم تبلَّغ بذلك، ما الذي أفعله؟ المكاتب ببغداد ما تزال نائمة، والقطار سيتحرك في وقت معلوم.
بمصادفة قريبة من المعجزة تذكرتُ ابن عم لي كان مدير الحركات العسكرية في الشمال. اتصلوا به وجاء مع ثلة من العسكريين الأركان بأقل من نصف ساعة، واتجه فوراً إلى المسؤول الأمني، لكن لابدّ من الاتصال ببغداد.
جرّني من يدي ورحنا نسير على رصيف المحطة. كانت هذه أول مرة نتكلم على انفراد. تعرفتُ على بذلته وطوله ومشيته، وتمعنت بصوته الريفي الخالي من أية عبارة مأخوذة من كتاب. قال لي لا يهمك، حين أخبرته عن قلقي على موعد القطار. هل أمر بتأخير القطار؟ قال لي أيضا بوجه خائف وصوت متوشل، لم ننم البارحة. أنهينا كل عتادنا في المعركة مع الأكراد، كانوا يتنقلون بأضويتهم من صخرة إلى صخرة بسرعة عجيبة. قال تبين لنا في الصباح أنهم شدوا ما يشبه الفوانيس الصغيرة بأعناق الخراف والماعز وكلما أمطرناها رصاصاً راحت تتراكض مذعورة من مكان إلى آخر.
جاء المراسل العسكري. أدّى التحية، بما يليق بطول ابن عمي وبذلته ورتبته، وأخبره أن معاملتي انتهت. كان رد فعلي بارداً. لم أشكره كما ينبغي، ولم أصافحه كما ينبغي. لم يكن ذلك رد فعل على استقباله البارد لي. عاملني وكأني نصف غريب، نصف أحد معارف أصدقائه. كنا نبطن غير هذا بالتأكيد، فهو ضابط مسلكي، وأنا يساري، أراد أن يسير المعاملة وكأنها مسألة إنسانية ووفاء لصديق ما، وكنت بدوري أحرص على عدم صبغه بصبغتي، لكنه همس بأذني بتأوه: أوصيتُ شرطيي القطار برعايتك. صعدت على القطار، وما هي إلا دقائق سريعة وتحرك. ومعه تحركت الدنيا والجبال والأشجار، ثم دخلنا في لا مكان من الخلاء الشاسع. كان إلى جانبي رجل متأنق، وألوان بذلته طازجة زاهية، حاول أن يستنطقني عن وجهتي، وعن أسباب سفري، فتحفظت بحكمة. لكنّ شرطيي القطار الذين أوصاهما ابن عمّي بي أمامي على بعد ثلاثة مقاعد. عيونهما متسمرة لا تفارق جلستي. أحسستُ وكأني في قفص لا أمتلك أية حرية.
قبل أن نصل إلى الحدود السورية توقف القطار ببطء. قام الشرطيان واتجها ناحيتي. هل سأرمى هنا؟ هل خذلني ابن عمي؟ هما فوق رأسي الآن.
«قم» قالا للرجل المجاور لي، أين حقيبتك؟ انزعْ سترتك. انزعْ حذاءك. أخذ كل شرطي فردة، ونفضاهما بقوة فاندلقت منهما صرتا دنانير، اُقتيد حافياً.
ظلّ المكان المجاور لي خالياً، وظلّ مكان الشرطيين خالياً فشعرتُ بخوف ورهبة وحيرة، لم يكن أحد غيري في هذه المقصورة.
حين دخل القطار إلى مدينة حلب البيضاء انتهبتني عاطفتان، مرمر القبور والتماثيل الثابتة، ولون خطيبة صديقي الحلبية. كان بياضها غير مشع، وإنما مثل بياض ورود الراسقي. أبيض متواضع يتشرب نفسه ويظهر عليه لون رمادي خفيف. علّمني هذا الصديق كيف يعشق الأسلوب الأدبي، ومعشوقاه کتاب الأيام لطه حسين وكتاب سارة للعقاد. طريقته في القراءة فريدة. يقفل عليه الغرفة ويترنم بصوت عالٍ، يقسم أنه يسمع موسيقى خفية في الأسلوب، ويبكي حقيقة. كان هذا الصديق الذي لم يعشق إلا كتابين، أقرب الناس إليّ، وهو أول شخص أقابله يزور بلدة غير العراق. حشرجاته وهو يذكر حلب وخطيبته واضحة محزنة. أحبّ حلب وأحبّ خطيبته الحلبية. السر الوحيد الذي أخفاه عني لمدة شهور، هو أنه كان يكتب إليها رسائله بدمه،.ينخس طرف إصبعه بدبوس، ومن حبر دمه يكتب. بالمصادفة وهو يقدم لي سيجارة (هو الذي علمني على التدخين) رأيتُ حزوز الجراح بأصابعه، تساءلت. سرد لي القصة. لا أدري هل كان حبّاً به، أم ألماً لألمه قلتُ له، ضاحكاً، خُذْ دم دجاجة واكتب ما تشاء. أخذها على محمل الجد. ثم قرر الذهاب برفقة والده المترف الغني في اللغة والملبس إلى حلب ليتم عقد القران. قال لي إن لغتهم مختلفة ومطعّمة بأرق الكلمات. حين وقف القطار في محطة حلب، رأيتني وكأني غيري، كائن بمئات من الحواس. أريد أن أرى، أريد أن أسمع، أريد أن أحلق، ولكنني تسمرت بباب القطار خشية أن تطير حقيبتي. كم تشوقتُ لأن تطأ قدمي أرض حلب، أن أشرب ماءها، أن أشم وردها، أن ألمس نباتها، ولكنني خفت أن يتركني القطار ويرحل.
حين صوّت القطار وهسهست عجلاته وتقوس دخانه، كنت مازلت أنظر من نافذة القطار حتى آخر بيت وشجرة. كل شيء كان يتراجع إلى خلف. لا أدري لماذا في تلك اللحظة رثيت لنفسي وتأزمت. هل لأن حلب أختفت نهائياً؟ شعرت والقطار مندفع إلى الأمام، أن كل المدن والغابات والجبال وهي تتراجع كأنها أشياء تستلب من حياتي.
رجعت إلى المقصورة فوجدتُ مقعدي يحتله سوري، وإلى جانبه شاب أحدب بادي النعمة، وفي المقعد المقابل عجوز ملفوفة بأغطية وتتأوه.
أمرني السوري أن أفتش عن مكان آخر، ورمى شنطتي في الممر. توسلت إليه، وتضرعت. لم تطرف له عين. إلا أن العجوز تدخلت بصوت هزيل وطلبت من ابنها الشاب الأحدب، أن يجلس إلى جانب رجليها.
قال السوري: على شرط أن تقول لشرطة الجمارك أن البذلات الثلاث هذه وأشار إليها، هي لك. كان في المقصورة كذلك سوريان ينامان في مكان الحقائب.
لم تكن اللهجة السورية التي كنت مسحورا بها، مطعّمة بالرقة. الأحاديث تدور بينهم باقتضاب، ولغة عيونهم زائغة وكأنهم غرباء عن بعضهم بعضاً. أشاعوا – أو خيّل لي ذلك – جواً مشحوناً بالريبة.
أما العجوز المتدثرة، فراحت تئن بلا انقطاع. وبين أنين وأنين تشتم ابنها وتدعو عليه بالشر، وتختم دعواتها ب «الله يفضحك».
كان الشاب الأحدب بملابسه الأنيقة، وعافية وجهه المحمرة، وعطور حلاقته، لا يستقر في مكان. راح يتنقل بين المقصورة والممر والتواليت، يتحدث إلى السوريين الذين بدوا غرباء، بلهجة سورية، ويتحدث إلى الأتراك الباعة بطلاقة…، كنت صامتاً متنملاً، أنظر في بعض الأحيان من نافذة القطار إلى المشاهد المتراجعة لأتفادى الجو المتأزم في المقصورة.
حاول الشاب الأحدب أستدراجي للحديث، ثم رشّ بوجهي أسئلة للتعرف على توجهي السياسي. سألني عن اسمي أولاً فرآه لا يندرج في خانة سياسية أو طائفية، سألني عن مسقط رأسي، فازداد حيرة، ثم عن دراستي ومهنتي. وحينما فشل أمطرني بمغامراته، وأمطرته أمه المتدثرة بـ «الله يفضحك». من أول جملة له عرفته من العناصر التي أطاحت بعبد الكريم قاسم عام 1963، (كان يبالغ بلاشكّ) ولكن في الجمل التالية، فزعتُ مما ذكره حتى لو كان ادعاء. قال حينما قامت الثورة ذهبنا من بيت إلى بيت، وألقيت القبض على فلان وفلان، وعدّد أسماء أشخاص، من بينهم أصدقاء أثيرون لدي. قال اعترفوا جميعاً، ولكننا كويناهم بالنار أحرقنا جلودهم، وقد أحرقت بيدي هذه بطن فلان (سكرتير الحزب الشيوعي) إلى أن مات.
لم أحزن كما ينبغي، لقد وصل بي اليأس إلى درجة ميئوس منها، وكل شيء يحتمل وقوعه. ذكرت له الدم يورث الدم، لكن بغير هذا الكلمات، فصاح: خونة، يجب أن نطهّر العراق منهم. الطريقة التي قال بها خونة، والصمت الذي تبعها ونظرته التي ثقبتْ وجهي، عرفته أنه يعنيني كذلك، ولم تخفَّ توترات وجهه إلا بصيحة أمه: الله يفضحك.
توقف القطار عدّة مرات بين حلب وتركيا، وسمعنا إطلاقات نارية تشتد وتخفت. عرفنا أن قتالاً معتاداً يدور بين الشرطة والرعيان والمهربين على حدود البلدين، ولكن ما أن دخلنا حدود تركيا حتى وقف القطار وكأنه برك بلا أقدام.
صعد البوليس التركي. وجوههم لا تقبل المساومة.
أطلّ ثلاثة شرطة على مقصورتنا وتفحصوا الوجوه. كنت أشعر بطمأنينة، لا لأنّهم تجاهلوني نهائياً؛ لكن عدم معرفتي بلغتهم أصبح حاجزاً أميناً بيننا.
أشاروا إليّ بالقيام، وانزلوني من القطار، وبعد دقائق انزلوا السوريين الثلاثة والشاب الأحدب. ذهبوا بالأربعة إلى مخفر الشرطة. بقيت واقفاً. انتابني شعور غريب حقاً وأنا بين القطار ومخفر الشرطة. مرة أخرى شعرت بأنني منقطع الجذور، وأن مصيري شيء لا يُؤبه به، شيء تافه ورخيص.
مضى على وقوفي بين القطار والمخفر حوالي ربع ساعة، كان الجو بارداً إلى حدٍّ ما، لكن البرودة أخذت تزداد مع خوفي وانقطاع الأمل.
جاءني شرطي بابتسامة غليظة، يحملها بعنف تحت شاربين كثين بثخن إصبعين، قال أشياء تركية، وأشار لي بالصعود إلى القطار.
دخلتُ المقصورة فإذا كل شيء قد تغيّر. كان ما يزال شرطيان في المقصورة، منهمكين في فتح ألواح المقصورة الخشبية، ومن شباك النافذة تكلموا إلى شرطة المخفر بصوتٍ عالٍ سريع. أُنزلتْ عشرات أطوال القماش المهربة (كان هذا بلاشك سبب منعهم لي من دخول المقصورة بحلب). أشاروا إلى البذلات الثلاث، فأومأت أنها ليست لي. لم تبقَ إلا العجوز المتدثرة التي أخذ أنينها يزداد، بينما أخذت لازمتها: «الله يفضحك» منحى شرساً.
لم يرجع السوريون الثلاثة، إلا أن الشاب الأحدب، وعلى وجهه أمارات خيبة عميقة، ظل حتى داخل المقصورة يتحدث إلى الشرطة بتوسل ويشير إلى أمه التي غاص وجهها الآن تحت اللحاف، فأصبح الأنين مكموداً، وكأنها قررت الموت على طريقتها الخاصة. نزل البوليس، وتحرك القطار. بات وجه الشاب الأحدب مُنسحقاً. وقف. راح ينظر في الممر، وقال لأمّه المتدثرة: «يالله قومي». .
صاحتْ قبل أن تقوم: «الله يفضحك» بحرقة. دارت على نفسها عدّة مرات، ونزعت أكواماً من لفات القماش المهربة الملفوفة على جسمها، فاذا هي امرأة هزيلة الجسم ومعافاة. لم نتبادل أية كلمة بعد ذلك، وحين نزلنا من القطار لم نقل وداعاً.