صالح رحيم | سعادات

 وكأن كل العالم جسدي، أخاف عليه أكثر من خوفي على نفسي، أشفق على كل المخلوقات، وعلى كل الأشياء، التي لا تأبه لواقع عذاباتها الأبدي، ثمة خوف يتسرب إلى روحي مع الهواء، دبابيس تنغرز في الجسد على شكل سعادات، ومسامير تعاملني كخشبة تنتمي لهذه الأرض، كل سعادة جديدة تحمل بين طياتها سمَّاً، وكل بهجة تحمل غموضاً يعيق رؤيتي لدربي، ما أجمل الحرمان وما أبهاه، إنني أشفق على الجميع لأنهم غير قادرين على أن يستمدوا من العذابات بهجتهم ومن الحرمان سعاداتهم.. ** في كل لحظة يلبس الكون ثوبا جديداً، وفي كل لحظة يبتكر اسمي سعادة ،الحياة زائفة إذا لازمت نمطاً واحداً، لا مثال لي سوى الكون، سأتبع خطاه، السعادة الواهية ليست سوى تعبير آخر عن الملل، سأكافح، فثمة جدار آيل للسقوط ينتظر مني مساعدة، وثمة حيوان مهدد بالانقراض تتوجب عليَّ حمايته، أن أضحي بسعاداتي من أجل سلطعون فهذا هو ديدن الكون.. ** ثمة أشياء تزدهر لأتفه سبب، وثمة أخرى تذبل وتموت لأتفه سبب أيضاً، مثلاً : كنت ماشياً ذات يوم في شارع من شوارع المدينة، فإذا بي أرى مشهدين: الأول هو غصنٌ أخضر يتدلى من عربة حمل، والثاني فتاة تدفن ابتسامتها بيديها خجلاً، بينما كنت أسير مستمتعا بهذين المشهدين ارتطم رأسي بسيارة واقفة، من دون أن أشعر بألم يذكر ، فصار ينزف، حتى سالت السعادتان مع الدم ! ** ثمة من يطعن السماء بالعتاب الآن، ويلعن الساعة التي كونته وأتت به جائعاً إلى هذه الحياة المتسلطة، ثمة جوع إلى معرفة أشياء غامضة، وهذا الجوع من أشد المراحل فتكاً تصيب روح الإنسان، يشعر الجائع هذا أن روحه ترتدي ثياباً ممزقة، وقصيرة، من أين يأتي بالثياب الجديدة؟ وأين يجد دكان ملابس الأرواح؟.. يستمر الجائع بطعن السماء بالعتاب، بينما تدوس على رأسه احلامه، أخيراً يقول الجائع قبل أن ينام: السعادة هي ألا يخاف المرء من تجربة الفناء، أن يعيش كما لو أنه يجرب في كل يوم نوعاً جديداً من الزوال، فهنا تكمن الأبدية، وهنا يستطيع المرء أن يتحول إلى شمس، وبمرور الوقت يصير منظومة، فالشمس مرت بسعادات قبل أن تكون، وكلما كان الإنسان سعيداً، ازداد شغفه بالملمات.. ** تهمشني الكائنات، وتسعى لإقصائي، أنا مُلغىً تماماً، وهذا يسعدني بالطبع، أصوّب نظري إلى فراشة تطير، وحمامة تبيض، وذبابة تحط في آخر لحظة من حياتها، ونخلة تزدهر في قلب الصحراء، فأقول: إنني أطل على الحقيقة من حتفها، أي بمعرفة ما تسعى إليه الأشياء، إذ ليس هناك ما يبرر لي أن الحقيقة خاضعة لزوال نفسها غير الوصول على حساب غيرها، الذي تسعى من خلاله الأشياء إلى إيجاد نفسها وتكوين صورة ثابتة لها في الكون.. ** من السعادة أن أعترف بأنني مبتهج، بمعرفة سرٍّ ما، أعرف أن الأسرار لا تعطي عن نفسها صورة كاملة، وأنْ دائماً ثمة اتفاقات مسبقة بين المعرفة والأشياء، مثلاً : قوة النظر التي يتمتع بها المرء لا ترى سوى جانب واحد، والعقل لا يرى سوى هذا الجانب، وإذا تجاوزه فإنه يسعى إلى الضياع، أعرف كل هذا، ولكن في الضياع تكمن بهجتي.. * كثيراً ما أنصح نفسي بأن تحصن جميع جهاتها في مواجهة الفرح، لا ينبغي أن تبتهج مثل الآخرين، لابد من توبيخ كل ما يدعوها إلى أن ترقص تعبيراً عن خلل يسمى سعادة، السعادة هي أن أختنق، أن أحافظ على سلامة الغبار في رئتي، أن أضحك على جثتي تتمزق بحضوري، ليست السعادة عندي كما يراها الآخرون، أبداً، هي تعبير آخر عن الضجر والمحنة، وترجمة فورية لفعل لا أخلاقي، وحركة لا إرادية للخوف، وأن أنصحني بشكل يومي بالوقوف أمام المرآة لأشاهد ثقوباً جديدة في جسدي تنز سعاداتٍ من دم.

شاعر من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *