الجِيُوپُوِيطِيقَا والجِيُو فَلْسَفَة

ترجمة عبد النور زياني

*كينيث وايت

**ترجمة عبد النور زياني

 

“ثمة فكرةٌ شائعةٌ مؤداها أنّه إذا أردنا “التفكير“، فعلينا أنْ نتّجه صوب الفلسفة، بحيث يكون الفيلسوف هو وحده المُمَثّل الرَّسمي للفِكر، بينما ينحصر الشِّعْرُ في الشّعور، الفنتازيا والْمُتَخَيَّل. إن التمسك بهذه الفكرة الشائعة هو ترجمة عملية لجهل تامٍّ ليس فقط بالعمل الشعري الذي تم إنجازه على مدى المائة عام الماضية أو نحو ذلك، ولكن أيضًا ببعض التطورات المبتكرة داخل الفلسفة نفسها.”

 

بدأ الأمر مع نيتشه الذي قال في لحظةٍ حاسمةٍ ما، إنَّه كان شاعرًا ( لم يكنْ لديه إعجابٌ كبيرٌ بالمفهوم التقليديّ للشّعِر، ولا بمعظم الشعراء). ليتمّ تطوير هذا الاتجاه من قِبَلِ هَايْدِگَر الذي اعتبر أنَّه إذا رغبنا في البدء بالتفكير حقًا، فمن الضروري أن “نخرج من الفلسفة”. هذا الذي فَضَّل الحوارَ مع شعراء كَهُولدَرلين أو رِيلْكِه، بدلًا من مُعاصريه من الفلاسفة. وللمضيّ قُدُمًا إلى الوراء إلى الماضي؛ فإن أكثر من فرنسي لديه معرفة بديكارت، “معرفةٌ مُقْتَصرةٌ على الديكارتيّة المدرسيّة”، سوف يُفاجَأ بلا شك عندما يسمع فيلسوفنا يقول: “تتم مصادفة الأفكار العميقة في كتابات الشُّعراء أكثر من أفكار الفلاسفة”.

 

الحقل الفلسفيالجِيُوپُوِيطِيقِي

لمْ أجد مطلقًا مفهوم “الجيو فلسفة” Geophilosophy الذي طرحه دولوز وفليكس گَطَاري، عام ١٩٩١ في كتابهما “ما هي الفلسفة؟” ?What is philosophy مثيرًا جدًا للاهتمام. أستخْدِمُ هنا عبارة “مثيرٌ للاهتمام” بالمعنى القوي عندما أقول إنني لا أجد الجيو فلسفة شيّقة جدًا، فهذا بالعلاقة مع ما يشغل ذهني أكثر، وما أعتبره ضروريًّا للغاية. فالكمُّ الكبيرُ لما يسمى بـ: “الفلسفة” و”الفن” و”الثقافة” لا يثير اهتمامي على الإطلاق. دعنا نقولها على هذا النحو: شعوري هو أن دولوز وگَطَاري وضعا “الجيو فلسفة” من أجل الحصول على موطئ قدمٍ في مجالٍ ناشئٍ، إن لم يكن بهدف احتلاله، ولكنني أجد أنّه من المهم التعليق عليه، وخاصة في السياق الذي تقع فيه الجِيُوپُوِيطِيقَا بالعلاقة مع “الجُغرافيات” الجديدة الأخرى.

 

تُشكّل فكرة الجيو فلسفة موضوعَ مقالٍ مكوّنٍ من 25 صفحة ضمن كتابٍ من حوالي 200 صفحة، حيث تتعلّق بشكلٍ رئيسٍ بثالوث: “المفهوم، الإدراك والانفعال”. باختصار، هي عمليّة تعريفٍ للفلسفة فيما يتعلّق بالفن والدّين.

في قراءتي للسّياق الجيو فلسفيّ، فإنّ العبارة الرّئيسة التي يدور حولها كلُّ شيء، هي: “كوننا نفتقر إلى خطّة حقيقية”. ولكن، في إطار خطابٍ فلسفيّ كامل، يمكن أن تمرّ دون أن يلاحظها أحد. بعد قرونٍ من الفِكر الغربيّ، ليس هناك نقصٌ في المفاهيم، ولكن “لا نعرف أين نَضَعُها”؛ لأنّنا “انْحرفنا عن المسار بسبب التعالي المسيحي.”

 

تمّ تخصيص الصفحات الأولى من المقالة لليونان القديمة كموقعٍ للفلسفة بامتياز. إذا كان الفلاسفة الأوائل أجانبَ من آسيا (كان هيراقليطس الأَفْسُسِي هو من ابتكر لفظ فِيلُوسُوفُوس= Philosophos )، مُبْعَدِين عن ما يستطيع دولوز وگَطَاري رؤيته فقط، مع بعض الاستثناءات النادرة جدًا، في الشكل الإمپِّريالي “للاستبداد الشرقيّ” (لاأحد يستطيع إنكار وجوده)، فقد كان أفلاطون هو من دشّن الفلسفة في بيئة يونانيّة أرستقراطيّة. وقد قيل وهناك ما يُبرر ذلك إنَّ الفلسفة منذ ذلك الحين ليست إلا مجرد هوامش وحَوَاشٍ للنص الأفلاطوني.

إن ما نفتقر إليه منذ أفلاطون هو شيء أساسي للغاية حسب نيتشه هو “تحليقٌ أسرع عبر فضاءاتٍ أكثر رحابة.”

بعد الوسط اليوناني، يستعرض دولوز وگَطَاري الأوساط الفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة. وإنْ كانا لم يهتما بإيطاليا وإسپانيا؛ فذلك لأنَّهما في نظرهما لمْ تقطعا علاقاتهما بعد مع الكاثوليكيّة. فرنسا بلدُ التأمُّل والتفكير، و”الفرنسيون يشبهون مُلّاك الأراضي الذين يغدو رَيْعُهُم هو الكوجيطو”. ألمانيا هي أرض المطلق المفقود، الذي يجب استعادته عن طريق الغزو. أمّا بالنسبة لإنجلترا، فهي “أرض مستنقعاتٍ متحركة”، فبدلًا من الفكر، لدى الإنجليز عادات، وبدلًا من المفاهيم لديهم اتّفاقيات.

كل هذا لا يخلو من الأهميّة، ويمكننا أن نُضاعف الدّراسات حول الأرض والشخصيّات. سنقوم كذلك بالجيو فلسفة، لكننا سنظلُّ في الوسط، لنْ نتعامل أبدًا مع السؤال الأساسي المتعلّق بِمُسَطَّحٍ محتمل لِلْمُحَايَثَة Immanence.

هذا هو السؤال الذي حاول دولوز وگَطَاري معالجته في كتابهما “ألفُ هضبة” عبر إجراء تحليلٍ للرأسماليّة، مما أدى في النهاية إلى تدمير الأوساط، واستكشاف السكيزوفرينيا، التي يُرَجَّح أن تفتح مساحة جديدة العقل.

لكن هذه الحركة المحمومة لآلة الحرب المفاهيميّة عبر آلاف الهضاب، حتى وإن كانت قد تمكّنت من التنقّل عبر ممراتٍ مثيرةٍ للاهتمام هنا وهناك، فهي لم تكن قادرةً أبدًا على الاقتراب من مسطحِ محايثة جديد.

تدل المراحل النهائيّة من الفكر (بما في ذلك الجيو فلسفة) لكل من دولوز وگَطَاري، بشكلٍ كبيرٍ على وجهة النظر هذه.

يمكننا أنْ نقرأ في الصفحات الأخيرة من مقال الجيو فلسفة، والذي كان مناورةً أكثر منه تقدمًا حقيقيًّا في الفكر، مايلي: “الفكر نفسه أحيانًا أقرب إلى الحيوان المُحْتَضر منه إلى الإنسان الحيّ”. والدعوة إلى “شكلٍ مستقبليّ للأشياء”، إلى “أرضٍ جديدةٍ وشعبٍ لم يوجدْ بعد”، إلى “دستورِ أرضٍ وشعبٍ مفقودَيْن، كعلاقة ارتباطٍ بالخلق” هو أمرٌ مثيرٌ للشفقة.

لدخول الأرض الجِيُوپُوِيطِيقِيَّة، بعد الأَلف هضبة وسقوطها المدوّي، أصعدُ الآن إلى هضبة إنگَادين Engadin، من أجل لقاءٍ آخر مع نيتشه.

تعرّفت على جيل دولوز في سياق نيتشوي. يَحضُرني هنا مقاله: “الفكر الرَّحَّالُ “، الذي نُشر ضمن وقائع مؤتمر “نيتشه اليوم؟” (باريس، ١٩٧٣)، حيث يمكننا أنْ نقرأ مايلي: “إنَّ الهدف من الماركسيّة والتحليل النفسيالبيروقراطيَّتينِ الأساسيَّتيْن لثقافتنا هو إعادة ترميز ما يتم فَكّ تشفيره في الأفق طوال الوقت. على العكس من ذلك، فإن قضيّة نيتشه ليست موجودةً على الإطلاق. مشكلته في مكانٍ آخر. بالمرور عبر جميع الرموز، رموز الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ما سيفعله هو أن يعطي معنًى لشيء لا يمكن ترميْزُه ولن يكون أبدًا؛ “هناك انجراف، حركة انجراف، دعنا نَقُل حركة تَرْحِيلٍ= Deterritorialisation .”، “أعرف أن ما أقوله مشوش بعض الشيء، إنه مجرد شعورٍ لدي، فرضيّة تتعلق بأصالة تلك النصوص النيتشويّة” ؛ “يؤسس نيتشه الفكر والكتابة في علاقة مباشرةٍ بالخارج. الآن، ربطُ الفكر بالخارج هو ما لم يفعله الفلاسفة على الإطلاق، حتى عندما تحدثوا عن السياسة، عن المشي أو عن الهواء النقي.”

هذا كلام موجَّهٌ إِلَيّ بشكلٍ مباشر.

في ذلك الوقت، كنت منشغلًا للغاية بمفاهيم مثل: “التِّرْحَال الفكري”، ونوع جديدٌ من الكتابة. وبصدد إعداد أطروحةٍ عن “الترحالِ الفكري”، وكتبٍ شعرية ونثرية أخرى.

كان من الواضح أننا تقاسمنا أرضًا معينة. لهذا السبب تمّت دعوة دولوز ليكون عضوًا في لجنة مناقشة أطروحتي، ووافقت على حضوره. وقد أوضَحْتُ ” دفاعي عن أطروحتي “وكذلك آثاره (العرض غير المباشر لعملي في كتاب “ألف هضبة” ) في كتابي: “حوار مع دولوز”.

من الممكن أنّه لو بقي دولوز على حالته “الأصليّة” (ما بَعدَ نيتشوي)، بدلًا من الانغماس في “الرأسمالية  والسكيزوفرينيا”، لكان قد طوّر مجالًا مختلفًا تمامًا. إنّ ما هو مؤكّد هو أنّه إذا ما اطّلعت على كل كتابات دولوز (وليس فقط على مقالة “الجيو فلسفة”)، فمن المُمكن أن ترى هنا وهناك عناصر قريبة من الجِيُوپُوِيطِيقِا: “إن الذات والموضوع يقدّمان مقاربةً سيّئة عن الفكر. ليس التفكير بخيطٍ مشدودٍ بين الذات والموضوع، ولا بثورةٍ لأحدهما على الآخر. يتم التفكير بالأحرى داخل علاقة الإقليم بالأرض” انطلاقًا من هذه العلاقة، تظهر  الجِيُوپُوِيطِيقِا ليس كـ “شعرٍ طبيعي” أو كإيكولوجيا شعريّة غامضة، كما يود ذلك البعض من أجل راحته العقلية، ولكنها تظهر كنوعٍ من التفكير، كطريقةٍ غير منهجية في الكتابة، كطريقةٍ للوجود في العالم، وكأساسٍ محتملٍ للثّقافة.

اسمح لي أن أُلخِّص ما سبق وأقول إن جغرافية الجيو فلسفة هي سِيكُو-سُوسْيو نسبيّة، في حين أن  الجِيُوپُوِيطِيقِا هي كُوزْمُوكَوْكَبِيَّة.

_______________________

(*) Kenneth White: Panorama géopoétique, entretiens de Kenneth White avec Régis Poulet. Éditions de la Revue des Ressources, collection « Carnets de la Grande ERRance », 2014

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *