أنوار في ليل كورونا ..من دفتر محجور ثقافي في باريس

بوعلام رمضاني

فيروس كورونا غامض، ويزرع الموت في زمن السلم بشكل غير مسبوق تاريخيا خلافا للانفلونزا الاسبانية التي عرفها القرن الماضي بين الحربين. الفيلسوف الكبير ادغار موران
 
يحدث أن يتمتع الإنسان في حياته المهنية بطرق لم تخطر على باله يوما ما، ويطلب المزيد منها مع مرور الأيام رغم الإجهاد الذي ينتج عن ممارسة ترتبط بالصحافة التي يقال إنها “مهنة المتاعب”. مهنة المتاعب، هي نفسها مهنة السعادة، في نظر الذي يؤمن أن الكتابة سعادة غير محدودة، تولد من رحم معاناة نفسية وذهنية وجسدية بحكم الجدلية التي تحدد العلاقة المتبادلة بن النفس والجسد، ولعل مقارنة سعادة الأم، وهي ترى رضيعها يخرج إلى النور بعد مخاض عسير، بسعادة الكاتب، وهو يرى منتوجه على الورق أو على شاشة الحاسوب، لا يمت بصلة للمبالغة والغلو في تقديري الشخصي. أقول هذا الكلام، لأن تجربتي في الكتابة الصحفية اكتست هذه المرة طابعا غر مسبوق، وأنا أرصد يوميا محجورا في بيتي ككل بشر المعمورة في عز كورونا كيفيات مقاومة تداعيات الوباء نفسيا بأدوية لا تنقذ المصاب بالفيروس من الموت في حال استفحال حالته، لكنها تنقذ السجين الحر نسبيا مقارنة بالسجين غير الحر تماما من الإنهيار النفسي والعصبي، وربما من الانتحار، إذا كان سجينا طاعنا يف السن، ووجد نفسه أسير عزلة قاتلة لا توفر الحد الأدنى من التواصل الاجتماعي الحتمي والضروري في حياة الإنسان السوي والسليم. تعبت كصحفي، وأجهدت نفسي ليل نهار على مدار عشرات الأيام والساعات، لكنني سعدت أيضا كصحفي وأنا أطارد وأرصد كل أنواع التعابير الثقافية التي أضحت حاجة حيوية لمواجهة فيروس لا يغزو الصدر والرئة فحسب، بل أيضا العقل والقلب كمصدرين لسلامة فكرية ونفسية ووجدانية. هذا الكتاب يعد منوذجا لمعايشة مثالية بن الشقاء والسعادة، وبين التعب والراحة، وبين التشاؤم والتفاؤل، وبين الألم والأمل، بين الخضوع والتحدي، وأخيرا بين الموت والحياة، والقبح والجمال في أبهى التجليات والحلل والتعابير الفكرية والفنية والثقافية البديعة. تجد عزيزي القارئ في هذا الكتاب كوكتيل نماذج كل المتناقضات المذكورة عبر مقالات نشرت بعضها في موقع “ضفة ثالثة” التابع لصحيفة العربي الجديد، وأخرى كتبتها خصيصا للكتاب الذي أضحى عبرة جديدة ومتجددة تثبت أن الثقافة حاجة ضرورية في زمن الشدة والفرج على السواء، ووحدها مدينة مثل باريس يمكن أن تحول الظلام إلى نور تأكيدا لصحة تاريخها الثقافي الكبير. لولا تواجدي في باريس، لما خرج هذا الكتاب الحافل بحقائق ومواقف وممارسات فنية وآراء فكرية وأدبية أعطت لزمن كورونا في العاصمة الفرنسية رمزية حضارية نحن في أمسّ الحاجة إليها كعرب ومسلمين تخلفوا بشكل تراجيدي في توفير واستثمار الثقافة للقضاء على فيروسات غرست الجهل والقبح والقحط الروحيين، ولزرع المعرفة والجمال والسعادة كما زرعها أبطال الثقافة في زمن كورونا بباريس العاصمة غير العادية كما يبين ذلك هذا الكتاب. بوعلام رمضاني
 
فيروس كورونا يحزن بولين حية ويسعد كامو ميتا كنت أتصيد مصابا بفيروس مهنتي وليس بفيروس كورونا الأخبار الجديدة التي تؤكد تأثر الفرنسيين ثقافيا بانتشار الوباء الزاحف، حينما وقع بصري على فيديو أبكاني، كما أبكى صاحبة مكتبة راحت تدعو أبناء وطنها إلى الاستمرار في شراء غذاء الروح، كما يفعلون مع غذاء الجسد، حتى لا يقتل فيروس كورونا المكتبات في سياق أصبح التزام المنازل قدر المستطاع أمرا واقعا تطبيقا لإجراءات الحكومة. ذرفت دمعا رغم أنفي، لأن الفيديو الذي أظهر صاحبة مكتبة تبكي بحرقة متناهية، لم يكن عاديا لما حمله من رسالة حضارية وسيكولوجية وأخلاقية واجتماعية، أضحت نادرة وشبه منعدمة في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية. لم تقتنع السيدة بولين فوييه صاحبة مكتبة “كتب وأنتم”، الواقعة في مدينة روفيك التابعة لإقليم شارنت ماريتيم (جنوب غرب فرنسا)، بأن بيع الكتب ليس تجارة ضرورية تدخل في خانة المعايير التي أتخذتها الحكومة الفرنسية لتبرير دعوتها إلى غلق المكتبات لمحاربة زحف وباء كورونا، ولأنها مواطنة متحضرة ومحترمة لقوانين بلدها، لم يكن أمامها غير خيار قبول الأمر الواقع والموت يعصف بالروح، كما يقول الفرنسيون في مثل هذه الحالات، دون أن يعني ذلك الاستسلام النهائي. عملا بدعوة هذه السيدة التي شككت في قدرة الدولة على مساعدة “تجار” الكتب والنشر، راح الكثير من أصحاب المكتبات يقاومون للإفلات من فيروس كورونا بشتى وأقصى الوسائل الممكنة، لتسويق وبيع الكتب في زمن تكنولوجي لم يتمكن من القضاء على مكانة الكتاب والقراءة بشكليهما التقليدي، رغم كل ما خلفه من آثار لا يختلف حولها إثنان. لأن الكتاب غذاء ضروري في حياة الأمم المتحضرة، ولأن أمام كل حالة استثنائية يجب التفكير في تنظيم استثنائي، وتلبية لنداء السيدة فوييه، راحت مكتبة “لا بلاس روند” الواقعة في مدينة ليل عاصمة الشمال الفرنسي، تتحدى فيروس كورونا في ظل عدم منع المواطنين من مغادرة بيوتهم بشكل كامل. وقامت هذه المكتبة حسب مجلة ” أكتوليتراتور” (أحداث الأدب) ببيع الكتب عن طريق أنترنت متحدية أمازون، وذلك بإيصال الكتب إلى البيوت كما تفعل محلات البيتزا في حال تعذر الذين لا يستطيعون العيش دون الكتب على التنقل لأسباب صحية أو لظروف خاصة أو خشية من الإصابة بالوباء تحت وطأة الهلع. وجاء في إعلان مكتبة “لابلاس روند”، أنها ستزود الزبائن الذين تواصلوا معها عبر تويتر وفيسبوك وإنستراغام بالكتب المطلوبة في عين المكان بسرعة فائقة ربحا للوقت في ظل ظروف استثنائية سواء جاءوا إلى المكتبة مشيا أو على متن الدراجات أو السيارات. مكتبة “رواق الكتاب” الواقعة في مدينة نانسي (شمال غرب فرنسا)، لبت هي الأخرى دعوة السيدة بولين التي فتحت الطريق بانتهاجها البيع الإلكتروني مثلها مثل شبكة لبيرست الباريسية للكتب. لأن مصائب قوم عند قوم فوائد، ولأن شر البلية ما يضحك، فإن المستفيد الأكبر من انتشار وباء كورونا هو الروائي الكبير ألبير كامو صاحب رواية “الطاعون” التي أصبحت ملجأ الملايين من الناس الذين راحوا يعيدون قراءتها، أو البحث عنها في أقرب وأبعد المكتبات لعلاج هلعهم عند البعض، والقيام بمقارنة بين “وباء الطاعون” كما جاء في رائعة إبن الجزائر الفرنسية، وبين وباء “كورونا” عند البعض الآخر، وربما لتباهي صنف ثالث بكاتبهم المفضل عبر العصور الأخيرة. ويجدر الذكر، أن كامو السعيد اليوم في قبره بوباء كورونا مثل مسؤولي دار غاليمار الحية الشهيرة، قد كتب روايته “الطاعون” عام 1947 بعد تصوره شخصية الدكتور ريو الذي وقع بصره على فأر ميت عند مدخل البيت قبل أن يستمر مسلسل موت فئران أخرى، الأمر الذي فسر لاحقا انتشار الوباء في وهران. كامو الذي تمنى أن تقرأ روايته من منطلق عدة زوايا قصد بروايته مقاومة النازية حسب البعض، والإنكار أمام خطر داهم، وكيفيات التصرف أمام الشر والإلتزام كما جسده الدكتور ريو حسب آخرين. في كل الحالات، دخل كامو تاريخ الإبداع الروائي بأسلوبه المتفرد، وصنع الاختلاف والتميز بغض النظر عن موقفه من الثورة الجزائرية التي لم يكن يريد أن تنتهي كما قرر شهداؤها. لقد ترجمت “الطاعون” إلى عدة لغات عالمية، وتعد الثالثة في تاريخ الإصدارات الرائجة في تاريخ دار غاليمار بعد “الأمير الصغير” لسانت أكسبيري و”الغريب” لكامو أيضا. ليس الكاتب الشهير ألبير كامو الوحيد الذي سعد ولو ميتا برواج روايته “الطاعون” في فرنسا، وفي أنحاء أخرى من العالم، وسعد الأطفال والشبان الأحياء بـ “نعمة” فيروس كورونا، بعد أن غزا أولياؤهم المكتبات الباريسية قبل الشروع في تطبيق الحجر الصحي، وحسب مسؤولي بعض المكتبات، فإن بقاء العائلات في المنازل هو السبب الذي أدى إلى ارتفاع مبيعات كتب الأطفال والشباب بنسبة تتراوح بين 30 و40 في المائة. رفاييل ليوجييه: ذعر كورونا يشبه ذعرنا من وهم خطر الإسلاموية تتجاوز أهمية هذا الحديث، الذي أدلى به الفيلسوف والباحث السياسي والاجتماعي رفاييل ليوجييه لـ “ضفة ثالثة”، بكثير الإثارة الصحافية التي تفرض نفسها على القنوات التلفزيونية تحت وطأة فيروس كورونا المستمر بتداعياته الكارثية على كافة الأصعدة. فليوجييه، المعروف بتحديه لكل تجار التخويف باسم “الإرهاب الإسلامي دون غيره من أنواع الإرهاب”، كان ولا يزال حتى ساعة تحرير هذا الحديث، الكاتب الأول الذي أصيب بكورونا في فرنسا وربما في العالم رفقة عائلته المكونة من زوجته الطبيبة ومن خمسة أبناء كلهم يخضعون لهشاشة الإنسان من خلال الحجر الصحي تطبيقا لفلسفة المفكر الكبير باسكال على حد تعبيره. و”ضفة ثالثة”، التي تنفرد بهذا الحديث عربيا وفرنسيا وعالميا، حاورت ليوجييه هاتفيا ظهر يوم الخميس من منظور فكري سريع وعميق في الوقت نفسه، لكن بطريقة تصب في صلب المقاربة الفلسفية الواجب انتهاجها حيال كورونا، باعتبارها تحديا وجوديا جديدا. الحديث كان فرصة عملية كي نعود معه إلى قناعاته الخاصة بصراعه الفكري مع نخبة فرنسية تسيطر على المشهد الإعلامي الفرنسي، وترى “أنه متواطئ مع الإسلاميين المتطرفين”، على حد تعبير كارولين فوريست التي ليست لها علاقة بالفكر في نظره. هنا نص الحديث: (*) بداية، هل من جديد تضيفونه بعد حديثكم لقناة “فرانس أنفو” عن إصابتكم كأول كاتب في فرنسا وفي العالم بكورونا؟ أولا لا أعرف إن كنت الأول أو الثاني الذي أصيب بكورونا. (*) لا لا… (بعد مقاطعة إجبارية مؤدبة).. إلى حد الآن، تعتبرون الأول في نظري أنا المتابع للأخبار ليل نهار. رد ضاحكا: “أوكي.. أوكي، أنا لا أتابع مثلكم بحكم مهنتكم”، قبل أن يضيف: لم أكن على علم بإصابتي بحكم غياب علامات المرض، خلافا لفلورنس أم أطفالي الطبيبة التي تعمل مديرة مستشفى جنوب شرقي فرنسا، ولا شك أنها أصيبت بالفيروس في بداية الشهر الجاري خلال زيارتها للولايات المتحدة في إطار مهني. خضعت فلورنس بعد عودتها لعلاج، وتحسنت حالتها في بداية الأمر بفضل دواء “كلوروكوفين” قبل أن تتبين عدم فعاليته لاحقا. في هذه اللحظة التي أتحدث فيها إليكم، يمكن القول إن حقيقة إصابتي، وإصابة زوجتي، وثلاثة من أبنائي الخمسة، قد أصبحت من الماضي، ونحن نخضع للحجر الصحي ككل الفرنسيين في بيت واسع لحسن الحظ. (*) الحمد لله.. فعلا الحمد لله كما تقولون. (*) نتجاوز الجانب الشخصي الذي كان ضروريا إعلاميا ومنهجيا، وأسألكم: كيف بقيتم تقومون بعملكم كمفكر، وهل يمكن الحديث عن تغيير ما أملته كورونا؟ لا.. لأنني بقيت أكتب، واقرأ كالعادة لكن بإيقاع أقوى، ونعم، لأنني أصبحت أفكر في كيفية مقاربة الكارثة فلسفيا كما يقتضيه الظرف، لكن من منطلق يفرض عدم التسرع كما تعرفون. (*) ماذا كنتم تكتبون، حينما سقط عليكم وباء كورونا كالصاعقة، وهل من سبق يمكن لكم تزويدنا به في شكل مساهمات ونشاطات فكرية وعناوين كتب؟ بكل سرور.. كنت أشتغل على بحث حول الهويات الشاملة للمشاركة به في تظاهرة كان يفترض أن تنظم في مرسيليا هذا الشهر. في الوقت نفسه، كنت أعمل على إنهاء كتاب بعنوان “بعد الإنسان” يعالج إشكالات وتداعيات الروبوتية. (*) هل راح هو الآخر ضحية كورونا، وتأجل نشره حتى تاريخ غير معلوم؟ يجدر لفت انتباه قراء موقعكم أن الكتاب ضخم، وأشتغل عليه منذ عدة أعوام، وعدت إليه مؤخرا بعد أن تركته لمدة جانبا. بصراحة، لا أعرف متى سينشر في ظل الظروف الصعبة وغير المسبوقة التي يمر بها قطاع النشر والكتاب بوجه عام، ويكمن القول إن إمكانية النشر تتأرجح بين داري “ساي” و”لا ديكوفرت”.
 
الكتاب كسلاح ودواء وصديق في زمن كورونا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي نعى مؤخرا الكاتب الصحافي الكبير جان دانيال بخطاب ينم عن روح قارئ نهم، كما مرّ معنا في مقال سابق هنا، لم يتوجه للشعب الفرنسي يوم السادس عشر من شهر مارس/آذار بخطاب سياسي خالص للتحذير من خطورة تداعيات وباء كورونا فحسب، بل دعا شعبه إلى القراءة، في سياق الإعلان عن إجراءات الحجر الصحي المستمرة حتى ساعة كتابة هذا المقال. وقبل معظم الفرنسيين بكافة فئاتهم الإجتماعية وأطيافهم الأيديولوجية دعوة الرئيس، بمن فيهم الذين يتمنون أن ينهزم سياسيا في الاستحقاق الرئاسي القادم، والتقطوا نداءه كأمر في زمن حرب ترعب الناس بشكل غير مسبوق. هنا إطلالة على خيرة ما قيل ويقال عن الكتاب، كحاجة ضرورية للإنسان السوي والمتوازن في كل الحالات، وخاصة في حال تحول العزلة إلى أمر واقع يهزم الجميع سواء كانوا حكاما جبابرة أو ديمقراطيين، محكومين ميسورين ومخمليين أو كادحين مسحوقين، كما يبين كورونا في هذه الأيام العصيبة الشبيهة بالآخرة التي لا ينفع فيها مال ولا بنون. شخصيا لم أفاجأ بالسبق الذي حققه أحد أهم عشاق الكتاب في فرنسا وفي العالم، وكنت أنتظر ردة فعل العضو في الأكاديمية الفرنسية، والصحافي الشهير الذي كان يقرأ ويكتب ليل نهار مدة عشرين عاما لإعداد برنامجه الشهير “أبوستروف”. إنه برنار بيفو الذي حاور كبار الكتاب فرنسيا وعالميا، كان أول من سعد بدعوة الرئيس الفرنسي في عز استفحال وباء كورونا، وراح يغرد كاتبا: “آه، كم كنا نتمنى أن نسمع بأن الحجر الصحي المفروض بسبب كورونا، قد دفع المواطنين إلى غزو المكتبات لضمان مؤونة روحية لمدة طويلة”. بيفو، الذي يعيش في مجتمع يستقبل الملايين من القراء سنويا بمناسبة صالون باريس للكتاب، كتب بصيغة توحي بأن أبناء وطنه قد تراجعوا في مطاردة الكتب، كما يطاردها هو المفتون والمجنون بالكتاب على مدار الساعات والأيام والأعوام والفصول. الرجل الفذ الذي حبب الناس في القراءة لعقود، يعود اليوم بقوة إلى واجهة الحدث الذي جعل منه نموذجا يحتذى به في ظرف أصبح فيه الكتاب منقذا لبشرية متأزمة روحيا ونفسيا، ومسجونة بدنيا بين جدران لا تطاق مهما ارتقت جمالية وأريحية وفخامة القصور أو الشقق التي تشيدها. فتح بيفو بتغريدته المذكورة شهية كتاب آخرين، وتبعه الروائي دافيد فوينكوس، الذي ثمن دعوة رئيس الجمهورية الفرنسيين إلى القراءة مغردا: “في قلب خطاب رئيس الجمهورية، كانت هناك قوة خاصة لخصها قوله: عليكم بالقراءة”. من جهته، صرح الروائي دانيال بيناك لقناة “فرانس أنتير” أن القراءة تنجي المسجونين والمعتقلين من الانهيار النفسي ضاربا المثل بالصحافي جان بول كوفمان، الذي أنقذ عقله على حد تعبيره بإعادة قراءة الجزء الثاني من “الحرب والسلام” للكاتب الروسي الشهير تولستوي، والقراءة نفسها أنقذت الكاتب الروسي الكبير الآخر سولجنتسين، صاحب رائعة “أرخبيل غولاغ”، من فقدان صوابه. وإذا كان الحجر الصحي في البيوت، كاعتقال جزئي ومؤقت وإجباري في الوقت نفسه، لا يقارن مبدئيا بالسجن من منطلق الحرية الكبيرة التي يتمتع بها الإنسان، فإنه يؤثر نفسيا تحت وطأة الغلق المستمر والانقطاع عن العالم الخارجي: “والأدب وحده كفيل بإخراج القارىء المحجور إلى عوالم أخرى تشعره بالسعة والانفتاح، وبالتالي تمكنه من تجاوز العزلة والانغلاق، ويضمن التواصل الإنساني عبر القراءة” كما سيتبين ذلك من خلال شخصيات تاريخية وإبداعية أخرى. قبل عقود عدة، أكد كبار الإبداع أهمية القراءة، باعتبارها حاجة إنسانية أزلية وأبدية، والرئيس الفرنسي ماكرون، والكتاب الذين يدعون اليوم إلى اللجوء للقراءة في زمن الحجر الصحي، يكررون مقولات من سبقهم إلى تذوق نكهتها الخارقة والاستثنائية، وقدرتها على قتل فيروس العزلة، وعلى كسر الحصار النفسي والعصبي على الإنسان المسجون أو المحجور. فصاحب “الأمير” مكيافيلي سبق هؤلاء الذين ذكرناهم، وأشاد بالقراءة، بقوله إنها “رياضة للعقل، كما هو التمرين العضلي للجسم، ومحفزة للمخ ومعادية للكسل”. وبروست العظيم صاحب رائعة “البحث عن الزمن المفقود”، قال: “القراءة صداقة حقيقية”. وأما يوجين يونسكو فقال: “كتاب جيد هو صديق جيد”. مئات وآلاف الروايات العالمية وغير العالمية، تنطق حتى هذه الساعة بشخصيات بديعة ومبهرة وآسرة، ووحده الذي يريد القنوط والعزلة والإرهاق النفسي، يرفض صداقات رجال ونساء دخلوا التاريخ بتجسيدهم التواصل الإنساني المنافي لكل أنواع التباعد الاجتماعي. والطبيب “ريو” بطل رواية “الطاعون” لألبير كامو الروائي الكبير الآخر دليل على صحة ما نقول، ورواجها هذه الأيام عالميا عبرة لمن يعتبر. في هذه الأيام التي أكد فيها خبراء الأمراض النفسية والعقلية خطورة انعكاسات العزل الاجتماعي على صحة الإنسان بسبب إجراءات الحجر الصحي، يضحي الكتاب بشكله الورقي التقليدي أو الحديث الرقمي، الوسيلة الأنجع والأقوى والأدوم لمحاربة الإرهاق النفسي الذي يطال كل الناس مهما بذلوا من مجهودات وقاموا بأشغال ونشاطات مختلفة تساعد كثيرا على تمضية الوقت. وحسب موقع ” أكتوليتي” (الأحداث الأدبية)، فإن الكتاب يكتسي أهمية علاجية خاصة في الظروف العصيبة غير المسبوقة مثل ظرف وباء كورونا الذي يثير الهلع، ويفسد ويعكر المزاج، ويتسبب في التشتت الذهني وفي الأرق. واستند الموقع الشهير، في تأكيد ما راح إليه، إلى دراسة قام بها عام 2013 المحللان النفسيان دافيد كومير كيد وإيمانويال كاستانو في المعهد الجديد للبحث الاجتماعي، وخلص الاثنان إلى أن قراءة كل أنواع الكتابات الخيالية، تمكن القراء من معايشة حالات اجتماعية ونفسية غير مسبوقة، من خلال الدخول في سياقات عوالم معقدة، ومجهولة تسمح بمعانقة حقائق وجودية جديدة. الموقع الفرنسي المذكور نفسه عمق قناعته بأثر الرواية الإيجابي على القراء استنادا لدراسة أميركية أخرى أقدم من الأولى. وكشفت الدراسة، التي نشرتها جامعة بوفالو في الولايات المتحدة عام 2011، أن قراءة الكتب تسمح بالانغماس والغطس في عوالم خيالية تؤسس لعلاقات اجتماعية جديدة تتجاوز ما كان يربط القارىء اجتماعيا ونفسيا وواقعيا في كنف هدوء يريح الخاطر ولو لفترات عابرة. في المحصلة، يمكن القول إن القراءة تعوض التباعد الاجتماعي الذي تفرضه حياة العزلة المفروضة على الجميع لاتقاء شر فيروس وباء كورونا ولعدم نقله لآخرين، وعالم القراءة وحده يمكن المحجور الصحي من ربط علاقات اجتماعية وعاطفية مع كتاب وشخصيات يتحولون إلى رفقاء وإلى أصدقاء جدد يساهمون في الحد من الكبت الناتج عن ظرف قاهر يحول دون لقاء الأهل والأقارب والأحباب بلحمهم وجلدهم ودمهم. في اللحظة التي كنت أنهي فيها هذا المقال عملت آن إيدالغو، العمدة الاشتراكية لبلدية باريس، بمقولات بروست ومكيافيلي وبنتائج الباحثين الأميركيين، وأسعدت برنار بيفو (84 عاما) العضو في لجنة جائزة غونكور، وذلك بوضعها 20 ألف رواية رقمية في موقع البلدية بهدف تمكين الباريسيين من قراءتها مجاناً حتى غاية نهاية شهر حزيران/يونيو. وأعلنت البلدية، التي ترأسها الراحل جاك شيراك قبل أن يصبح رئيس جمهورية، عن تبنيها حرب فرنسا ضد كورونا بسلاح الكتاب، عبر بيان كتبه كريستوف جيرار، النائب المكلف بالثقافة. وكتب المسؤول: “ستسمح الكتب التي تشكل نسبة معينة من المكتبات التابعة للبلدية لسكان باريس بالقراءة مجاناً في هذا الظرف العصيب الذي نحتاج فيه إلى الثقافة باعتبارها قوام صحة ذهنية سليمة”. وحسب قناة “بي أف تي في”، فإن سكان باريس “سيتمكنون في أثناء عطلة الربيع من السفر عبر عوالم آلاف الكتب الروائية والأخرى الخاصة بالأشرطة المرسومة”. وموقع بلدية باريس الرقمي، سوف لن يمكن من قراءة الكتب بمعدل 6 شهريا فحسب، بل سيسمح كذلك بتعلم السياقة وبتلقي دروس الدعم المدرسي، فضلاً عن الاستمتاع بمعارض البيت الأوروبي للتصوير والاستفادة من أرشيف مجمع الصور وحفلات أوركسترا باريس.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *