الميرداما فيلسوف فارسي مغمور
محمد الحسين
الميرداما فيلسوف فارسي ذو شأن، صاحب الكتاب الشهير “القبسات” والذي يعد مرجعا هاما في الفلسفة الاسلامية، وهو استاذ العالم الجليل صدر الدين الشيرازي والذي تأثر به تأثرا شديدا، كما ويعد المؤسس لمدرسة اصفهان العلمية، وقد جاء ذكره في كتاب “روضات الجنات” أنه رجل فيلسوف عظيم ذو مواهب خارقة، وذكره الحر العاملي وقال عنه أنه متوغل في العبادة، ويقول عنه ايزوتسو المستشرق الياباني : “الميرداما من أعظم الفلاسفة المسلمين، وان فلسفته أثرت بشكل كبير على الفلسفة المتعالية.”
هو السيد محمد باقر بن محمد الحسيني الاسترابادي المشهور بالداما أو الميرداما، كانت ولادته في العهد الصفوي في القرن العاشر الهجري في إيران (بلاد فارس) فيما يقال لها استراباد / جرجان حاليا، والمرجح في عام ٩٦٠ أو ٩٦٩ هجرية، ينتهي نسبه إلى الأمام علي ابن الحسين (ع)، وكان والده السيد داما هو من أطلق عليه لقب الميرداما، فنشأ في عائلة علمية متمكنة في علوم الدين، وقد درس في خراسان / مشهد على يد الشيخ العاملي، ثم رحل إلى هرات في افغانستان وهو لم يبلغ العشرين من عمره، لملازمة دروس استاذه، وفي فترة إقامته بهرات عُرف عالما نابغا في العلوم والفلسفة، وعاد بعدها ليقيم في شيراز.
هاجر الميرداما إلى اصفهان بعد إن شبع ذهنه بالعلوم الطبيعية والدينية، فغير دراسته للفلسفة درس أيضا الفيزياء والرياضيات، والفقه والأصول وعلم الكلام. وفي الوقت الذي كانت فيه اصفهان مليئة بالمدارس العلمية، وحافلة بالعلم ويرتادها كبار العلماء والفلاسفة، لذلك أختارها الشاه عباس الصفوي عاصمة للدولة الفارسية الصفوية، بدلا من قزوين، وقد كان الميرداما مدرسا للمحكمة في مدرسة “خوجه اصفهان” ، وقد أسس فيها الحوزة العلمية حيث جمع فيها العلوم العقلية والنقلية. فالعلوم النقلية هي التي تأتي من الأقوال وتحقق عقليا، وأما العلوم العقلية فهي التي تستند إلى العقل والمنطق وهو ما برع به الفيلسوف الميرداما، فضلا عن جمعه بين الفلسفة الاشراقية والفلسفة المشائية.
وفي عصر الميرداما أصبحت حوزة اصفهان تطفح بالعلم والحكمة، وصار الطلبة يقصدونها من كل صوب، واصبحت مصدرا هاما للعلماء، وكان الفضل في ذلك بلا شك يعود لعبقرية الميرداما الذي لعب دورا كبيرا في تدريس الحكمة، بالإضافة إلى الشيخ البهائي وغيرهم من العلماء المسلمين الافذاذ.
والفيلسوف الميرداما نال حضوة كبيرة عند البلاط الصفوي، وكان مرافقا للشاه عباس الصفوي، وقد عاصر العديد من العلماء المشهورين وعلى رأسهم الشيخ البهائي، والذي كان من أصدقائه المقربين على الرغم من الاختلاف الشاسع في افكارهما وارائهما، وعاصر أيضا الميرفندرسكي، وهو فيلسوف فارسي متبحر وأستاذ في الفلسفة المشائية، كما عاصر صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين والذي كان أحد أهم تلامذته.
تأثر الميرداما بأستاذه العاملي، وكان تأثره بالسهرودي والفلسفة الاشراقية كبيرا، كما تأثر بالفلسفة المشائية وبأبن سينا، وهو يقول بنفسه أنه شديد الشبه والقرابة بفكر الفارابي وابن سينا، فإلى جانب الفلسفة كان الميرداما خبيرا في الفقه وعلم الأصول، والعرفان، ودائما ما يصفه الباحثون الإيرانيون بأنه عالم لاهوت من الدرجة الأولى، وعادة ما يلقب بالمعلم الثالث، على اعتبار أن ارسطو هو المعلم الأول والفارابي هو المعلم الثاني، وبعضهم يضعه في مرتبة المعلم الرابع ذلك لأن فيلسوف الأخلاق ابن مسكويه كان قبله المعلم الثالث.
وللميرداما مؤلفات كثيرة وهي من أهم الاطاريح الفلسفية، وفي مقدمتها كتابه المشهور “القبسات”، وقد نالت آثاره التي بلغت نحو المئة مؤلف الكثير من الاهتمام والعناية ومنها : (الصراط المستقيم، الرواشح السماوية، شرح الاستبصار، ضوابط الرضاع، تأويل المقطعات، نبراس الضياء، شرعة التسمية، أُنموذج العلوم، الحبل المتين، السبع الشداد، شارع النجاة وعيون المسائل، إثنا عشر رسالة، الأُفق المبين، حدوث العالم، مفهوم الوجود) كما وله ديوان شعر بالفارسية والعربية.
مع كل ذلك كان الميرداما واحدا من عشرات الفلاسفة المغمورين، حيث لا نعرف عن حياته الكثير من التفاصيل، ولم ينل حقه الكامل من البحث والدراسة والنقد، لا في الماضي ولا في وقتنا الحاضر، وثمة اسباب كثيرة في ذلك الإهمال الذي طال فيلسوف بلاد فارس ومنها ما يرده الأستاذ الدكتور موسى الموسوي إلى أن الميرداما لا يشار اليه بالبنان لأنه وضع فلسفته في إطار غامض، وشبعها بالطلاسم والالغاز، فالميرداما فيلسوف غامض، كتب فلسفته للخواص، على الرغم من أن فلسفته لم تكن إلا قبسا من الفلسفة الاشراقية تلك التي ابتدعها من قبله السهرودي، وفي هذا الجانب نجد الميرداما يقول بنفسه : “يجب أن يكون المرء مدرك جيداً أن فهم كلامي يحتاج إلى فن، وليس المجادلة معي والنقاش”.
ولعل سبب اخر يقف وراء هذا الاندثار وهو ان الملا صدرا الشيرازي كان الشخصية المحورية في المدرسة الاصفهانية حيث طغى ذكره لدى الباحثين ما لم يجعلهم يفطنون إلى أنه في الواقع هو أن الشيرازي كان متأثرا بالميرداما ولا يمكن فهمه بشكل دقيق دون فهم فلسفة الميرداما، كما أن الميرداما كان فيلسوف فارسي شرقي اشراقي، وهذا كفيل وحده بأن يطاله
التقصي كما أعتقد، غير انه في الواقع هو بالذات ما ينبهنا ويجذبنا لكشف الستار عنه والاهتمام به. وفي حقيقة الأمر فإن فلسفة الميرداما لا غنى عنها لكل باحث في الفلسفة الشرقية، فهي تطرح أسئلة ملحة كثيرة وتضع لها أجوبة شافية، بالإضافة إلى أن بعض أفكاره يمكن أن نقول عنها أنها أفكار حداثوية، حيث أنه أحرز تقدما في ابتكار مقولات في الوجود وعلم اللاهوت لم يسبق لها العلماء من قبله.
فقد كان الميرداما من جملة الفلاسفة والعلماء الذين اعتقدوا بقدم الزمان، وقد ناقش الفكرة التي تقول (أن العالم ليس له بدء زماني.) وحللها تحليلا شاملا، وهو يقول في هذا الموضع : “الزمان لم يتكون اولا فأولا بأجزائه، فإن اجزاءه يتقدم بعضها بعضا بالزمان، والزمان حادث عن حركة الفلك، فمحال ان يكون لحدوثه بدء زماني.”
والوجود عند الميرداما باختصار شديد متشكل من ثلاث بنيات وهي وجود سرمدي، ودهري، وزماني. فالأول هو المتمثل بوجود الله من حيث لا بداية لوجوده، والثاني هو وجود الجوهر الثابت حيث أن الدهر حد بين اللابداية واللانهاية، وأما الثالث فهو ما يقصد به الموجودات الفانية. وفي هذا التصنيف سبق الميرداما فلاسفة الوجودية المعاصرين في السؤال حول الوجود والجواهر. وفي هذا المنطلق
يقول الميرداما :”نحن متى قلنا الوجود فإننا نعني به الموجود اي إن المقصود بالوجود هو صيرورة الماهية وموجوديتها، المأخوذة من نفس الماهية المتقررة…” ويقول الميرداما أيضا في موضع آخر من بعض مؤلفاته : “أن النفس ما دامت منغمسة في جنبة البدن فهي في حيز الزمان، فإذا فارقت ورجعت إلى عالمها فهي في حيز الدهر، وأما العقل فإنه في حيز السرمد. “
ويناقش الميرداما مسألة الارادة الحرة، إذ أن حرية الإنسان وعدالة الخالق هي من بين المواقف الرئيسة التي يقف عندها فكر الميرداما، فهل الإنسان حر ذو إرادة حرة؟ وكيف يكون الثواب والعقاب عند الإله العادل؟ فإذا كان للإنسان حرية في أفعاله، أين سيكون خط الخالق في مسألة القضاء والقدر؟ لذلك هو يقسم القدر إلى قسمين هما عيني وعلمي، اي ان الحوادث تكون
في العلم وكذلك في العالم الخارجي، بمعنى أن ما يصدر عن الإنسان من افعال الخير والشر إنما هي من أسباب العلم الإلهي وليس العكس تماما.
لقد توفي العالم الجليل والفيلسوف النابغة الميرداما، ورحل عن دنيا الغرور بهدوء تام بعد حياة حافلة بالعطاء، وكانت وفاته في حدود العام ١٠٤١ هجرية عن عمر ناهز الثمانين في العراق، حيث كان الميرداما متوجها لزيارة أولياء الله، وتوفي في الطريق بين النجف وكربلاء وبالقرب من منطقة ذي الكفل في الحلة في مكان يقال له بئر مجنون، ودفن في النجف الاشرف عند حضرة أمير المؤمنين عليه السلام، إلا أن قبره وللأسف الشديد غير معلوم.
ننقل هنا واحد من نصوصه الفلسفية من كتابه “القبسات” وهو يحقق فيه مفهوم وجود الإنسان وأصالة الماهية : “فالصحيح صار الإنسان فوجد، لست اقول صار الإنسان إنسانا فصار موجودا على سبيل الصيرورة الايتلافية المستدعية بمفهومها صائرا او مصيرا اليه، بل اقول صار الإنسان على شاكلة الصيرورة البسيطة الغير المستدعية بحسب المفهوم الا صائرا فقط، أي بتجوهر جوهر ذاته، وتقرر سنخ حقيقته، فوجد، أي انتزعت عنه الموجودية المصدرية، لأنها أول ما ينتزع من الذات المتجوهرة والحقيقة المتقررة، من العوارض اللاحقة والمفهومات التابعة، إذ ليس يحكى بها الا عن نفس الذات الواقع جوهرها في ظرف تلك الموجودية، فمرتبة الموجودية المنتزعة المتأخرة حكاية عن مرتبة العقلية الواقعة المتقدمة ومتابعة لنفس تلك المرتبة المستتبعة اياها. وملاك كون الوجود بمعنى الموجودية المصدرية، عارضاً من عوارض الماهية، لا عين جوهرها، ولا جوهرياً من جوهرياتها، وميزانه ومعياره، بل مرجعه وصيوره ومآله ومعاده، هو كون الماهية غير متقررة بنفسها، بل من تلقاء جاعل فاعل مبدع مفيض، يفعل ذاتها ويجعل نفسها ويبدع سنخها ويفيض جوهرها. ثم لوازم الماهية من حيث
.جوهرها إنما علتها ومبدأها نفس جوهر الماهية في مرتبة التقرر والفعلية، قبل مرتبة الموجودية المنتزعة أخيرا
.جوهرها إنما علتها ومبدأها نفس جوهر الماهية في مرتبة التقرر والفعلية، قبل مرتبة الموجودية المنتزعة أخيرا
كاتب من العراق