فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً (2)

د. حسين الهنداوي

فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً (2)

تعميم هرمي للقمع، وهلوسة “القائد الضرورة”

د. حسين الهنداوي

لئن بدا النظام البعثي في عهده الأول لعام 1963، حكما مراهقا وعشوائيا وانتقاميا الى حد كبير ما أدى الى سقوطه سريعا بسبب تناحراته الحزبية واخطائه الطفولية رغم الدعم الأمريكي والمصري والخليجي المباشر له، فانه خطط وسعى في عهده الثاني الى البقاء في الحكم طويلا منتقلا بخطى مدروسة وإجراءات معقدة نسبيا من مجرد حكم عسكري دكتاتوري ذي اخلاقيات وبنى قمعية تقليدية وأساليب ديماغوجية مكشوفة وغيرها من الممارسات التي تفرضها إرادة البقاء طويلا في السلطة، الى نظام فاشي حديث الى هذا الحد او ذاك، يؤمن بالتعميم الهرمي والشامل للقمع، ويعتنق مفهوم قدسية ومركزية “القائد الضرورة”.

 

 كما راح يبادر، بشكل مخطط في الغالب، الى تبني مواقف وشعارات سياسية وايديولوجية واتخاذ إجراءات وخطوات عملية تهدف الى ان تكون منسجمة ومتكاملة كمنظومة في الحكم توحي كل ملامحها وعناصرها بانها تنتمي أحيانا وخاصة الى تلك التي اعتمدها النظام الفاشي الإيطالي بزعامة ينيتو موسيليني،  الذي حكم ايطاليا للفترة ما بين عامي 1922 و1943، واشتهر عالميا باعتباره النموذج أو المثال الأصلي الذي تقاس عليه الانظمة الفاشية التي ظهرت لاحقا في أوروبا وخارجها، بما فيها النظام النازي في المانيا بزعامة أدولف هتلر (1933-1945) ونظام حزب «الكتائب» بزعامة الجنرال فرانسيسكو فرانكو في اسبانيا (1936-1975)، وامثلة أخرى لأحزاب فاشية نجحت في اخذ السلطة في دولها في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كحزب سان لازار الذي حكم البرتغال بين عامي 1933 و1968، وحزب (أروكروس) الفاشي في هنغاريا، وحزب “الشبان الوطنيين” بزعامة الجنرال يوانيس متاكزاس في اليونان بين عامي 1936 و1941 كما ظهرت طغم فاشية أخرى في رومانيا ممثلة بـ”حزب “الحرس الحديدي” وكذلك في كرواتيا وبلغاريا  واليونان واليابان.

ومنها تأكيد الايمان اجمالا برفض الديمقراطية والانتخابات العامة واستبدالها بالمبدأ الانقلابي، وبضرورة اقامة دولة شمولية بهوية قومية نقيّة يقف على رأسها حزب موحد يقوده زعيم اعلى وقوي وصارم تخضع لأوامره كل الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدولة والمجتمع، ويمتلك إرادة قادرة على استخدام كل الوسائل لهدف الحفاظ على قوة سلطته وحمايتها من الاخطار الخارجية والداخلية معا.

في رأينا، هناك ما يكفي من الدلائل التي تشير الى ان النظام البعثي في العراق تقدم بالفعل في سعيه للتنمذج كمثال للسلطة الفاشية الحديثة انما في بلد غني بالقدرات الا انه متخلف صناعياً وزراعيا وريعي الاقتصاد النفطي بشكل تام في آن، وذو طبقات اجتماعية حديثة التكوين، تحتل البرجوازية الصغيرة المهاجرة من الريف الى المدينة حديثا بمعظمها، مساحة كبيرة نسبياً في خارطته الاجتماعية، ويرتبط اقتصادياً بالنظام الرأسمالي العالمي كـ “محيط” أي كمجرد تابع واستهلاكي وكجندرمة لبوابته الشرقية.

ان المسألة الأساسية ليست مجرد الصاق صبغة “الطبيعة الفاشية” بالنظام البعثي الذي حكم العراق بالحديد والنار لنحو 35 سنة قبل ان يتهاوى كنمر من ورق امام القوات الأمريكية الغازية ودون مقاومة تذكر، انما لإثبات ذلك فعليا وعبر منهج رصين. وإذ اعتمدنا هنا على الكثير من المعلومات المنسية او المجهولة للجيل الجديد، وما استنتجناه من قرائن ودلائل وتحليلات، فأننا تجنبنا بدقة الخلط بين الشكل الخاص للفاشية بنسخها التاريخية المعروفة التي ظهرت في الثلاثينيات في عدد من بلدان أوروبا الصناعية المتطورة لا سيما ألمانيا وإيطاليا، حيث جوهر النظم الفاشية يعكس شكلا للدولة في عهد التنافس الرأسمالي الاحتكاري العالمي لتلك الفترة، وبين الشكل الخاص للنظام الفاشي البعثي المندرج ضمن ظاهرة الانظمة الفاشية الخاصة ببلدان العالم الثالث لاسيما المتخلفة صناعيا والعراق منها. ومن هنا حذرنا الثابت من الاستناد الى استطرادات نظرية تقليدية او مقارنات مستمدة من الامثلة التي ظهرت في أوروبا الغربية، ومن محاولة تعميمها بشكل ميكانيكي وسطحي دون الانتباه الى جوانب الاختلاف العميقة بينهما، ودون الغور في دراسة الفاشية وظهورها في بلداننا دراسة علمية محايدة وتشريحية.

فنحن نرى ان تطور الايديولوجية الفاشية، والدكتاتوريات الفاشية ايضا، يتخذ في البلدان المختلفة اشكالا متنوعة تبعا للظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية وتبعا للخصائص القومية والوضع الدولي لكل بلد على انفراد. فمن الوهم الجسيم التصور تاليا ان شكل الانظمة الفاشية هو فقط الشكل الذي ظهر في المانيا او ايطاليا، وان النظام البعثي الفاشي في العراق كان لابد ان يمر بذات المسارات والشروط التي صادفتها الانظمة الفاشية الاوربية تلك. ولكن برغم كل ذلك، أي برغم ان لكل نظام فاشي سماته الخاصة وان الوضع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية ليس ما كان عليه قبلها، فاننا وجدنا ان السمات المميزة للدكتاتوريات الفاشية التي ظهرت في بلدان شرق ووسط اوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي، وجدت بهذا القدر او ذاك، أصداء لها في سمات الدكتاتوريات الفاشية التي ظهرت في العديد من بلدان العالم الثالث، وخاصة في تلك التي انبثقت عن انقلابات عسكرية دموية تزعمها قادة عسكريون يحملون علنا او ضمنا، توجهات فاشية وظهروا في ظروف تصاعد مد ثوري او جماهيري للأجيال الجديدة الشبابية والكادحة أدى الى تعريض السلطة القديمة وأجهزتها الى الخطر، دون اغفال حقيقة ان النفوذ الإقليمي والدولي الأجنبي او الامبريالي لعب على الدوام دورا اساسيا في تنظيم تلك الانقلابات بحكم ترابط حلقات ومصالح الرأسمال العالمي في مراكزه الرئيسية وافلاكه. ولا ريب تمثل الانقلابات العسكرية في ايران عام 1953 وفي العراق عام 1963 وفي اندونيسيا عام 1965 نماذج ساطعة على ذلك حيث نظم الانقلابيون المدعومون علنا من الاستخبارات الامريكية والبريطانية حملات اغتيال واعتقال وتنكيل قاسية وواسعة طالت الآف المواطنين والمثقفين وطلبة الجامعات.

فقد أدى الانقلاب العسكري الدموي في ايران عام 1953 وقاده الجنرال فضل الله زاهدي الى الإطاحة بحكم الزعيم الوطني الايراني الراحل الدكتور مصدق المنتخب ديمقراطياً لأقدامه على تأميم نفط بلاده، اذ حكم عليه بالإعدام الذي خفف إلى السجن لاحقاً، فيما أدى الانقلاب الدموي الذي نظمته الاستخبارات المركزية الامريكية والبريطانية في 8 شباط 1963 الى اعدام الزعيم عبد الكريم قاسم الذي عزز الاستقلال الوطني لبلده بإلغاء حلف بغداد وحماية الثروة النفطية من النهب الاستعماري وحرر اقتصاد البلاد من الهيمنة البريطانية. وبعد سنتين أسفر الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال سوهارتو عام 1965 في اندونيسيا بدعم الاستخبارات الأمريكية والاسترالية عن عزل الزعيم الوطني أحمد سوكارنو وتنظيم مجزرة بلغ ضحاياها آلاف القتلى من المعارضين الوطنيين.

وفي تشيلي أيضا اسفر الانقلاب الذي قاده الجنرال اوغستو بينوشيه في 11 ايلول 1973 بدعم من السي أي آي الامريكية عن مقتل رئيس البلاد المنتخب ديمقراطيا سلفادور أليندي وعن ارتكاب مذابح دموية اعتقال وتعذيب وقتل آلاف اليساريين والاشتراكيين والمتعاطفين مع حكومة اليندي من المثقفين والنقابيين والطلبة. 

ينبغي علينا الآن خوض محاولة جادة وامينة لاثبات، عبر الوثائق والممارسات والاحداث الملموسة، ان ايديولوجية حزب البعث الذي حكم العراق بين 1963 و2003، استمدت الكثير من عناصرها الاساسية من الايديولوجيات الفاشية السابقة عليها، وحاولت تقليدها في كثير من المواقف والاجراءات دون ان تتمكن من التخلص من طبيعتها ومميزاتها الخاصة بها كنتاج لمجتمعات متخلفة في واقع الحال رغم انها تبدو في بعض لحظاتها المهمة احيانا، ووقتيا، حاملة رسالة تقدم وتطور لتلك المجتمعات ذاتها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *