غصنٌ مُطعَّمٌ في شجرةٍ غريبةٍ| القسم الثاني

صلاح نيازي

من كتاب السيرة الذاتية للشاعر العراقي صلاح نيازي
سكنا بمنطقة الشواكة، الكرخ، بالقرب من نهر دجلة، خيّل لي أن نهر دجلة أكثر وداعة وأنوثة وتحضراً من نهر الفرات، على الرغم من أن ضفتيه قذرتان. البيوت والنباتات تحيطه من الجانبين، فشعرت به أسيراً مروّضاً. الفرات بمدينة الناصرية مفتوح. البيوت مفصولة عنه بشارع عريض، في جانبه الشرقي، أما جانبه الغربي فبساتين ورمان وتوت وباقلاء وأشجار الغرب والفواخت والبلابل. منظر الفرات الريفي السحنة يوحي بحريته، وليديه مجال كبير للتمغط حين يستيقظ صباحاً عند صياح الديكة والأذان.

أجرّنا ثلاث غرف في الطابق الأعلى من امرأة أرملة تسكن في الطابق الأسفل. سمينة بيضاء مربربة بترف. لا تنظر بوجه أحد تديناً وحياءً. قليلة الحركة، تجلس في غرفتها المظلمة لساعات. لا تزور أحداً، ولا يزورها إلا امرأة تأتي لها كل أسبوع مرة، بما يكفيها من قوت. جمالها ممزوج بالنعومة الحييَة والنعمة والحزن والثياب السوداء.

لا نسمع منها إلا النشيج على زوجها الذي مات قبل أشهر. تصلي بلا انقطاع وتسبح بمسبحة سوداء طويلة. لم أسمعها تتكلم حتى لأمي. مع ذلك كان حزنها الحزين قد آخى بيننا بصمت حنون، وقرّبنا ۔ بصورة ما – من حبّ بغداد التي تصورناها مدينة غريبة متكبرة ذات لهجة متعالية. مع حزن تلك المرأة تآلفنا مع المكان، وزالت إلى بالحد ما الوحشة. كنا محظوظين حقاً أن نتعرف على بغداد عن طريق هذه المرأة وهي في أقصى حالاتها الإنسانية ضعفاً. الحزن وحده يرجع الإنسان إلى جوهره الحقيقي، فيفتش عن أخيه الإنسان.

في الشواكة بيوتات عريقة وموسرة، مبانيها عالية متلاصقة، وأزقتها ضيقة كثيرة الالتواءات. بعضها غير نافذ. الأولاد في هذه المنطقة المتحاضنة المتلامّة، حريصون على تطوير هواياتهم. بينهم أبطال مشهورون في الرياضة، ولهم فيها أرقام عراقية قياسية.بينهم رسامون وخطاطون وشعراء. وهم إلى ذلك يعرفون أسماء الأفلام الأجنبية، وأسماء الممثلين، ويقرأون مجلة «الآداب» و«الأديب» و«الرسالة» و”الرواية” التي كانت تباع على شكل مجلدات. انحرجت من تخلفي بينهم. شعرتُ أن معلوماتي مكتبية لا علاقة لها بالحياة. جئتُ من الناصرية بنقود أهل الكهف ولا أملك غيرها.

مضت علي ثلاثة أشهر في الإعدادية المركزية، فاذا بي في مأزق حقيقي. الطلاب يتقدمون في الدراسة. يتدفقون علماً وحيوية وتفاؤلا. أذكياء فوق العادة، لمّاحون فوق العادة، إلا أنا كنت أراوح في مكاني. انكمش يوما بعد يوم. كنت فريسة الجوع في البيت، وقصر النظر في المدرسة لدرجة لا أرى معها السبورة رغم أني أجلس على بعد مترين منها. أكثر من ذلك، لم يكن راتب أخي بكاف لشراء الكتب المدرسية أو النظارات الطبية. بلغ يأسي مرة أقصاه، فاندفعت إلى غرفة المدير. شكوت له الأمر بتلجلج وبؤس. انفعل المدير بأقصى شفقة، وأخذني بأبوة محكمة إلى مخزن الكتب، وانتقى معي الكتب المطلوبة. لامني على عدم مجيئي إليه منذ البداية، وأوصي بي المعلمين خيراً، وكانوا قد احتاروا في أمري.

احتضنتُ الكتب احتضان جسد لجسد، أورّقها كتاباً كتاباً. ما تزال طازجة، مقصوصة للتو كحلاقة جديدة معطرة، رائحتها مركزة، لم تتلاشَ بعد بفعل الاستعمال والتقليب. ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي أمتلكت فيها شيئاً جديداً ورائحته طازجة ولو إلى حين (كان علينا نحن الفقراء، أن نرجع الكتب في نهاية السنة) كنت أصغر الأخوة، ألبس ملابس أخويَّ حينما تضيق عليهما وحين أصبح بحجمها. كانت شهيتي لقراءة الكتب كلها في ليلة واحدة لا حدود لها. أقرأ صفحة هنا، صفحة هناك.

نمتُ تلك الليلة قرير العين كأنني عثرت على أهلي بعد ضياع طويل. كنت منذ البداية أشعر بنشوة في درس الرياضيات. ألغاز عليك حلها. تماما مثل ألغاز ذلك الكتاب الأول الذي قرأته. اللغة العربية نشوة أخرى وطرب، فيها ألغاز مصنوعة من موسيقى. اللغة الأجنبية بالمقارنة ضيف لايملّ، حلوى تملأ الفم. حتى وأنا في طريقي إلى المدرسة في اليوم التالي، رحتُ أقلّبُ الكتب بين تدافع المناكب على جسر «مود» وفي سوق السراي.

شرعتْ بغداد في الخمسينات تجترح معجزات صغيرة، فقد ظهر في تلك الفترة أهم المهندسين المعماريين، والمحامين والرسامين والنحاتين والاقتصاديين بالإضافة إلى أهم رموز الشعر الحديث والقصة والرواية.

بغداد في تلك الفترة، بالمقارنة إلى الناصرية، أسرع إيقاعاً، وأكبر حيوية. يتنافس فيها القديم والحديث بانسجام. أي إن الحديث لا يقتلع القديم، ولا القديم حجر عثرة أمام الحديث. تعايش فريد. تنوع الأقوام الذين يسكنون فيها، غنى في الأزياء والعادات، ولكل محلة لهجة.

تستيقظ بغداد متعبة تعب عروس باكتمال لذتها، وفي الضحى ينشط نحلها. عند الظهر تنام بحماقة وعصبية. في الليل تنفلت وتغرق في الزنى. شارع أبي نواس المطل على النهر أكبر معرض للرجال المحبطين، وللنساء من ذوات العيون الجارحة، والشعور المرحة.

تتكون بيوت الشواكة من طابقين وأزقتها ضيقة، كأنها تتحاشى الشمس.ما من مولد للشمس ببغداد كما بالناصرية، وعليك أن تفتش عن غروبها في مكان آخر.

اختلفت عليّ الجهات. لميلاد الشمس بالناصرية مهرجان كوني كبير، الهديل والظلال والألوان المنعكسة في النهر الوثير الموج. يظهر موكب الشمس أولا بحياء من بين غلالات الأشجار والنخيل. تباشيره أشعة نقية طازجة كأنها خلقت للتو، رغم ما في الأزقة من أتربة ووحل.

عند المساء يتحدد طبق الشمس ويتورد كالفاكهة الحمراء. وقليلاً قليلاً يسحب رداءه الأحمر الزاهي من النهر أولاً، ثم من الأشجار، ليبدأ قليلاً قليلاً موكب النجوم المضيئة كالماس. القمر إذا اكتمل آنية حليب مسحور. يملأ القلوب بالأحلام والغزل الحزين الناعم.

اختلفت عليّ الجهات، وليس في بيوت الشواكة حدائق بيتية، وما من رائحة راسقي. (عادت عليّ مسألة الجهات في قصيدة «الجندي وبنات نعش» عام ۱۹۹۹)

بدأت أشعر بضيق. بغداد مدينة آجرية. مادية. متعايشة في الظاهر، إلا أنها متنافسة. مدينة عضلية. لهجتها متفخمة ذات إيقاع عضلي. أبناؤها – كآبائهم – مهتمون بالتملك، من الدراجة إلى السيارة إلى العقارات، يتحدثون أمامك عن أنواع القمصان وأنفسها، حتى لو كنت تلبس قميصا ممزقاً. يتحدثون عن آخر موديلات السيارات، حتى لو كنت لا تملك ثمن تذكرة باص عمومي للذهاب إلى الكلية.

ليست الجهات هي الوحيدة التي اختلفت عليّ ببغداد. الرائحة اختلفت كذلك، في الناصرية تشمّ الفرات والبساتين، وهواء الصحراء والأراضي البور والعاقول والشفلح والحندقوق. تشم الطبيعة بكاملها وبكامل رئتيك. رائحة دهن الورد والبخور والمسك في ثياب النساء تختلط بأمومة حانية. تقول المرأة بالناصرية «هئت لك» وأقصى متعتها أن يغتصبها زوجها، ورضاه نعمة. تقدم المرأة جسدها لزوجها متاعاً لتخفيف مشاكله لا غير. رائحة بغداد تكاد لا تتغير، وإن اختلفت من حارة إلى حارة ومن زقاق إلى زقاق. ترکد في المجازات الطويلة المظلمة، وتصبح ضارية في المجاري، ولكل سوق رائحة. أشدها ايذاء رائحة الجلود ورائحة الدجاج المعروض بأقفاص للبيع. مع ذلك لم أكن تعيساً، لكن حزني لا حد له. كنت أفتش عن شيء مفقود في حياتي. تصوّرت أن «عرق السواحل» سيحلّه. تصورت أن طاقية الاخفاء ستدلني عليه. منذ طفولتي، شعرت بشيء مفقود، وها أنني ببغداد أفتش عنه في الكتب، حزيناً وليس تعيساً، فهذه بغداد عاصمة الرشيد والدنيا، أمشي بين أزقتها، وتواجهني كل صباح المدرسة المستنصرية، وأنا في طريقي إلى الكلية، مروراً «بعيون المها بين الرصافة والجسر». كنت أعيشها تاريخاً داوياً، وقد اكتفيت بجواريها العباسيات عن ملاهيها، وبخمور أبي نواس عن حاناتها، وبمجالس أبي حيان التوحيدي عن مقاهيها، كنت أعيش مدينتين:

مدينة وهمية هي كل الواقع، ومدينة واقعية كالوهم، كيف التوفيق بينهما؟ لابدّ من دخول بغداد من معترك ثالث.

في سنوات الجامعة، انتهت أیام النزهة في الأدب، وابتدأت مرحلة تبويب المعلومات بحسب منهج مدروس، وعليه يتوقف النجاح والرسوب.

كلية التربية كرنفال آخر، طلاب وطالبات من شتى المدن والأرياف.وجوه مختلفة، أزياء مختلفة، لهجات مختلفة وابتسامات تدنيك وتبعدك، ولأصوات الفتيات رقة الرذاذ مهما كانت اللهجة، وطلاب وطالبات في صف واحد، يصغون معاً، ويتنفسون هواء واحداً. طلاب وطالبات في مكتبة واحدة يقرأون بصمت بليغ ويتعلمون معاً الجد والتواضع، طلاب وطالبات في نادٍ يجلسون على طاولة واحدة، يتناقشون ويتذاكرون ولا فضل لذكر على أنثى، ولا فضل لأنثى على ذكر إلا بالعلم والفضيلة.

هذه السنوات الأربع في كلية التربية، أهم خميرة في حياتي الأدبية. المناهج منوعة، من اللغة العربية وآدابها وعصورها إلى الحضارات القديمة، إلى فلسفة التربية، إلى علم النفس والتربية. ولأول مرة تعرفت على النقد الأجنبي وبعض نظرياته.

كان من بين أساتذتنا، مصطفى جواد، كمال إبراهيم، علي جواد الطاهر، سليم النعيمي، عبد الستار الجواري، عبد الواحد لؤلؤة، صفاء خلوصي، نازك الملائكة…، هذه الشلة العجيبة مدارس فكرية عريقة، بفضلهم كانت خياراتنا أوسع ومداركنا أشمل وأعمق. لقد حباني علي جواد الطاهر باهتمام خاص، وهو الذي أخذ على عاتقه التبشير بالأدب الحديث.

كتبتُ ونشرتُ حتى قبل دخولي في الكلية بعض القصائد على نمط الشعر الحديث، كان كل طموحي أن أكتب شعراً مقبولاً وصادقاً، ولم أسعَ لشهرة أو أن أكون أفضل من غيري.

ألقيتُ مرة، وبتشجيع الطاهر قصيدة في كلية التربية بعنوان « العانس». كان لها صدى بين الطلاب، وراح يبشر بها الطاهر بتفاؤل. كنت ما أزال وقتها أسعى لأن أكون مجهولاً، لكن لماذا سعيتُ للنشر؟

قال لي صديق (وقوله مبالغة في مبالغة) إنه قرأ كل ديوان عربي مطبوع حتى عام 1954. صدقتُهُ أو صدقتُ الطريقة التي قالها بها، قلّدته على الفور. ولأول مرة، ربما بتأثير النقد وآراء الأساتذة أصبحتُ انتقائياً في الحفظ مع تمعن في أسلوب الشاعر. أغراني الشعر اللبناني، ولاسيما إلياس أبو شبكة وكانت لموضوعات إيليا أبي ماضي مفعول شيءٍ طارئ جميل في حلبتي الصغيرة.

أما أحمد شوقي فله مكانة خاصة. أحسست بألفة معه. يكتب بنفس استشرافي أبوي رحيم لا يتدنى. يكتب بأجنحة. لا ينخس القارئ ولا يقارعه. كأنّ مادته الموسيقية مجلوبة من صمت عريق سحيق، هو صمت خوفو. في ثنايا موسيقى الصمت تلك رنين تاريخي خفي مطمور، حتى كأن شوقي عاش كل العصور، فأطلّ علينا بالعبر والسكينة الروحية. أوزانه بطيئة بجلال موكب ملوكي.

شعرت في الكلية ولأول مرة بيتمي، ولا أدري لماذا؟ لم أكن أشعر بذلك من قبل. نَفَس أحمد شوقي الأبوي الرحيم كان عزائي، ومعه أشعر بأمان. في شعر ناظم حكمت حنان أبوي ملتهب، قرّبني من كل ما هو يومي، وصغير، أصبحت أو اقتصرت حلبتي الشعرية على أحمد شوقي، وإلياس أبي شبكة وإيليا أبي ماضي. كان السياب والبياتي ونازك الملائكة يثيرون فيّ الإعجاب ولكن لا يمسون شغاف القلب بالعمق.

هؤلاء شأنهم شأن البحتري وأبي تمام والرصافي والجواهري شعراء قصائد لا شعراء دواوين، بحيث تقرأها من الدفة إلى الدفة، کوحدة منوعة ومتطورة.

بلغت سن الرشد الثقافي – نسبيّاً – في كلية التربية، وألقيت شعراً سياسياً. لست شاعراً جماهيرياً. لم أجد في نفسي القدرة على القيادة أو الريادة. أحببت تصفيق القاعات على مضض. وفي كل مرة ألقي فيها شعراً، أحسّ بمرارة ورهبة وندم. تمنيت أن يقرأ الناس قصائدي ولا يعرفني أحد، أن يكون اسمي معروفاً وشخصي مجهولاً إن صحّ التعبير. سعادتي فقط حين أكتب قصيدة وأقبلها. كتابة الشعر كالطلق سواء بسواء تخليص الجنين من الرحم، أقصى ألم سعيد.

تعرفت في الكلية على زوجتي سميرة المانع، فتكهربتْ حواسي كلها. هي قصيدة فريدة لم أقرأ مثلها جرساً وعمقاً. نظرة حمامية وثياب مترعة بالسواد. مترفة بالعواطف. أثمن ما يمكن أن يحلم به غواص. من أين جاءتني ضربة الحظ هذه؟ كانت أكثر إطلاعاً مني على الأدب الغربي وعلى الموسيقى الكلاسيكية. لم أكن امتلك حينها إلا موهبتي المتواضعة وفقري المثير للشفقة.

تعرفتُ على نجيب المانع (شقيقها) عن طريقها، في مقهى البرازيلية. دخلت إلى المقهى مغامراً، فلم يكن في جيبي ما يكفي لدفع نصف كوب شاي. أراد أن يمتحنني، هل أصلح خطيباً لشقيقته؟ بلحظات نسي مهمته. كان يتحدث بتدفق وحيوية عن مطالعاته في الأدب الغربي، وكنت أحدثه بعفوية عن بلاغة الأسلوب القرآني، أصغى نجيب بإمعان.

حين يتحدث نجيب يغمر المقابل بطوفان. فاذا استطاب فكرة، يصغي كأنه لا يعرف شيئاً، يصغي أصغاء جاهل فضولي. دفع عني ثمن الشاي وشعرت بجفاف العرق في جبيني. سرنا في شارع الرشید، فالتقينا بعبد الملك نوري وكنت معجباً بقصصه المحبوكة بدراية. قدّمني إليه نجيب کشاعر مثنياً على بعض قصائدي. دفع عني نجيب ثانية في الباص، وذهبنا إلى حانة.. (انضم إلينا أدباء آخرون). كان مدار الحدیث موليير.يستذكرونه ويضحكون كالأطفال. كنتُ بينهم وقوراً على مضض، وساكتاً عن جهل، وممتنعاً عن شرب الخمرة عن صغر سن، كان نجيب يوجه حديثه لي، ويتواضع، وكأنني أنا الذي سأمتحنه إن كان يصلح أن يكون شقيقاً لأخته أم لا؟

انتقلت العدوى الآن إلى عبد الملك نوري الذي تملكه الفضول تماماً. لاحظ احترام نجيب لي باستغراب. قرأ في صمتي أشياء لا أمتلكها. راح يخاطبني أستاذ صلاح بحياء تلميذ. ودّعتُ نجيب فوضع يديه على كتفي وغمرني بابتسامة لم أفهمها لحد الآن ولكنها دافئة لينة، حين جئت لمصافحة عبد الملك أخذ يدي بحرارة وقوة وانحنى احتراماً بأكثر من المعتاد. أصبحت هذه عادة عبد الملك نوري كلما التقيت به قبل مجيئي إلى لندن، ينحني احتراماً. كان نجيب ملمّاً بالشعر العربي القديم، وكل ما يتعلق ببودلير (كان يقرأه بالفرنسية) وتي، أس، اليوت وعزرا باوند. ولكن ما أفدته منه هو شغفه الجنوني بالموسيقى الغربية، اكتشفتُ معاني الموسيقى في انفعالاته وحركات يديه وتلويه وعرق جبينه. مناديله البيضاء لا تفارقه، وكأنها من أقانيم سماع هذه الموسيقى الطاهرة. إلى ذلك كان يحفظ الموسيقى. من أقانيمه الأخرى، أنه يخرج الأسطوانة ممسكاً إياها بأطراف أصابعه، ينظفها بقماش قطيفة، ينظر إليها من عدة زوايا ليتأكد من عدم وجود أية ذرة من تراب، قبل أن نستمع إليها. يتحدث بإسهاب عن المؤلف والقائد الموسيقي والاوركسترا وشركة التسجيل. مازلتُ لحد الآن أربط الموسيقى الغربية بقامة نجيب الفارعة وبهندامه النظيف إلى آخر حبة، وبحيويته في المشي ومناديله البيضاء المكوية بعناية. بالإضافة إلى ذلك فقد عرّفني على الأوبرا. لم نسمع أوبرا كاملة ولكن كان يسمعنا مقتطفات بعد أن يشرح لنا الموقف والأغنية الصائتة، ARIA. عن طريقه بلاشك تعرفت على معظم المغنيين الأوبراليين، وعلى معظم مؤلفي الأوبرات. كان يكره جبران خليل جبران (كاتبي المفضل) ويكره فيروز (نغمة صافية في أذني حينها)، ويكره حسين مردان (وهو موهبة فطرية مدهشة).

اهتزّ العراق من أقصاه إلى أقصاه بثورة 1958 فاض التفاؤل وبلغ أقصاه. بدا إيقاع الحياة أسرع، ودشن العراق من أقصاه إلى أقصاه، الفرح لأول مرة، منذ قرون. فرحنا وفرحنا ثَمَّ ثَم ثَم تعبنا من الفرح والتفاؤل.

تزوجتُ.

ولدتْ ابنتي ريّا.

ولدتْ مرحلة أدبية جديدة. انتهى أنين النفوس اليائسة البائسة فلنبدأ بالتفاؤل. لا نعرف كيف نتفاءل ولا كيف نفرح؟ لجأت الأمة إلى الخطب أولاً، واقتصر الأدب على الشعر والمقالة والتعليق. انقطع التأمل وانهار الصمت الذي يرافق المختبرات العلمية عادة. ضوضاء ووشوشة هنا وهناك، تسربت الإشاعات من الشوراع إلى البيوت. يتآكل النظام أيّ نظام بالإشاعات أولاً؛ لأنها تمتزج بالأنفاس، تشربها مع الماء، وتزدردها مع الأكل. من نتائجها زعزعة الثقة بالنفس من ناحية، والتشنج وانتفاخ الأوداج من ناحية ثانية. تشنجت الثورة وانتفخت أوداجها.

قُتِل أخي.

(كتبتُ عنه قصيدة طويلة نشرت بكراس عام 1961 عنوانها «کابوس في فضة الشمس»).

قُتل عبد الكريم، دُفن فعُبِدَ ثم نبشته الحكومة وألقت جثته في النهر.

دخل (القطار الأمريكي) إلى العراق. وتوحش البشر، كأنما لم يكونوا من صنع الله وخلقه. فنون منوعة في التعذيب وقص الألسن، والاغتصاب، وتغطيس الموقوفين إلى حد الفم ببرك البول والخراء. كلما ركد السائل، حرّكه الحارس بعصا طويلة لتصعد الأمواج إلى أعلى الهامة. الويل للبشر القصار القامة، يجبرونك على التغوط والتبول في طاسة أمام رفاقك. ترمي الفضلات، ويمنعون عليك تنظيفها. يجوعونك عمداً. يصبّون أكلك في تلك الطاسة. تأكل وأمرك إلى الله، ويغتصبون أمك، أختك، زوجتك أمامك، ثم يغتصبونك.

 الهروب بالجلد، أقصى ما يمكن من طموح، واللعنة على مسقط رأسك.

جاءني المرحوم حسين مردان، وأخبرني أن وزير الإعلام قال له: «لا نمنع شاعراً من السفر، ولا نقتل شاعراً، دم لوركا عبرة لنا».

قطعت التذكرة من بغداد إلى لندن عن طريق القطار. كنت بلا لغة ولا فلوس ولا حتى فضول. الهروب بالجلد، النجاة، الابتعاد عن الكابوس: هذه كلمات جديدة دخلت في قاموسي الشخصي. أصبحت أساسية، أصبحت فلسفتي التي أواجه بها الحياة. أطبق اليأس علي. اختنقت، اختنقت، أمنيتي الوحيدة لا الوصول إلى لندن، لا العيش، ولكن الموت في مكان آخر. الموت بإرادتي أقصى حلم. أردت أن «أحس اللذة السوداء في الوفاة» كما قلت مرة في قصيدة «کابوس»۔ أردت أن أختار نوع موتي كما أختار السهروردي موته. أشقُّ شيءٍ علي أن يشفي قاتلي غليله. أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه مهاناً مذلاً. أمنيتي أن أحرمه من إشباع حقده.

أين أسكن؟ ماذا أعمل؟ هل أعود؟

حتى هذه الأسئلة المصيرية، لم تعد لها أهمية.

شيء لم أقله حتى لزوجتي إن حياتي انتهت حقاً، وإنني ذاهب للتفتيش عن موت کریم

كان مساء المحطة رصاصياً. الأصوات لغط ودويّ. الشرطة في كل مكان بعيون مدققة مرعبة. آخر مشهد لي ببغداد، وقوف زوجتي دامعة وهي تحتضن ابنتنا وإلى جانبها نجيب، مُصفرّاً صامتاً، وفي وجهه صمت إله حائر. لم أدمع، كانت عروقي كلها ممتلئة بالدموع. تشربتها ملمحاً ملمحاً، وتنفستها آهة أهة. كان وداعَ مَنْ سيسلم الروح. تحركت أرجل القطار، وشعرت باللذة السوداء، وأطبقتُ عينيّ بأرقٍ مسنون. من مدينة إلى مدينة، ومن قطار إلى قطار، كنت أحمل جنازتي، وكلما ابتعدت شعرت أن أمنيتي تتحقق في الموت بعيداً. شعرت بسعادة حقاً. كل يوم جديد هو إطالة في دفني خارج تلك الحدود الطاحنة.

بعد ليلة متقطعة ونوم شاق، وصل القطار إلى الموصل. ماتزال نائمة، توقظها الشمس بحنان وتزوقها بالألوان تدريجياً. جبال؟ لأول مرة في حياتي أرى جبالاً.

سلّمنا جوازات السفر، وبعد حوالي نصف ساعة، نودي عليّ وأمرتُ بإنزال حقيبتي. قيل لي أنت ممنوع من السفر. كان جوازي رسمياً. يبدو أن دائرة الأمن بالموصل لم تبلَّغ بذلك، ما الذي أفعله؟ المكاتب ببغداد ما تزال نائمة، والقطار سيتحرك في وقت معلوم.

بمصادفة قريبة من المعجزة تذكرتُ ابن عم لي كان مدير الحركات العسكرية في الشمال. اتصلوا به وجاء مع ثلة من العسكريين الأركان بأقل من نصف ساعة، واتجه فوراً إلى المسؤول الأمني، لكن لابدّ من الاتصال ببغداد.

جرّني من يدي ورحنا نسير على رصيف المحطة. كانت هذه أول مرة نتكلم على انفراد. تعرفتُ على بذلته وطوله ومشيته، وتمعنت بصوته الريفي الخالي من أية عبارة مأخوذة من كتاب. قال لي لا يهمك، حين أخبرته عن قلقي على موعد القطار. هل أمر بتأخير القطار؟ قال لي أيضا بوجه خائف وصوت متوشل، لم ننم البارحة. أنهينا كل عتادنا في المعركة مع الأكراد، كانوا يتنقلون بأضويتهم من صخرة إلى صخرة بسرعة عجيبة. قال تبين لنا في الصباح أنهم شدوا ما يشبه الفوانيس الصغيرة بأعناق الخراف والماعز وكلما أمطرناها رصاصاً راحت تتراكض مذعورة من مكان إلى آخر.

جاء المراسل العسكري. أدّى التحية، بما يليق بطول ابن عمي وبذلته ورتبته، وأخبره أن معاملتي انتهت. كان رد فعلي بارداً. لم أشكره كما ينبغي، ولم أصافحه كما ينبغي. لم يكن ذلك رد فعل على استقباله البارد لي. عاملني وكأني نصف غريب، نصف أحد معارف أصدقائه. كنا نبطن غير هذا بالتأكيد، فهو ضابط مسلكي، وأنا يساري، أراد أن يسير المعاملة وكأنها مسألة إنسانية ووفاء لصديق ما، وكنت بدوري أحرص على عدم صبغه بصبغتي، لكنه همس بأذني بتأوه: أوصيتُ شرطيي القطار برعايتك. صعدت على القطار، وما هي إلا دقائق سريعة وتحرك. ومعه تحركت الدنيا والجبال والأشجار، ثم دخلنا في لا مكان من الخلاء الشاسع. كان إلى جانبي رجل متأنق، وألوان بذلته طازجة زاهية، حاول أن يستنطقني عن وجهتي، وعن أسباب سفري، فتحفظت بحكمة. لكنّ شرطيي القطار الذين أوصاهما ابن عمّي بي أمامي على بعد ثلاثة مقاعد. عيونهما متسمرة لا تفارق جلستي. أحسستُ وكأني في قفص لا أمتلك أية حرية.

قبل أن نصل إلى الحدود السورية توقف القطار ببطء. قام الشرطيان واتجها ناحيتي. هل سأرمى هنا؟ هل خذلني ابن عمي؟ هما فوق رأسي الآن.

«قم» قالا للرجل المجاور لي، أين حقيبتك؟ انزعْ سترتك. انزعْ حذاءك. أخذ كل شرطي فردة، ونفضاهما بقوة فاندلقت منهما صرتا دنانير، اُقتيد حافياً.

ظلّ المكان المجاور لي خالياً، وظلّ مكان الشرطيين خالياً فشعرتُ بخوف ورهبة وحيرة، لم يكن أحد غيري في هذه المقصورة.

حين دخل القطار إلى مدينة حلب البيضاء انتهبتني عاطفتان، مرمر القبور والتماثيل الثابتة، ولون خطيبة صديقي الحلبية. كان بياضها غير مشع، وإنما مثل بياض ورود الراسقي. أبيض متواضع يتشرب نفسه ويظهر عليه لون رمادي خفيف. علّمني هذا الصديق كيف يعشق الأسلوب الأدبي، ومعشوقاه کتاب الأيام لطه حسين وكتاب سارة للعقاد. طريقته في القراءة فريدة. يقفل عليه الغرفة ويترنم بصوت عالٍ، يقسم أنه يسمع موسيقى خفية في الأسلوب، ويبكي حقيقة. كان هذا الصديق الذي لم يعشق إلا كتابين، أقرب الناس إليّ، وهو أول شخص أقابله يزور بلدة غير العراق. حشرجاته وهو يذكر حلب وخطيبته واضحة محزنة. أحبّ حلب وأحبّ خطيبته الحلبية. السر الوحيد الذي أخفاه عني لمدة شهور، هو أنه كان يكتب إليها رسائله بدمه،.ينخس طرف إصبعه بدبوس، ومن حبر دمه يكتب. بالمصادفة وهو يقدم لي سيجارة (هو الذي علمني على التدخين) رأيتُ حزوز الجراح بأصابعه، تساءلت. سرد لي القصة. لا أدري هل كان حبّاً به، أم ألماً لألمه قلتُ له، ضاحكاً، خُذْ دم دجاجة واكتب ما تشاء. أخذها على محمل الجد. ثم قرر الذهاب برفقة والده المترف الغني في اللغة والملبس إلى حلب ليتم عقد القران. قال لي إن لغتهم مختلفة ومطعّمة بأرق الكلمات. حين وقف القطار في محطة حلب، رأيتني وكأني غيري، كائن بمئات من الحواس. أريد أن أرى، أريد أن أسمع، أريد أن أحلق، ولكنني تسمرت بباب القطار خشية أن تطير حقيبتي. كم تشوقتُ لأن تطأ قدمي أرض حلب، أن أشرب ماءها، أن أشم وردها، أن ألمس نباتها، ولكنني خفت أن يتركني القطار ويرحل.

حين صوّت القطار وهسهست عجلاته وتقوس دخانه، كنت مازلت أنظر من نافذة القطار حتى آخر بيت وشجرة. كل شيء كان يتراجع إلى خلف. لا أدري لماذا في تلك اللحظة رثيت لنفسي وتأزمت. هل لأن حلب أختفت نهائياً؟ شعرت والقطار مندفع إلى الأمام، أن كل المدن والغابات والجبال وهي تتراجع كأنها أشياء تستلب من حياتي.

رجعت إلى المقصورة فوجدتُ مقعدي يحتله سوري، وإلى جانبه شاب أحدب بادي النعمة، وفي المقعد المقابل عجوز ملفوفة بأغطية وتتأوه.

أمرني السوري أن أفتش عن مكان آخر، ورمى شنطتي في الممر. توسلت إليه، وتضرعت. لم تطرف له عين. إلا أن العجوز تدخلت بصوت هزيل وطلبت من ابنها الشاب الأحدب، أن يجلس إلى جانب رجليها.

قال السوري: على شرط أن تقول لشرطة الجمارك أن البذلات الثلاث هذه وأشار إليها، هي لك. كان في المقصورة كذلك سوريان ينامان في مكان الحقائب.

لم تكن اللهجة السورية التي كنت مسحورا بها، مطعّمة بالرقة. الأحاديث تدور بينهم باقتضاب، ولغة عيونهم زائغة وكأنهم غرباء عن بعضهم بعضاً. أشاعوا – أو خيّل لي ذلك – جواً مشحوناً بالريبة.

أما العجوز المتدثرة، فراحت تئن بلا انقطاع. وبين أنين وأنين تشتم ابنها وتدعو عليه بالشر، وتختم دعواتها ب «الله يفضحك».

كان الشاب الأحدب بملابسه الأنيقة، وعافية وجهه المحمرة، وعطور حلاقته، لا يستقر في مكان. راح يتنقل بين المقصورة والممر والتواليت، يتحدث إلى السوريين الذين بدوا غرباء، بلهجة سورية، ويتحدث إلى الأتراك الباعة بطلاقة…، كنت صامتاً متنملاً، أنظر في بعض الأحيان من نافذة القطار إلى المشاهد المتراجعة لأتفادى الجو المتأزم في المقصورة.

حاول الشاب الأحدب أستدراجي للحديث، ثم رشّ بوجهي أسئلة للتعرف على توجهي السياسي. سألني عن اسمي أولاً فرآه لا يندرج في خانة سياسية أو طائفية، سألني عن مسقط رأسي، فازداد حيرة، ثم عن دراستي ومهنتي. وحينما فشل أمطرني بمغامراته، وأمطرته أمه المتدثرة بـ «الله يفضحك». من أول جملة له عرفته من العناصر التي أطاحت بعبد الكريم قاسم عام 1963، (كان يبالغ بلاشكّ) ولكن في الجمل التالية، فزعتُ مما ذكره حتى لو كان ادعاء. قال حينما قامت الثورة ذهبنا من بيت إلى بيت، وألقيت القبض على فلان وفلان، وعدّد أسماء أشخاص، من بينهم أصدقاء أثيرون لدي. قال اعترفوا جميعاً، ولكننا كويناهم بالنار أحرقنا جلودهم، وقد أحرقت بيدي هذه بطن فلان (سكرتير الحزب الشيوعي) إلى أن مات.

لم أحزن كما ينبغي، لقد وصل بي اليأس إلى درجة ميئوس منها، وكل شيء يحتمل وقوعه. ذكرت له الدم يورث الدم، لكن بغير هذا الكلمات، فصاح: خونة، يجب أن نطهّر العراق منهم. الطريقة التي قال بها خونة، والصمت الذي تبعها ونظرته التي ثقبتْ وجهي، عرفته أنه يعنيني كذلك، ولم تخفَّ توترات وجهه إلا بصيحة أمه: الله يفضحك.

توقف القطار عدّة مرات بين حلب وتركيا، وسمعنا إطلاقات نارية تشتد وتخفت. عرفنا أن قتالاً معتاداً يدور بين الشرطة والرعيان والمهربين على حدود البلدين، ولكن ما أن دخلنا حدود تركيا حتى وقف القطار وكأنه برك بلا أقدام.

صعد البوليس التركي. وجوههم لا تقبل المساومة.

 أطلّ ثلاثة شرطة على مقصورتنا وتفحصوا الوجوه. كنت أشعر بطمأنينة، لا لأنّهم تجاهلوني نهائياً؛ لكن عدم معرفتي بلغتهم أصبح حاجزاً أميناً بيننا.

أشاروا إليّ بالقيام، وانزلوني من القطار، وبعد دقائق انزلوا السوريين الثلاثة والشاب الأحدب. ذهبوا بالأربعة إلى مخفر الشرطة. بقيت واقفاً. انتابني شعور غريب حقاً وأنا بين القطار ومخفر الشرطة. مرة أخرى شعرت بأنني منقطع الجذور، وأن مصيري شيء لا يُؤبه به، شيء تافه ورخيص.

 مضى على وقوفي بين القطار والمخفر حوالي ربع ساعة، كان الجو بارداً إلى حدٍّ ما، لكن البرودة أخذت تزداد مع خوفي وانقطاع الأمل.

جاءني شرطي بابتسامة غليظة، يحملها بعنف تحت شاربين كثين بثخن إصبعين، قال أشياء تركية، وأشار لي بالصعود إلى القطار.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *