جبلٌ يَدنو مِنّي بِجَسارة
لؤي الجواري
العينُ تَفْقأُ النجومَ بوميضٍ شاحب. لها نظراتٌ غاربةٌ وشُهُب. بينما الاقمارُ البذيئةُ تُطِل عليَّ مُضَمَّخةً بالظُّلْمةِ ونِميمةٍ نورانية .
الكوكبُ، الذي أسكنهُ في عزلة، يَنْسَرِبُ مُتَدثِّراً بالسَّحاب، هائماً. يرتجفُ مِن فرط رعونةِ الهُيولى. فَلَوْلا فزعي البدائي، عندما استشعرتُ أولَ مرةٍ الصَّقيعَ وهو يجرسُ على شُعَيْراتِ الجلدِ المرعوبة، ولولا حِرصي على مراقبةِ المُتلاشياتِ ومُعايَنةِ وتيرةِ تعاظُمِها لَمَا اسْتَكْمَلَ الكوكبُ دَورتهُ الفلكيةَ الرتيبة.
كنتُ أمشي بمحاذاة شاطئٍ عظيم. في يومٍ كوكبيٍ تَصْحَبُهُ شموسٌ مهيبةٌ ومُبهرة. رغم أنَّ البحر، الأُقيانوسيِّ الرَّغبة، كان مستلقياً جَنْبَ الشّاطئ، هادئاً ووديعاً، مُمَدَّداً بسيقانٍ فارهةٍ، ناشراً لَحمهُ اللاّزوردي. إلّا أنَّ شرارةَ الغدرِ كانت على بُعدِ أمتارٍ فقط، متربصةً بين لُجَجِ الموجِ وبين دمعةِ الغرقِ المَمْزوجةِ بالملحِ والفجيعةِ .
قردةٌ جالسونَ، ينظرونَ لي ثم يُقهقهون. حركاتٌ تصدرُ مِنّي، حركةٌ تلو حركة .
لا أقْوَى على المشْيِ على أربع..
ليتكُم تضعونَ عُيونَكُم في درجٍ أُقْفِلَ بإِحْكامٍ، بِمَأْمَنٍ مِن الضّوء. الخديعةُ؛ بالوعةُ قاذوراتٍ ظلَّتْ تتكدسُ في واضحةِ النَّهار وأنتم تنتظرونَ ساعةَ التَّمزُّقِ العظيم…
أهذا بهاءُ النّور؟
أمْ ماذا؟
قلتُ : لُغتي تشْتغِلُ برشاقةِ مِشْذابٍ.
انا لسْتُ هنا مِن أَجْلِ وَضعِ أَقانيمَ مُفصَّلةٍ .
بما أَنَّني كنتُ سأَحتاجُ إلى عيْنينِ اثْنَتيْنِ حتّى أَرى بِهِما جيداً وليس فقط إلى عينٍ واحدةٍ ، فسأَعْمِدُ إذن إلى ساقيَّ كيْ أُهَروِلَ .
هناك جبلٌ يَدنو مِنّي بِجَسارة، يحملُ بين ظُهرانيه ليلاً بهيماً، تتسربلُ بهِ وحوشٌ وكذلك عِظامي التي أضْحَتْ نَخِرةً. أَنْحَني بشبقٍ نحوَ ثمرةٍ برّاقةٍ، خرجتْ لِتُوِّها مِن رأسي لتجلسَ جَنْب أوراقٍ ورياح .
قلتُ : مهلاً أيها الجبلُ، اِبْتَعِدْ! ، أفكاري رَخْوةٌ وتستعذبُ الانْزِلاقَ مِراراً على نفْسِ العَصَبِ المُثار.
لا نشيدَ لي عندَكَ أيها الحجرُ المُكَوَّمُ ! العواصفُ تَمُرُّ بِجانبي ويَفْضَحُني فيكَ خمولُ الطَّبيعة . لَمْ تُلوِّثْكَ رقصةُ العصَبِ ولَمْ تَبْرحْ فكرةَ الصَّلْصال. تُلامِسُني ريحٌ أَفْشَتْ لي أَسْرار الغدِ و لمْ أَعُدْ أَسْتَحْمِلُ يُبوسَ نظْرتك .
أيَّتُها الطبيعةُ، يا خلجاتِ قلبٍ ظامئٍ ، أَحْتارُ أَيَّتُها الطبيعةُ ! تمرُّ شموسٌ برُفْقةِ أقمارٍ، تبكي رياحٌ وأَحُكُّ جِلدي فيزدادُ صلابةً !
أَيَّتُها الطبيعةُ، تراتيلُ الزَّوالِ تَستشْرِسُ في أَشدِّ الذَّرّاتِ مكراً وتتَّكِئُ على عَمودي الفِقريِّ لِتَسرِقَ مِنهُ نسغَ الْجيناتِ، فأَتَقوَّسُ مِن فرط جفافِ العِظام.
أيَّتُها الطبيعةُ ليس ثَمَّةَ غناءٌ سرمدي، بلْ بلاهةُ حجَر.
- شاعر من المغرب يقيم في إسبانيا
اللوحة للرسام الإسباني فرانسيسكو غويا