قراءة في ماهية العشق عند ابن سينا

محمد الحسين

لكل إنسان انشغال ، ولكن ليس هناك أفضل من انشغال العشق، كما يقول الشاعر الفارسي سنائي الغزنوي في أحد مثنوياته :

“فالعشق ليس عبثا،وليس هنالك هوس أفضل من العشق”والإنسان من دون العشق فإنه ليس إلا فراغ، إنما فراغ يشغل حيزا من الوجود، فراغ مملوء بكل ما هو فارغ، وكما يؤكد سنائي مرة أخرى أنه ليس سوى جماد :

“الرجل جمادا بدون العشق

فالحب شيء متأصل في وجود الإنسان، والبحث فيه بحث في حقيقة الإنسان، وقديما كان الفيلسوف والطبيب فخر الدين الرازي قد بحث في العشق بحثا فلسفيا من باب المتعة، وهو يقرن مفهوم

الحب مع مفهوم الجنس باعتبارهما ينطويان على المتعة، وهو يعد الحب نوعا من البلاء، و واحد من بلاءات الإنسان.

وأما عن أي عشق نتحدث؟ فمن المعروف أن العشق يأتي في ثلاثة انواع حسب نوع النفوس بالاستناد إلى تصنيف اخوان الصفا وهي النفوس الشهوانية والتي يكون عشقها للأكل والشرب والنكاح، والنفوس الحيوانية والتي يكون عشقها للغلبة والثروة والسلطة، اما النفوس الناطقة فإن عشقها يكون للمعارف والفضائل.

واخوان الصفا يبتون في قولهم أن المعشوق الأول والحقيقي هو الله. وقد جاءت إحدى رسائل اخوان الصفا في العشق وذكروا فيها أقوال الحكماء فبعضهم اعتبر العشق رذيلة، أو مرض نفسي، أو جنون إلهي، أو همة نفس فارغة، أو أنه فعل البطالين.

لم يكن هناك اتفاق على تعريف العشق، إذ كثرت الكتابات الفلسفية في هذا الموضوع، ففي الفلسفة المتعالية نجد السهرودي أنه لم يغفل في أن يترك رسالة في العشق يتحدث فيها عن العشاق الذين تسفك دمائهم عندما يبوحون باسرار عشقهم. وأما في الإشراق فإن صدر الدين الشيرازي الذي جاء متأخرا بعد السهرودي بعدة قرون فإنه فاق سابقيه بجرأته في الحديث عن العشق، وقد قال أن الموجودات جميعها عاشقة لله.

قبل ذلك كان ابن حزم الأندلسي قد وضع رسالته الشهيرة في الحب “طوق الحمامة” وكان اجرأ من سابقيه ولاحقيه في التباحث في موضوع العشق والمحبة، وقد أغنى الموضوع أيما اغناء، وهو

يضع محبة الله في المراتب العليا من مراتب العشق، وقال إن كل أنواع المحبة تزول الا العشق الإلهي فإنه لا يزول الا بالموت.

لقد كتب في العشق كل من الشعراء والأدباء والصوفية والفلاسفة، واللاهوتيين، أما الكتابات التي تعود بفائدة كبيرة فهي بلا شك تلك الكتابات الفلسفية.

بيد أن أول من بحث في موضوع العشق في الفلسفة الاسلامية هو الشيخ الرئيس ابو علي ابن سينا وقد خصه برسالة هي من بين أهم آثاره.

أبو علي ابن سينا هو فيلسوف وطبيب وعالم وشاعر، اشتهر لاشتغاله بالفلسفة والطب، ولد عام ٩٨٠م في بخارى في ما وراء النهر (أوزبكستان حاليا) وتوفي في همدان عن عمر ناهز السادسة والخمسين عاما، وهو فارسي الأصل والنشأة، تأثر بالفارابي والرازي والبيروني والكندي وابوقراط.

يبحث ابن سينا في رسالته هذه عن العشق الكلي في الكائنات، ويبين فيها أن العشق يتدفق في كل شيء مثله مثل العدوى التي سرت في كل الموجودات على اختلاف هوياتها ونفوسها وطبيعة القوى فيها، والنفوس كما يقسمها ابن سينا هي : نباتية تنمو وتتولد وحيوانية تتحرك بالأرادة وتدرك الجزئيات والنفس الإنسانية التي تدرك الكليات.

كما أن ابن سينا في كتابه الشهير “القانون” أشار إلى أن العاطفة مرض من الامراض، وقد عالجها بطريقة تكرار اسم المعشوق،

استنادا إلى أن نار المحبة يضرمها نار المحبوب، وفي ذكره يمكن خمد تلك النار وفي ذلك قوله تعالى :”الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم” وطريقة ابن سينا هذه في تشخيص العشق والتي اهتدى إليها من وحي القرآن، كان أيضا قد اهتدى إليها فرويد فيما بعد لمعالجة الأمراض النفسية. والجدير بالذكر أن ابن سينا قد أخذ هذه النظرية نصا في الأصل من فيلسوف اليونان الشهير ابوقراط.

كتب ابن سينا رسالة ماهية العشق في سبعة فصول والتي كان لها الفضل والتأثير الكبير في بناء نظرة صدر الدين الشيرازي عن العشق، بحيث أنه أي الملا صدرا قد أخذ يقتبس من مضمونها ما يدعم رؤيته الفلسفية في العشق.

وقد كتبها ابن سينا باللغة العربية بناء على طلب من تلميذه ابو عبدلله المعصومي، و ترجمت فيما بعد إلى اللغة الفارسية. وهي مختصرة أقرب إلى البحث أو المقالة فهي في حدود ما لا يتجاوز الثلاثين صفحة.

تحدث في الفصل الأول عن العشق في مختلف الهويات، وفي الفصل الثاني تطرق إلى العشق في الجواهر البسيطة الجامدة، وفي الفصل الثالث جاء الحديث عن وجود الحب في النفوس النباتية، والفصل الرابع جرى فيه الحديث عن وجود الحب في جوهر الكائنات الحيوانية، والفصل الخامس تطرق فيه إلى عشق الحسان، وتطرق في الفصل السادس إلى العشق الإلهي، ثم راح يلخص ويعلق لكل ما ذكره في الفصل السابع وهو الاخير في رسالته.

يرى ابن سينا أن كل كائن لديه نزعة غريزية نحو الكمال، وأن كل مخلوق يسعى للتخلص من النقص والوصول إلى الكمال، فيكون الحب سببا رئيسيا في دفع الإنسان إلى هذه النزعة، إن الحب يمنح الكماليات، والحب في النهاية ليس سوى الخير بطبيعته. وكل إنسان إنما يحب الخير المطلق، ثم إن الخير معشوق بذاته، والخير نفسه عاشق للخير

فعندما عرف ابن سينا الحب على أنه مرض كما في كتابه “القانون” عاد ليناقض هذا الرأي ويغير نظرته تماما في هذه الرسالة فأخذ يعرف الحب على أنه أمر حسن ولطيف وخير. والحب عند ابن سينا نوعان طبيعي واختياري، والطبيعي يقصد به العشق الضروري الحتمي، وأما الاختياري فهو الحب الطوعي.

ويرى ابن سينا أنه من الضروري أن يعشق الإنسان على اساس المظهر وإن كان في ذلك اندفاع للغريزة الحيوانية والتي ستشكل خطرا على الروح العقلانية، فإذا كان الإنسان يحب على اساس الجمال من أجل المتعة فهو متورط في عشق الورطة أو في ورطة العشق، أما إذا كان الإنسان يحب على اساس العقل فكان في ذلك الخير والفائدة.

يجزم ابن سينا في أن محبة الله لذاته هي أعلى مستويات الحب، ذلك لأن الله واصل لأعلى درجات الكمال، وبعيد عن مصادر الشر، ثم أن الله لا يحمل الشوق لأن ليس ثمة شيء بعيد عنه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *